يلاحظ بعضنا عند استقلاله الطريق المؤدي إلى مطار القاهرة الدولي من الاتجاه القادم من منطقة التجمع الخامس، لافتات تحمل اسم «طريق لطفية النادي» وهو أحد الطرق المنشأة حديثًا. يوجد بالتأكيد بيننا من هم على علم بصاحبة هذا الاسم ولهذا بإمكانهم تفسير سبب تأدية إحدى وصلات الطريق إلى المطار، أما من لا يعلمون من هي لطفية النادي فعلى الأرجح راودتهم تساؤلات عن هذه السيدة التي يغطي اسمها طريقًا طويلًا ما بين جنوب وشمال القاهرة. 

لطفية النادي هي أول طيارة مصرية وعربية وأفريقية؛ حصلت في العام 1933 على أول إجازة طيران لامرأة في الدول الأفريقية وتلك الناطقة بالعربية، بعد أن أتمت الدراسة والتدريب بمدرسة مصر للطيران، وقد مارست الطيران لفترة قصيرة قبل أن تهاجر إلى سويسرا.

في تلك الفترة كانت لطفية النادي تتبادل الرسائل مع الطيارة الأمريكية أميليا إيرهارت، أول طيارة تحلق منفردة فوق الولايات المتحدة الأمريكية من دون توقف، وأول طيارة تعبر المحيط الأطلنطي في العام ١٩٣٢، حين انطلقت بمفردها في رحلة استمرت لنحو ١٥ ساعة.

وقتما كانت لطفية وأميليا في أوج نشاطهما في عالم الطيران، تتشاركان تفاصيل مغامراتهما عن طريق المراسلة، كان هناك فتيات أصغر منهما سنًا يسمعن أو يقرأن عنهما في الصحف، فيتخيلن أنفسهن طيارات يحلقن مثلهما في الهواء.

في مصر تأثرت كل من ليندا مسعود وعزيزة محرم بالطيارة لطفية النادي تأثرًا كبيرًا،  فاقتفين آثارها ودرسن الطيران،  ونجحن في الحصول على إجازات قيادة الطائرات الخاصة، إلا أنهن لم يتمكن من العمل كطيارات في الخطوط الجوية التجارية بسبب المقاومة المجتمعية، فاستكملن مسيرتهن كمعلمات ومدربات للطيران في مدرسة مصر للطيران.

على الجانب الآخر، كانت أميليا إيرهارت مصدر إلهام للكثير من الفتيات في الولايات المتحدة إلا أن واحدة منهن كانت لا تكف عن متابعة أخبارها ورحلاتها، وعندما انطلقت في رحلة جوية حول الكرة الأرضية على أمل أن تكون أول امرأة تحقق هذا الإنجاز، كانت جيرالدين موك ذات الـ11 عامًا تتابع بحماس أخبارها عن طريق المذياع، وبعد أن اختفت الطائرة فوق المحيط الهادئ استمرت متابعة جيرالدين للأخبار بحثًا عن ما يفيد بظهور ملهمتها من جديد. لكن أميليا لم تظهر أبدًا، وبعد ١٨ شهرًا من اختفائها أعلنت محكمة أمريكية وفاتها.

لم يفارق جيرالدين حلم الطيران حتى بعد هذه الحادثة المأساوية، وظلت على يقين بأن إنجازًا عظيمًا سيُسَجل باسمها يومًا ما في تاريخ الطيران الدولي وقد كان، فقد حلقت منفردة حول العالم في العام ١٩٦٤ عبر رحلة استمرت لـ٢٩ يومًا و١١ ساعة و٥٩ دقيقة، لتغدو أول امرأة تنجح في تحقيق الحلم الصعب الذي خرج من حسبان الطيارات (من مختلف الجنسيات) بعد اختفاء أميليا إيرهارت، خوفًا من لقاء المصير ذاته أو تأثرًا بالتشكيك المستمر من قبل الصحافة ومؤسسات الطيران في قدرة النساء على النجاح في هذا التحدي.

