غالبًا ما يكون المنتفعون والمستفيدون من شبكات الحماية الاجتماعية، والمستحقون للمزايا أو المساعدات الحكومية والمعونات الطارئة، هم العاملون تحت مظلة الاقتصاد الرسمي الذين يعملون بدوام كامل أو جزئي، أما العاملون المؤقتون والموسميون والعاملون في الاقتصاد غير الرسمي فقلما يتمتعون بهذه الامتيازات.

تعد النساء القوام الأساسي للفئة الثانية، إذ تصل نسبة العاملات بالقطاع غير الرسمي في قارتي أفريقيا وآسيا إلى 90 في المئة من إجمالي النساء المنخرطات في سوق العمل، وفي بلد مثل الهند نادرًا ما تجد المرأة عملًا في القطاع الرسمي، إذ تمثل النساء 95 في المئة من المشتغلين بالاقتصاد غير الرسمي.

وتبقى النساء أكثر ميلًا من الرجال لنظام العمل الحر (Freelancing)، بسبب الأعباء المنزلية غير مدفوعة الأجر التي تقع على عاتقهن، خاصةً أن هذا النظام يتيح لهن مرونة في ساعات العمل، ويُمكّنهن من أداء المهام في أي مكان يناسبهن، بالإضافة إلى ما يوفره لهن من فرصة اختيار المشاريع التي يستطعن العمل عليها أو المؤسسات والعملاء الذين يتفهمون احتياجاتهن.

الأعمال غير مدفوعة الأجر التي غالبًا ما تتحملها النساء (ثلثي أعمال الرعاية والأعمال المنزلية تقوم بها النساء) وتؤثر مباشرة على اشتغالهن بالأعمال المأجورة، لا تدخل في عملية التحليل والتقييم السنوي للتخطيط المالي في كثير من الدول، علمًا بأنها أحد الأسباب الرئيسة التي تقف وراء استمرار الفجوة بين الجنسين في أسواق العمل، واتجاه النساء إلى أنظمة الدوام الجزئي والعمل الحر أو العمل بالقطاع غير الرسمي.

في ضوء هذه الحقائق تقع نسبة كبيرة من النساء، بالأخص في الدول ذات الاقتصادات النامية، خارج مظلة الحماية الاجتماعية وتتضاءل احتمالية حصولهن على فرص الدعم والتمكين المتاحة أمام الرجال، وسيظل الحال على هذا النحو طالما أن الحكومات لا تضع في الاعتبار الاحتياجات والأولويات المرتبطة بالنوع الاجتماعي عند تخصيص وإدارة الموارد، ولن تفلح إعادة هيكلة الخطط المالية في تحقيق التوزيع العادل للموارد والإيرادات بين المواطنين أو تقليل التفاوت بينهم، إذا لم يسفر إجراؤها عن تضمين محاور تختص بإغلاق الفجوة بين الجنسين، أو تمكين النساء من جميع الفرص الاقتصادية والخدمات العامة، أو معالجة النظم الضريبية التي تضع أعباء مضاعفة على كواهل النساء لا سيما المعيلات منهن.

التفت المجتمع الدولي إلى هذه الإشكالية في تسعينيات القرن الماضي، حين شرعت هيئات كبرى كالأمم المتحدة ومنظماتها في الترويج لمنهج تعميم المنظور المراعي للنوع الاجتماعي (Gender Mainstreaming)، ليكون قاعدة أساسية في تخطيط وتنفيذ السياسات والتشريعات والبرامج التي تتبناها الدول بما في ذلك الموازنات العامة، ثم جاء المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة الذي عُقد في العاصمة الصينية بيجين في العام 1995، ليوجه مزيدًا من الاهتمام صوب مراعاة أبعاد النوع الاجتماعي واحتياجات النساء في إعداد السياسات المالية والموازنات العامة.

وقد عرّفت الأمم المتحدة تعميم المنظور المراعي للنوع الاجتماعي بأنه منهج يضمن أن يكون النوع الاجتماعي وهدف المساواة بين الجنسين محورين رئيسين في جميع الأنشطة، كتطوير السياسات، وإعداد البحوث، والحوارات، والتشريعات، وتخصيص الموارد، وتخطيط البرامج والمشاريع وتنفيذها وتقييمها. ومن جانبه، عرّف المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة تعميم المنظور المراعي للنوع بأنه عملية ترتكز على دراسة وتحليل آثار أي إجراء أو عمل على النساء والرجال في شتى المراحل بداية من التصميم وصولًا إلى التقييم.

