إعداد: شهد مصطفى وآلاء حسن

«لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية ضد الفتاة أميرة أحمد عبد الله مرزوق (فتاة العياط) لعدم الجناية، لوجودها في حالة دفاع شرعي عن عرضها، بعدما طعنت سائقًا حاول الاعتداء عليها.»

«تولّت النيابة العامة التحقيقات، وسألت والدي الطفلة المجني عليها فشهدا بما روته لهما ابنتهما؛ إذ جاءتهما مصابة بمنطقة عفتها وأخبرتهما أنها بعد دخولها دورة المياه بمنطقة الألعاب المذكورة تعدى المتهم على موطن عفتها بيده.»

«أمرت النيابة العامة بحبس مُتهمٍ أربعة أيام احتياطيًّا على ذمة التحقيقات، لاتهامه بخطف طفلة -تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا- بالإكراه، ومواقعتها بغير رضائها، بمركز أشمون بالمنوفية.»

هذه العبارات وردت في بيانات مختلفة صدرت عن النيابة العامة في مصر خلال العامين الأخيرين، إما لتوثيق سير تحقيقات وإما لإعلان قرار نهائي بشأن قضية ما، وتتبدى فيها ألفاظ وأوصاف تكشف عن غياب للحساسية الجندرية وتوحّلٍ بالفرضيات والقناعات الذكورية؛ فالعبارة الأولى تصف الفتاة التي قاومت من حاول اغتصابها وقتلته دفاعًا عن نفسها، بأنها كانت في حالة دفاع عن «العرض»، وهو التوصيف الذي يكرس للفكر والثقافة الاجتماعيين الذين يوازي فيهما جسد المرأة شرف وعرض الرجل والعائلة المقدسين والواجب حمايتهما بأي ثمن.

في الاتجاه ذاته تسير الجملة الثانية، فيحل اصطلاح «منطقة العفة» محل المهبل، أحد الأعضاء الجنسية للأنثى، ويظهر تعبير ضبابي مثل «تعدى المتهم على موطن عفتها بيده»، بدلًا من تسمّية الجريمة باسمها وهو اغتصاب باليد أو الأصابع.

تجنّب نعت جريمة الاغتصاب باسمها يتكرر في الجملة الثالثة التي استعاضت عن هذه التسمية بمصطلح «المواقعة بغير رضا»، الذي تعتمده التشريعات المصرية لوصف جريمة الاغتصاب، رغم أن المواقعة أي المعاشرة توحي بأن العلاقة الجنسية تقع بين طرفين متكافئين، وهو أمر غير متحقق في حالات الاغتصاب، لا سيما في الحالة المتناولة في البيان الوارد به هذه الجملة، والخاصة بخطف رجل لطفلة واغتصابها، فضلًا عن أن انعدام الرضا المشار إليه هو تعبير مطاطي ومخادع، إذ أن الاستدلال على عدم الرضا عن العلاقة الجنسية في الفلسفة الذكورية يكون بعلامات ظاهرة وملموسة، كالمقاومة الجسدية العنيفة، والصراخ، ووجود آثار اعتداء أو جروح على جسم الأنثى، كما أن اعتبار ما تعرضت له الطفلة مواقعة بغير رضا هو افتراض بأن الأطفال والطفلات قادرين على اتخاذ قرارات بالموافقة أو الرفض الواعيين إزاء الممارسات الجنسية.

الصياغة اللغوية لهذه الجمل المختارة بشكل عشوائي، من بيانات صادرة عن النيابة العامة في مصر، هي تَمثُّل للنسق الحاكم في لغة القضاء ولغة نص القانون الذي ينطلي بمنطق ذكوري. لكن السلطة القضائية في مصر لا تتفرد دون غيرها في العالم بهذا النمط، الذي لا يمكن الجزم بأن الاعتماد عليه يكون عن وعي تام في كل الأوقات بما له من دورٍ في تعضيد الأحكام المسبقة حول النساء وأجسامهن، أو التصورات النمطية عن أفعالهنّ وردود أفعالهنّ، إذ تثبت أبحاث ودراسات أن معظم الأفراد – حتى إذا كانوا يعتقدون أنهم غير متحيزين- يحملون بعض التحيزات اللاواعية التي ترتكز إلى صور نمطية، ومنها على سبيل المثال دراسة «التنميط الضمني بين الجنسين في أحكام الشهرة» التي تكشف نتائجها عن تغلغل التحيز الجنسي اللاواعي في المجتمعات، إذ يتخذ الأفراد كثيرًا من المواقف المتحيزة على أساس الجنس، أو تصدر عنهم عبارات متحيزة من دون وعي منهم بأنهم يفعلون ذلك نتيجة انحيازٍ مسبق أو بسبب التأثر بمعتقد شائع.