الثقافة المعادية للنساء تزيد الصعب صعوبة

في حوار أجرته مع مجلة ديسباتش (The Dispatch) الأمريكية في العام 1994، تكشف جيرالدين أو جيري موك أنها عرفت في سن العاشرة أو الحادية العشرة أن ولاية أوهايو التي ولدت وتعيش فيها، تحتكم إلى ما يسمّى «قوانين حمايـة المرأة» التي تحظر على النساء القيام ببعض الأشياء المتاحة للرجال، ومنها الانخراط في بعض الأعمال أو الاشتغال بالوظائف التي قد تحتاج إلى التواجد بمقر العمل ليلًا، بهدف الحفاظ على التقسيم النمطي للأدوار الاجتماعية بين الجنسين.

تؤكد جيرالدين أنها لم تكن ستلتزم بهذه القوانين التي شرعها الرجال ليجعلوا النساء غير قادرات على فعل شيء ما، «أعتقد أنني كنت مؤيدة لحقوق المرأة قبل أن تحظى بشعبية. كنت أعرف شيئًا واحدًا: أريد أن أرى العالم.»

كان الطريق الذي اختارته جيري مترعًا بالسخرية والتغطرس الذكوريين وكذلك التحيز النمطي، فعندما التحقت بجامعة ولاية أوهايو في العام 1943 لدراسة هندسة الطيران والفضاء الجوي، لم يكن بين الطلاب فتاة سواها  وهو الأمر الذي لم يستسغه زملاؤها، ولذا كان معظمهم يتعمد التقليل من شأنها وقدراتها، ثم لاحقتها سخرية الطيارين الرجال أثناء مشاركتها في دروس وتدريبات خاصة لتعلم الطيران، وقد صرحت في مرحلة لاحقة بأن النساء المتطلعات لدراسة الطيران في ذلك الوقت كن يتعرضن دومًا للتحرش، وتحدثت عن واقعة بعينها خلال حوار مع مجلة سميثسونيان (Smithsonian) الأمريكية في العام 2014، «أتذكر أنني جلست على مقعد بالخارج (خارج مكان تلقي الدرس)، وجاءت شابة لتحضر الدرس وكان أحد الطيارين يجلس بجواري، فقال: حسنًا، لقد خرجت لتحصل على رجل.»

وعقب إعلانها الاستعداد للطيران حول العالم في رحلة منفردة على طائرة بمحرك واحد، وجهت وسائل الإعلام قليلًا من الاهتمام إلى تفاصيل هذا التحدي بالقياس إلى الاهتمام الذي صبته على حياتها الخاصة، إذ اجتاحت الصحف تساؤلات حول ما إذا كانت امرأة في الـ38 من عمرها قادرة على القيام برحلة صعبة وشاقة كهذه، وانشغل الصحافيون بحالتها الاجتماعية كونها أمًا لثلاثة أبناء اكتفت لعدة سنوات برعايتهم من دون الخروج للعمل أو التدريب على الطيران، وقد شاع آنئذ تلقيبها بـ«ربة المنزل المحلقة – The flying Housewife» على صفحات الجرائد والمجلات.

عبرت جيرالدين عن انزعاجها من نظرة الإعلام النمطية والتشييئية لها في حوارها مع مجلة ديسباتش (The Dispatch)، مشيرةً إلى إحدى المقابلات الصحافية التي حرصت خلالها على أن تشرح التفاصيل التقنية المتعلقة بكيفية الانتقال بطائرتها حول العالم بتمهل ووضوح، ومع ذلك فوجئت في اليوم التالي بأن الصحيفة لم تأخذ أي من تفاصيل هذا الشق لتعنون بها الحوار، وإنما انتقت تفصيلةً عابرة تخص ملابسها لتضعها في الصدارة، فجاء نص العنوان «ستدور حول العالم بملابسها التي لا تحتاج للكي.»

أرادت رؤية العالم.. فحلقت عاليًا

بعد أن حصلت جيرالدين موك على رخصة طيارة خاصة وسجلت ٧٥٠ ساعة طيران منها ٢٥٠ ساعة منفردة، قررت بمعاونة زوجها شراء طائرة خاصة صغيرة الحجم لتتمكن من تحقيق حلمها بالطيران حول الكرة الأرضية، فاشتريا طائرة من طراز سيسنا ١٨٠ (Cessna 180) وهي طائرة خفيفة بمحرك واحد تضم ما بين أربعة إلى ستة مقاعد بحد أقصى. ونظرًا لإمكانيات الطائرة المتوسطة، عملت جيري على دعمها بتعزيزات تقلل من المخاطر المحتمل مواجهتها خلال رحلة طويلة تشمل العديد من محطات التوقف، فأضافت إليها ثلاثة خزانات وقود، وأجهزة راديو قصيرة المدى وأخرى طويلة المدى ذات تردد عالٍ.