على مدار العقدين الماضيين، استجابت العديد من الدول لنداءات المنظمات الدولية التي حاذتها ضغوط نسويـة على المستويين الوطني والإقليمي، إذ أعلنت حكوماتها عن مبادرات وبرامج تستهدف دمج منظور مراعٍ للنوع الاجتماعي في بعض مناحي اتخاذ القرار، وذلك في إطار التزاماتها تجاه قضيتي إنهاء التمييز ضد النساء والمساواة الجندرية المنصوص عليها في حزمة من المعاهدات الدولية، أهمها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW).

وفي هذا السياق، بدأت دول في اتباع نهج مراعٍ للنوع في التشريعات، وعدلت دول سياساتها الخارجية لتكون متحسسة تجاه النوع، وأدخلت دول احتياجات وأولويات النساء والفتيات إلى تصميم وتطوير الأحياء والمدن، وأعادت بعض الدول النظر في موازناتها العامة عبر عدسة مراعية للنوع الاجتماعي.

العدالة المالية ليست بمعزل عن العدالة الجندرية

تمخضت مساعي دمج المنظور المراعي للنوع الاجتماعي في التخطيط المالي، عن الموازنة المستجيبة للنوع الاجتماعي (Gender Responsive Budget)، التي تُعرّفها منظمة أوكسفام الدولية (OXFAM)، بأنها موازنة تناسب الجميع رجالًا ونساءً وفتيات وفتيانًا، وما يجعلها كذلك هو بنودها التي تعمد إلى ضمان التوزيع العادل للموارد بين الجنسين، والمساهمة في تحقيق تكافؤ الفرص بينهما.

وتشير أوكسفام إلى أن صياغة موازنة مستجيبة للنوع الاجتماعي ينبغي أن تكون مبنية على تحليل لتأثير ميزانية الحكومة المعمول بها على الرجال والنساء، والأدوار الاجتماعية المرتبطة بهما، والعلاقات بين الجنسين، على أن يكفل إصلاح الموازنة تحقيق التزامات الدول تجاه المساواة بين الجنسين. وتعتبر المنظمة الدولية أن الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي ليست ضرورية فقط لتحقيق العدالة الجندرية بل العدالة المالية أيضًا.

تبلور مصطلح الموازنة المستجيبة للنوع الاجتماعي (Gender-responsive budget) في نهاية التسعينيات، إلا أن أول محاولة لإعداد موازنة تراعي احتياجات وأولويات النوع الاجتماعي بغية تحقيق المساواة بين الجنسين، تعود إلى منتصف الثمانينيات عن طريق أستراليا التي أطلقت مبادرة في العام 1984 توجب على الوزارات والجهات الحكومية تحليل تأثير الموازنة العامة على النساء والفتيات، مع التركيز بشكل خاص على النفقات العامة.

وفي العام 1992 خصصت الفلبين خمسة في المئة من إجمالي نفقات وإيرادات الموازنة للتنمية والنوع الاجتماعي، وبعد سنوات قليلة شاركت حكومتا سريلانكا وفيجي في أول مشروع تجريبي دولي لإعداد موازنات تراعي أبعاد النوع الاجتماعي، وهو المشروع الذي عكفت على  تنفيذه هيئة الأمم المتحدة بالتعاون مع عدد من المؤسسات الدولية.

وخلال الـ25 عامًا الماضية، تعاونت الأمم المتحدة ثم منظمتها المعنية بتمكين النساء والمساواة الجندرية (UN Women) مع 40 دولة في مبادرات لإعداد وصياغة موازنات تراعي النوع الاجتماعي وتستجيب للاحتياجات المتصلة به، من خلال بناء المعرفة والقدرات البشرية، وتنظيم تدريبات للعاملات والعاملين بالأجهزة المسؤولة عن فحص الموازنات وتقييم النفقات ومراجعة الإيرادات، حتى تتشكل لديهم حساسية تجاه النوع الاجتماعي ويصبحوا قادرين على إدماج منظور مراعي للنوع في المهام الموكلة إليهم.

تأتي دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ في مقدمة الدول التي أعانتها هذه الشراكات على التحول إلى نظام الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي، إذ تضم القائمة إندونيسيا، وماليزيا، ونيبال، وفيتنام، والهند، وتيمور الشرقية، وكوريا الجنوبية، واليابان.

تبنت أيضًا العديد من الدول الأفريقية موازنات تستجيب للنوع الاجتماعي مثل نيجيريا، وجنوب أفريقيا، وأوغندا، وتنزانيا، وتبرز أيضًا في قارة أفريقيا دولتا مصر والمغرب اللتان أطلقتا المبادرات الأولى لدمج المنظور المراعي للنوع في خططهما المالية قبل عشرين عامًا تقريبًا.