الفكرة ذاتها خلُصَت إليها الباحثة إرين عطا الله، في ورقتها الأكاديمية الصادرة بعنوان «العدالة الجزئية: كيف يعيق التحيز اللاواعي النظام القانوني»، التي تشير فيها إلى أن 80 في المئة من عمليات التفكير تتم دون وعي، وهذه الطريقة تؤثر على جزء كبير من تصرفات الأشخاص واستجاباتهم، ولذا فمن الممكن – وفقًا للباحثة – أن يتفاعل الأشخاص التقدميون، الاجتماعيون، الذين يقاومون التحيز في العالم، بطرق يغذيها تحيز لاواعي على أساس العرق أو الجنس أو أي هوية أخرى.

البحث يثبت ارتباطًا بين التحيز الجندري والأحكام القضائية

تنسحب حقيقة تبني الأفراد لتحيزات جندرية سواء واعية أو غير واعية وضمنية على القضاة، ولذلك فقد يستسيغ بعضهم ألفاظًا ومصطلحات تمييزية أو يجنحون إلى اتخاذ قرارات تتكأ على فرضيات ذكورية بحتة، وهذا ما رصدت ووثقت حدوثه هيئة الدفاع العام في الأرجنتين (إحدى هيئات منظومة العدل الوطنية والاتحادية بالدولة)، من خلال تقرير نشرته في العام 2010، بعنوان «التمييز بين الجنسين في القرارات القضائية: العدالة الجنائية والعنف الجندري»، وقد حمل التقرير في طياته عرضًا موسعًا للتصورات والأفكار النمطية المتحيزة ضد النساء، التي تبيَّن أنه قد سبق الاعتماد عليها في المحاكم الأرجنتينية عند البت في كثير من القضايا المتعلقة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي، فترتب على ذلك قرارات وأحكام تمييزية وغير منصفة.

في السياق نفسه، أجلت دراسة للبنك الدولي في العام 2022 أن القضاة في كينيا يظهرون تحيزًا على أساس الجنس والعرق تجاه أصحاب وصاحبات الدعاوى والمتهمات والمتهمين، وقد وثقت الدراسة من بين وقائع عديدة، استبعاد أحد القضاة تهمة الاعتداء الجنسي في واحدة من القضايا، بذريعة أن «الملابس الجريئة» التي ترتديها الناجية تتعارض مع طابعها الخجول، وهو القرار الذي يفصح عن قناعة لديه بأن الناجية مسؤولة عن الجريمة التي تعرضت لها، بسبب ملابسها وفقًا لتقديره «الشخصي»، بالإضافة إلى افتراضه أن مظهر النساء الخارجي يقترن بطريقة تحدث وتصرف معينة.

السبب الذي تعلل به القاضي في هذه الواقعة ليُسقِطَ تهمة الاعتداء الجنسي عن المعتدي، ليس سوى حكم مسبق بشأن النساء، لا دليل عليه إلا تصورات نابعة من معتقدات صاغتها وغرستها المنظومة الأبوية في العقليتين الفردية والجمعية، لتضع على كاهل المرأة مسؤولية ما يطالها من جرائم عنف جنسي بعد أن خرجت عن مظهر المرأة وسلوكها الضامنين لحمايتها وأمنها الشخصي، تبعًا للصورة المنحوتة في المخيلة الاجتماعية/الذكورية.

ما بعد إثبات وجود الأزمة: الهند تتخذ خطوة للأمام

أصدرت المحكمة العليا في الهند، أعلى محكمة في البلاد، قبل شهور قليلة كتيبًا يحدد مجموعة من الصور النمطية الشائعة عن النساء، والألفاظ المسيئة وغير الحساسة جندريًا، التي رصد فريق بحثي اعتياد المحاكم الهندية الاستناد إليها في إصدار قراراتها وأحكامها. وقد اشتمل الدليل على إرشادات للقاضيات/القضاة والقانونيين/القانونيات من شأنها أن تساعدهم على تجنب التأثر بالصور والقوالب النمطية الجندرية، ومقاومتها أثناء الفصل في القضايا، خاصةً تلك التي تتعلق بالعنف الجنسي على وجه الخصوص.