أطلقت جيرالدين على طائرتها اسم روح كولومبوس (Spirit of Columbus)، وهو اسم المدينة التي نشأت فيها بولاية أوهايو، أما الاسم الذي اعتادت ترديده بين المقربين عند الحديث عنها فهو «ثلاثة-ثمانية تشارلي» الذي اشتقته من رقم تسجيل الطائرة N1538C.

طفقت جيري تعد العدة للطيران حول العالم في العام ١٩٦٢، فخاطبت الجمعية الوطنية للملاحة الجوية (NAA) تطلب ترخيصًا رسميًا للطيران حول الكرة الأرضية وإضافة الرحلة إلى سجلات الجمعية، ومنه انطلقت في مسار الحصول على الأذونات والإجازات والتأشيرات، بالإضافة إلى البحث عن ممول، ورسم مسار الرحلة.

وفي الـ ١٩ من مارس في العام 1964، بدأت جيرالدين رحلة الدوران حول الكرة الأرضية من مطار بورت كولومبوس بولاية أوهايو، وفي مذكراتها المنشورة في العام ١٩٧٠ بعنوان «ثلاثة-ثمانية تشارلي: أول امرأة تحلق بمفردها حول العالم»، تحكي جيرالدين أنها سمعت المراقب الجوي يقول بعد أن أبلغته بالإقلاع «أظن أن هذا آخر ما سنسمعه منها»، إلا أن وقع الجملة عليها لم يكن سلبيًا بل ازدادت إصرارًا على تحقيق هدفها.

استمرت الرحلة لـ29 يومًا ونصف، قطعت خلالها جيري مسافة تقترب من 23 ألف ميل، وواجهت على امتدادها مشاكل عديدة كسوء الأحوال الجوية، وأعطال المكابح، وفقدان الاتصال عبر الراديو، والهبوط عن طريق الخطأ في قاعدة أنشاص العسكرية المصرية بدلًا من مطار القاهرة الدولي.

توقفت الطائرة خلال هذه الرحلة في 20 محطة توقف من بينها: جزر الأزور في البرتغال، وبانكوك في تايلاند، ومانيلا في الفلبين، ونيودلهي في الهند، وكراتشي في باكستان، والقاهرة في مصر، والدار البيضاء في المغرب، والظهران في السعودية. وقد قوبلت جيرالدين باندهاش كبير من العاملين في مطار الظهران الدولي (قاعدة الملك عبد العزيز الجوية حاليًا) الذين كانوا جميعًا من الرجال، وبحسب ما روته في مذكراتها فقد وقف العمال مشدوهين حين رأوها تخرج من الطائرة بمفردها من دون أن يرافقها طيار.

من ناحية أخرى، كان الهبوط في مصر حلمًا في حد ذاته بالنسبة لها فلطالما تمنت أن تزور أهرامات الجيزة وتتجول حولها على ظهر جمل، وقد مكنتها هذه الرحلة من تحقيق ذلك.

عادت جيري موك إلى مطار بورت كولومبوس الأمريكي الذي بدأت منه الرحلة في الـ17 من إبريل، وما هي إلا أيام قليلة حتى قرر الرئيس الأمريكي آنذاك ليندون جونسون استقبالها في البيت الأبيض لتهنئتها على الإنجاز التاريخي الذي حققته، وقد منحها يومها الميدالية الذهبية لوكالة الطيران الفيدرالية عن الخدمة الاستثنائية.

لم تستمر طويلًا علاقة جيرالدين بالطيران، ومكثت الطائرة روح كولومبوس (Spirit of Columbus) لعدة أعوام في ولاية أوهايو حتى طلب المتحف الوطني للطيران والفضاء بالعاصمة الأمريكية واشنطن ضمها إلى مقتنياته، لتنتقل في العام 1976 إلى إحدى صالات العرض الرئيسة داخله، ولا تزال الطائرة معلقة بالمتحف حتى يومنا هذا تشهد على حلم كبير تحقق، وتحدٍ متعدد الأبعاد نجحت فيه طيارة اسمها جيرالدين موك.