على الضفة الأخرى، تتجه دول القارة الأوروبية إلى الموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي بوتيرة أسرع من بقية المناطق، ويأتي بينها النمسا، والسويد، وأيسلندا، والنرويج، وهولندا، وبلجيكا، وبريطانيا، وفنلندا، وإيطاليا.

وفي أمريكا الشمالية قررت كندا أن تذهب إلى نقطة أبعد، فقد أعلنت في العام 2021 تشكيل قوة عمل مؤلفة بالكامل من نساء باحثات وخبيرات اقتصاديات وأكاديميات، لتوجيه الحكومة الفيدرالية في عملية إعداد الموازنة، لتكون «موازنة نسوية» أولويتها هي معالجة الأضرار الاقتصادية المضاعفة والمركبة التي تعرضت لها النساء من جراء حائجة كورونا وتعزيز العمل الرامي إلى سد الفجوة الجندرية.

موازنات مستجيبة للنوع الاجتماعي

لا يوجد نمط أو نسق محدد للموازنات المستجيبة للنوع الاجتماعي، خاصةً أن السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل بلد تؤثر بقوة على شكل الموازنات وأهدافها، ولذلك قد تكون الغاية الرئيسة من الاعتماد على موازنة مراعية لأبعاد النوع الاجتماعي بالنسبة لبعض الدول هي النمو الاقتصادي من خلال زيادة مشاركة النساء في أسواق الأعمال، وقد تكون تقليص معدلات الفقر المرتفعة خاصةً أنها تزداد بين النساء عن ما هي بين الرجال، أو تحسين نوعية الخدمات العامة لسد الفجوة الجندرية في الاستفادة منها، بما يسهم في زيادة انتاجية العمل والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، وبناءً على ذلك تتباين نتائج الموازنات فيحقق بعضها تأثيرًا أفضل أو تقدمًا أسرع من موازنات أخرى.

ومع ذلك، هناك قواعد عامة لكي توسم الموازنات بمراعاة النوع الاجتماعي والاستجابة للأولويات والاحتياجات المتصلة به، ومنها: تحليل مدى مساهمة تخصيص النفقات والإيرادات في تحقيق المساواة بين الجنسين، وتقييم احتياجات النوع الاجتماعي في ظل السياسات والبرامج الحكومية القائمة استنادًا لآراء أصحاب المصلحة وممثلي المجتمع المدني بهدف إعادة تحديد أولويات الموازنة، بالإضافة إلى إجراء تحليل مركزي تشرف عليه الحكومة للأثر الكلي للموازنة المستحدثة على تعزيز المساواة بين الجنسين، يشمل تقييمًا مفصلًا لتأثيرها على النساء والرجال وقدرتها على تلبية المخصصات والإيرادات للوفاء باحتياجات وأولويات النساء. ويجب أن يوازي ذلك تقييم آخر مستقل وموضوعي تجريه جهة متخصصة للوقوف على فعالية السياسات المنصوص عليها في الموازنة السنوية، فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين.

ويقتضي تتنفيذ ما سبق وجود بيانات ومعلومات مصنفة حسب النوع في كل المجالات، باعتبارها ركيزة أساسية في عملية التخطيط المالي المتحسسة للنوع الاجتماعي، إلا أن قلة من الدول تحرص على توافر بيانات مصنفة حسب النوع في شتى القطاعات دون استثناء، وتعد النرويج والسويد الأفضل والأدق في هذا الشأن.

الانتقال التدريجي من موازنة تتعامي عن الفروق والفجوات الجندرية وتغض الطرف عن الاحتياجات المرتبطة بالنوع الاجتماعي إلى موازنة تتعامل مع كل ذلك، يحتاج إلى إرادة سياسية حاسمة، حيث يتطلب هذا المسار إعداد وإصدار تشريعات ولوائح تنظمه، وبرامج لتأهيل المسؤولين بوزارات المالية والوزارات ذات الصلة  والهيئات الضريبية، فضلًا عن التنسيق والتعاون بين المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني.

وكثيرًا ما يكون النضال النسوي هو السبب في خلق الإرادة السياسية وشحذها، فالحراك لا يزال يمارس ضغوطًا على الحكومات في الدول التي تتبنى موازنات مراعية للنوع الاجتماعي من أجل التحسين والتطوير لتسريع إغلاق الفجوة الاقتصادية بين الجنسين، وفي الدول التي تخطو خطواتها الأولى باتجاه تعميم المنظور المراعي للنوع تنشط المجموعات النسوية من أجل إدراج الخطط المالية على الأجندة الرسمية، وفي دول أخرى تناضل الحركة النسوية كي تتغير آليات صناعة القرارات الاقتصادية، فتصبح النساء شريكات فيها ومستفيدات منها.