«في العمل، أعتقد أنني أمرح أحيانًا وألقي نكات اعتبرها مُضحِكة.. لا أقصد منها أي إساءة وأحاول فقط إضفاءَ بعض أجواءِ الفكاهة والتسلية إلى العمل الجاد للغاية. أدرك الآن أن تفاعلاتي ربما كانت غير حساسة أو شخصية جدًا، وبعض تعليقاتي – نظرًا لمنصبي – جعلت الآخرين يشعرون بأمور لم أقصدها أبدًا.»

هذا الإدعاء اتكأ عليه محافظ ولاية نيويورك الأمريكية السابق، أندرو كومو، ليبرأ نفسه من تهمة التحرش الجنسي التي وجهتها إليه موظفات سابقات في مكتبه وأثبتت التحقيقات صحتها، فاضطر على إثرها إلى الاستقالة من منصبه في صيف العام 2021.

أكانت حقًا مزحة؟

لقد لجأ المحافظ السابق لولاية نيويورك وأحد أبرز أعضاء الحزب الديمقراطي الأمريكي، إلى حيلة يعتمد عليها العديد من مرتكبي جرائم التحرش الجنسي، لا سيما التحرش اللفظي، في محاولة لإبعاد الاتهام عنهم أمام المجتمع، وتشكيك الناجيات في مشاعرهن ورؤيتهن للواقع، وكذلك التلاعب بهن نفسيًا، وكثيرًا ما تنجح هذه الحيل ويصبح المزاح مبررًا للتغاضي عن أفعالهم، خاصةً في ظل ثقافة اجتماعية تستحب للرجل أن يمزح ويمازح من حوله وتسوّغ له ترديد النكات التي تحمل طابعًا جنسيًا ساديًا يحتفي بفحولة الذكر وقدراته الجنسية من ناحية، ويتهكم على جنسانية المرأة أو يتخذ من الصور النمطية الشائعة عنها مرتكزًا لإثارة الضحك من ناحية أخرى.

علاوة على ذلك، فإن الرجل يبقى خفيف الظل في نظر المحيطين به حتى إذا كان مزاحه يتضمن شتائم جنسية ذكورية تشير إلى الأعضاء التناسلية والجنسية لإحدى قريبات الرجل/الرجال المستهدف/ين من الحديث بمفردات ترسخت في الموروث الثقافي كأوصاف مستقبحة. وقد تشتمل الشتائم على إشارات إلى ممارسة المرأة للجنس بألفاظ مثل (متــ…كة، بتتـ..ك) للتحقير منها أو ممن تصله/ا بها قرابة، استنادًا إلى رؤية ذكورية للعلاقة الجنسية، تكون المرأة فيها مفعولًا به وليست فاعلًا، والممارسة الجنسية أحادية الاتجاه وليست متبادلة، أما القضيب أو ممارسة الرجل للجنس فهما محل تفاخر وتباهٍ في إطار المزاح ذاته.

وتكشف دراسة أجراها باحثات وباحثون في جامعة غرناطة ونشرتها دورية «العنف ضد النساء- Violence Against Women» أن اعتياد ترديد المزحات والعبارات الساخرة ذات الدلالات الجنسية الذكورية أو النكات التي تعكس تحيزًا على أساس الجنس، يخلق بيئة يتفشى فيها  القبول المجتمعي إزاء التعبير عن التحيز ضد النساء، فضلًا عن أن الرجال يشعرون في هذا السياق بحرية أكبر في التعبير عن عدائهم تجاه النساء، متذرعين بأن ما يتفوهون به مجرد مزحـة.

يجادل هانتر كينكيد، أستاذ علم النفس بكلية هانتر بجامعة مدينة نيويورك العامة، بأن متغيرات الزمن الحديث أدت إلى تقليل أعداد الأشخاص الذين يريدون أن يطالهم تصنيف «التحيز على أساس الجنس»، ومن هنا يوفر المزاح فرصةً للتعبير عن التحيزات الجندرية بشكل ذكي ومضمر، فلا يشعر هؤلاء الأفراد أنهم يقولون شيئًا غير مقبول بالنسبة لقطاعات واسعة في مجتمعاتهم سواء الموجودة في الواقع الفعلي أو الافتراضي، وتصبح وقتئذٍ عبارات مثل «إنها مجرد مزحة» و«أنا فقط أمزح» غطاءً للإهانات المقصودة.

في واقع الحال هناك انكماش يمكن تلمسه في رقعة القبول الاجتماعي للتحيز الجندري المسجى بالدعابات اللفظية والضحكات في كثير من البلدان شمالًا وجنوبًا، في ضوء تزايد احتجاج النساء على المزحات المزعومة عبر المساحات المفتوحة على الفضاء الإلكتروني.

ولكن في الوقت ذاته، لا يزال كثيرون من حاملي التحيزات الجندرية يواجهون موجات هذا الاحتجاج الرامي إلى إنهاء التطبيع مع التحيز والعنف الموشحين بالفكاهة، باستدعاء الصور النمطية التي توسم النساء بالحساسية المفرطة وهستيرية ردود الأفعال، والصفات النمطية التي التصقت بمن يتبنين قناعات نسوية كالغضب والضجر الدائمين، وعدم استيعاب المزاح، والجدية المبالغ فيها.