ويشدد رئيس المحكمة العليا في الهند، القاضي دانانجاياي تشاندراتشود، في مقدمة الدليل على أن العديد من الكلمات والعبارات التي يستعملها القضاة/القاضيات والمحامون/المحاميات في الخطاب القانوني تعكس أفكارًا ذات طابع أبوي، وحينما يعتمد عليها القضاة فإنها تفسد التطبيق الموضوعي والمحايد للقانون.

وكانت أكثر الصور والعبارات النمطية التي رصد فريق إعداد الدليل الإرشادي، شيوع استخدامها بين القضاة أثناء الاستجوابات والفصل في القضايا، هي: النساء عاطفيات وقلما يعتمدن على المنطق، والمرأة التي ترتدي ملابس لا تبدو تقليدية بالنسبة للمجتمع أو تشرب الكحول أو تدخن السجائر تفعل ذلك بسبب رغبتها في إقامة علاقات جنسية مع الرجال، ولذلك فإذا لمس رجل هذه المرأة من دون رضاها، تكون هي المخطئة.

يوثق الدليل كذلك الفصل في العديد من قضايا العنف الجنسي وفقًا للافتراض بأن النساء اللاتي يتعرضن للاعتداء الجنسي أو للاغتصاب لا بد أن يكن قد قابلن الاعتداء بمقاومة عنيفة، وإذا لم تظهر على أجسامهن أي إصابات كالجروح والخدوش وآثار الضرب، فإن ذلك ينفي وقوع أي شكل من أشكال الاعتداء الجنسي.

بحسب الدليل، فقد عزم العديد من القضاة على الحكم بانتفاء وقوع جريمة الاغتصاب، متعللين بأن الناجية سبق أن أقامت علاقات جنسية خارج إطار الزواج، مما يعتبر قرينة على انحلالها أخلاقيًا وكذبها بالنسبة لهم، إلا أن هذا الافتراض ما هو إلا أرجوفة ذكورية خالصة يستخدمها المجتمع الأبوي لمعاقبة النساء اللاتي جسرن على تجاوز سياج سيطرة الرجل والعائلة على أجسامهن وجنسانياتهن، واستطعن استعادة السيطرة عليها.

 يتوقف الدليل الصادر عن المحكمة العليا في الهند أمام قرار قضائي يكثر اتخاذه في قضايا الاغتصاب، وفي حقيقة الأمر ليست دولة الهند وحدها التي يلجأ فيها القضاة إلى قرار تخفيف العقوبة أو إسقاطها تمامًا عن المغتصب إذا ما قرر الزواج بالناجية ووافقت أسرتها، وغالبًا ما تكون هذه القرارات راشحة عن اعتقاد بأن تزويج الناجية من مغتصبها سيعيد إلى عائلتها «الشرف» المنتهك وسيحمي الناجية من الإقصاء الاجتماعي.

لكن في واقع الحال مثل هذه الأحكام تضر بالناجيات ولا تصب في صالحهن، لأن تزويج الناجية من مغتصبها يزيد من حدة الصدمة لديها، ويشجع المعتدين على ارتكاب مزيد من الجرائم، ويؤكد الدليل على ذلك باختتام توصيته للقضاة/القاضيات بعبارة «الزواج ليس علاجًا لعنف الاغتصاب، فالاغتصاب جريمة جنائية لا يمكن أن تسقط بالزواج.»

لا يتوقف الدليل على تحديد الافتراضات النمطية والتصورات المتحيزة ضد النساء فقط، إذ يخصص قسمًا للمصطلحات والأوصاف التمييزية والمتحيزة ضد النساء التي يستخدمها القضاة بشكل تلقائي أحيانًا ومتعمد في أحيان أخرى، وبمحاذاتها بدائل أكثر موضوعية وحساسية، ككلمة «العاملات في الجنس» كبديل لـ«العاهرات»، وكلمة «غير متزوجة» عوضًا عن مصطلح «عانس».

وفي القسم ذاته، يوجه الدليل القضاة/القاضيات والمحامين/المحاميات إلى تجنب استخدام العبارات الغامضة في توصيف جرائم العنف الجنسي مثل «لقد انتهكها» أو «تعرضت المرأة للانتهاك»، واستبدالها بجمل أكثر وضوحًا، تحدد ماهية الجريمة، إذا كانت تحرشًا جنسيًا، أو اعتداءً جنسيًا، أو جريمة اغتصاب.

«التنميط الجندري القضائي».. اعتراف دولي وتوصيات للتحرر منه

كثفت العديد من الهيئات والمؤسسات الدولية، وفي القلب منها الأمم المتحدة، خلال العقد الأخير جهودها لمواجهة التحيز الجندري لدى القضاة والمُحكّمين/المُحكّمات سواء كان ناجمًا عن إرادة واعية أو رواسب فكرية مترسخة في اللاوعي، لما لذلك من علاقة مباشرة بحرمان النساء من الوصول إلى العدالة القضائية، بل وإيقاع الظلم عليهن في بعض الأوقات، مما يصرف كثير من الناجيات والضحايا عن سلك المسلك القضائي، ويعطي فرصة للمعتدين للاستمرار في ممارسة جرائمهم في مأمن من العقاب الجنائي.

وفي هذا المنحى، تبنت اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة التابعة للأمم المتحدة في العام ٢٠١٧، توصية عامة برقم (٣٥) موجهة إلى الدول الأطراف باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)، التي يبلغ عددها حتى الآن 183 دولة؛ وتضع التوصية على هذه الدول التزامات في ثلاث اتجاهات (التشريعي، والقضائي، والتنفيذي)، كي تنجح في القضاء على العنف الموجه ضد النساء.

تطالب التوصية في البند رقم (٢٦) الدول بأن «تُلزم جميع الهيئات القضائية بالامتناع عن مباشرة أي عمل تمييزي، أو ممارسة تمييزية، أو عنف جندري ضد المرأة، بالتوازي مع التطبيق الدقيق لأحكام القانون الجنائي التي تعاقب على هذا النوع من العنف، والتأكد من أن جميع الإجراءات القانونية في القضايا المتعلقة بادعاءات العنف الجندري ضد المرأة هي محايدة ونزيهة، ولا تتأثر بالقوالب النمطية الجندرية أو التفسير التمييزي للأحكام القانونية بما في ذلك القانون الدولي.»

قبل ذلك بثلاث سنوات، أقرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان (OHCHR) بتجذر مشكلة التحيز الجندري في داخل أروقة المحاكم، لا سيما بين القضاة والمحكّمين، مشددةً على الحاجة إلى معالجة ما أسمته بـ«التنميط الجندري القضائي» لضمان وصول النساء إلى العدالة. وقد أصدرت حينئذٍ ورقة بحثية بعنوان «التخلص من التنميط القضائي: المساواة في الوصول إلى العدالة للنساء في قضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي»، بهدف رفع الوعي بالمشكلة، التي أثبت تفشيها تقرير عكف على إعداده قسم حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين في المفوضية.

وفي العام 2020، كشفت المفوضية عن إتاحة مادة تدريبية للقاضيات والقضاة على المستويين الوطني والإقليمي، من أجل تعزيز قدرتهم على تحديد القوالب النمطية الجندرية، والتغلب عليها إبان النظر في القضايا ذات الصلة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي، والحقوق الجنسية والإنجابية. وقد نظمت المفوضية -ارتكازًا على هذه المادة- ورشة تدريبية دولية لقاضيات وقضاة في مواقع عليا، تهدف إلى تعريفهم إلى القوالب النمطية الشائعة فيما يخص قضية العنف القائم على النوع، وتدريبهم على تعيينها وتلافيها وتحدّيها.

شملت المادة بعض التوصيات الصادرة عن مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين المعين من قبل مجلس حقوق الإنسان، ومن بينها: إدراج مفاهيم المساواة الجندرية، وحقوق النساء، بالإضافة إلى الصكوك الدولية ذات الصلة خاصةً اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) في دراسات القانون، وجعلها تدريبًا إلزاميًا على القضاة/القاضيات، والمدعين العامين/المدعيات العامات، والمحامين/المحاميات.

يوصي أيضًا مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين بضمان التنوع في داخل السلطات القضائية، من خلال تشجيع زيادة تمثيل النساء، والأقليات العرقية والجندرية لأن «التنوع من شأنه أن يجلب وجهاتَ نظرٍ أو اتجاهات مختلفة عند الفصل في القضايا بينما نكافح القوالب النمطية الجندرية، وهو ما سيفضي إلى تبني منظور أكثر حيادية وتوازنًا في المسائل المعروضة أمام المحاكم، وسيزيل الحواجز التي تمنع بعض القضاة من التعاطي مع بعض القضايا على نحو منصف وعادل.»