المُزاح.. الميسوجينية.. الرجولة المهددة

النكات المتحيزة جندريًا قد لا تأتي فقط تجسيدًا لقناعات الفرد وإنما كاستجابة لمخاوفه، إذ توضح دراسة نشرتها دورية «أدوار الجنس – Sex Roles» بعنوان «استعادة الذكورة المهددة: جاذبية المزاح الجنسي والمعادي للمثليين»، أن الذكور يجنحون إلى التعبير عن استمتاعهم وتسليتهم بالنكات والسخرية المتحيزة جنسيًا والمعادية لأفراد مجتمع الميم-عين حينما يشعرون بأن رجولتهم في حالة تهديد، ظنًا منهم بأن ذلك سيؤكد ويعزز رجولتهم أمام أنفسهم والمجتمع.

يُعرَف الشعور بتهديد الرجولة باسم «منظور الرجولة غير المستقرة»، ويشير إلى أن الرجال يزدادون عدوانية عندما يتملكهم الخوف والقلق من التشكيك في رجولتهم، التي تحتاج إلى الإثبات والتأكيد يوميًا أمام المجتمع عن طريق الالتزام بالنمط الرجولي الراسخ في الوعي الجمعي.

وتبيّن الدراسة المنشورة في مجلة «أدوار الجنس- Sex Roles»» التي أجريت تجاربها على عينة من الرجال الأمريكيين ذوي الميول الغيرية، أن ثمة علاقة فريدة بين شعور الرجال بتهديد إزاء رجوليتهم والمتعة التي يشعرون بها تجاه النكات المعادية للنساء والأقليات الجندريـة، إذ لم يظهر في خلال التجارب استمتاعًا مماثلًا أو حتى بدرجة مقاربة بين هؤلاء الرجال تجاه النكات المحايدة أو تلك التي تعكس عداءً تجاه فئات أخرى كالمسلمات/ين على سبيل المثال، مما يؤكد أن النكات التي تحط من قدر النساء والمثليين، والتعليقات التي تتهكم على جنسانياتهن/م تمنحهم شعورًا بالنشوى والهيمنة يعيد إليهم الثقة في رجولتهم.

لا تأتي الميسوجينية المتدثرة بالدعابة والمزاح منطوقة أو مكتوبـة فقط، فقد اكتست العديد من الرسوم الساخرة (الكاريكاتير والقصص المصورة) منذ بداية القرن التاسع عشر بالعداء تجاه النساء المتمردات على القيود المفروضة عليهن باسم القيم والتقاليد، واللاتي كن في نظر القاعدة العريضة من المجتمع وقتها مصدر تهديد للهيمنة الرجولية؛ وقد جعل عشرات الرسامين من رسومهم الهزلية حاضنةً دافئة للخطاب المهين والمحرض ضد النساء المتمردات، وطوعوا إنتاجهم الفني في أوقات كثيرة للتهكم على الحركات النسوية، وإثارة النفور من المنخرطات فيها، وكذلك المؤيدات لمطالبها.

ويعد واحدًا من أبرز الرسامين الذين نهجوا هذا النهج، الفرنسي أونوريه دومييه، الذي ما برحت أوساط الثقافة الأوروبية تبالغ في تعظيمه رغم مناصرته ودعمه الصريحين للنظام الاجتماعي الأبوي قولًا ورسمًا على مدى مسيرته المهنية الممتدة من ١٨٣٠ حتى ١٨٧٠.

كان دومييه من أشد المعارضين لتمرد النساء على دورهن الإنجابي، معتبرًا أن الغرض منه هو إفساد المجتمع وهدم الأسرة، وقد جسد مخاوفه في رسوم لا تزال ذات صيت واسع حتى الآن مثل قصته المصوّرة «الجوارب الزرقاء- Les Bas Bleu» المنشورة في مجلة الشاريفاري (Le Charivari) في العام ١٨٤٤، وقد عمد فيها إلى تصوير المدافعات عن حق النساء في التعليم والعمل كنساء أنانيات يسعين إلى قلب الأدوار بين الجنسين، وكذلك قصته المصورة المعنونة بـ«المطلقات – Les divorceuses» التي نشرتها المجلة ذاتها في العام ١٨٤٨، وكان يسخر فيها من المدافعات عن حق المرأة في طلب الطلاق والحصول عليه، حيث كان الطلاق في ذلك الوقت من المحظورات ونادرًا ما يقع، خاصةً أن المحاكم الكنسية وحدها هي من كان يناط به استصدار قرارات الطلاق المقيدة بشروط لم يكن من السهل إثباتها. كما نشر دومييه قصة مصورة بعنوان «النساء الاشتراكيات – Les Femmes Socialistes» في العام ١٨٤٩، عبر فيها عن ازدرائه للنساء اللاتي رفضن ترك المجال السياسي مغلقًا على الرجال وقررن اقتحام باحاته.

في رسومه الهزلية كان دومييه يصور الناشطات النسويات والنساء اللاتي خرجن عن التوقعات الاجتماعية بأنهن دائمات التجهم والعبوس ويتصرفن بفظاظة وأنانية، وهي الصورة النمطيـة التي لا تزال تظهر في الرسوم الكاريكاتورية والأعمال الدرامية حتى وقتنا الحالي، ويستخدمها صنّاعها من أجل الشيء ذاته الذي كان دومييه والمتفقون معه يأملون فيه ويسعون إلى تحقيقه، وهو عزل النساء اللاتي يهددن السطوة الرجولية ويخرقن قواعد النظام الأبوي. لكن الاختلاف الأبرز بين الوقت الحالي وما مضى هو أن مساحات التعبير التي كانت حكرًا على الرجال باتت النساء ضليعات في التعامل معها، وقادرات على استخدام السخرية من خلالها كسلاح مضاد، ومن ثم صار المزاح والسخريـة من أدوات المقاومة النسويـة ذائعة الصدى والتي يصعب قمعها.