انشغل كثير من الفلاسفة على مر التاريخ لا سيما التاريخ الحديث، بالاضطهاد وغياب العدالة بين البشر، فتراكمت على مر الزمن إنتاجاتهم الفكرية الساعية إلى تفكيك الأزمة وتعيين الأسباب التي تؤدي إلى تأبيدها؛ وقد وجه بعضهم نظره صوب عامل الطبقة كمسوغ شبه وحيد – من وجهة نظرهم – لقمع الأفراد والجماعات، بينما ركز آخرون على العرق ولون البشرة، وهناك من اعتبر أن ترسيخ تفوق جنس على الآخر هو السبب الجوهري لغياب العدالة والمساواة، ثم جاء مفكرون يمانعون الفصل بين هذه الهويات ويتمسكون بدراسة وتحليل بنى القهر مجتمعة.

برز كارل ماركس كأحد أهم فلاسفة العصر الحديث الذين أعزوا الاضطهاد الاجتماعي ضد أي فئة أو جماعة إلى الطبقية والرأسمالية، مفترضـًا أن العدالة ستسود بين الجميع إذا انهدم النظامان، وقد جادل ماركس في هذا الإطار بأن وجهة النظر التي تحملها طبقة العمال (البروليتاريا) تجاه العالم والمبنية على خبراتهم ونضالاتهم، تمنحهم موقفًا معرفيًا أصدق وأكثر واقعية من موقف الطبقة البرجوازية، خاصةً فيما يخص فهم واستكشاف العالم، ولذا ترفض الفلسفة الماركسية تهميش وجهة نظر البروليتاريا لصالح رؤى أصحاب رأس المال، بل وتعتبرها نقطة الانطلاق المثلى لقراءة وتحليل الاضطهاد والقمع الاجتماعيين ثم الخلاص منهما.

ألهمت هذه الحجة الماركسيـة العديد من الأكاديميات والمفكرات النسويات خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بعد أن رصدن تشابهًا بين ما طرحه ماركس بشأن تهميش وجهات نظر الطبقة العاملة، وما يرينه من استبعاد لخبرات النساء في الإنتاج البحثي والأكاديمي.

«نظرية وجهة النظر النسوية هي نظرية معرفية، لكنها أضحت مؤخرًا استراتيجية منهجية لإجراء البحوث الاجتماعية على وجه الخصوص.»

انطلاقًا من جوهر الطرح الماركسي جادلت أكاديميات نسويات مثل ساندرا هاردينغ، وجوليا وود، ودوروثي إديث سميث، وباتريشيا هيل كولينز بأن المواقع الخاضعة التي تشغلها النساء في المجتمع وتحول دون تمتعهن بالامتيازات الممنوحة للرجال، قد تكون موضع امتياز معرفي تصبح على إثره وجهات نظرهن نقطة انطلاق مثمرة للتحقيق في الأسئلة السيسيولوجية المعاصرة والوصول إلى تفسيرات شاملة وموضوعية لشتى الأمور الحياتية.

وتنسب معظم الآراء المؤيدة لهذا الافتراض تهميش وجهات نظر النساء في الإنتاج المعرفي، إلى الوضع الاجتماعي للعامل أو الوسيط المعرفي الذي يشكله التكافل بين أبعاد الجنس، والعرق، والطبقة، والقدرات الجسدية، إذ يؤثر التداخل بين هذه الخصائص لدى منتجي ووسطاء المعرفة (غالبيتهم من الرجال) فيما ينبغي للأفراد معرفته أو ما لا يمكن لهم معرفته.

توافقت المنظرات النسويات اللاتي أسهمن في صياغة وتطوير نظرية وجهة النظر في المدخل الرئيس لها، بيد أنهن قد اختلفن حول مفهوم الموقع الاجتماعي، والافتراض بأن وجهات نظر المهمشين أكثر موضوعية من غيرها، بالإضافة إلى كيفية دمج منظور النساء في الخطابات والنصوص الاجتماعية.

وجهة النظر النسوية: فرضية واحدة ونظريات عديدة

تعد الفيلسوفة الأمريكية ساندرا هاردينغ هي أول من صك مصطلح وجهة النظر النسوية (Feminist Standpoint)، الذي أوردته لأول مرة في كتابها الصادر في العام 1986 بعنوان «سؤال العلوم في النسوية»، الذي طرحت في جزء منه الحيثيات التي تجعل – وفقًا لها – التجربة الاجتماعية للنساء موضع انطلاق مثالي لاستكشاف التحيز الذكوري في مجال العلوم الاجتماعية والطبيعية.

اتفقت الكاتبة النسوية الأمريكية والباحثة في مجال الاتصالات جوليا وود مع ساندرا هاردينغ بشأن اعتبار وجهات نظر النساء أكثر موضوعية من وجهات نظر الرجال وتشابه تفسيرهما لهذا الاعتقاد، فقد حاججت كلتاهما بأن موقع الأفراد في التسلسل الهرمي الاجتماعي يحدد مدى موضوعية وجهات نظرهم، فإذا كانوا في الدرجات السفلى تشرأب أعناقهم وينظرون إلى الأعلى ليستطيعوا رؤية وفهم هؤلاء الذين في الدرجات العليا وما يجري بينهم وحولهم، أما إذا كانوا في الأعلى فلن يكترثوا سوى إلى أنفسهم. وعطفًا على هذا الافتراض، تكون رؤية المهمشات والمهمشين أكثر دقة تجاه العالم، على عكس رؤى الأشخاص الموجودين في مواقع السيطرة التي عادةً ما تكون زائفة وغير واقعية.

وقد ذكرت جوليا وود أن المهمشات والمهمشين يمتلكون دافعًا كبيرًا لفهم منظور الأفراد أو الجماعات التي تعتلي قمة الهرم الاجتماعي، إذا ما قورن بدافع الفئة الأخيرة للتعرف إلى خبرات المضطهدين القابعين في قاعدة الهرم، وعلى هذا الأساس تكون النساء قادرات على تكوين وجهات نظر موضوعية على عكس الرجال في مواقع السلطة.

«عندما يتحدث الناس من الحافتين المتقابلين للسلطة، فإن منظور حياة الأضعف يمكن أن يوفر رؤية أكثر موضوعية من منظور حياة الأقوى»،

جوليا وود

تقر كل من ساندرا هاردينغ وجوليا وود بأن النساء لسن كتلة واحدة متجانسة، بل تتباين تجاربهن بسبب تقاطع الجنس مع الطبقة، والعرق، والإثنية، والعمر، والتوجه الجنسي، ولهذا لا يمكن القول بأن جميعهن يتشارك الموقع ذاته في التسلسل الاجتماعي، ورغم تأكيدهما على هذه الحقيقة فقد طالهن النقد من جانب الأكاديميات والمنظرات النسويات الملونات، بسبب ما اعتبرنه تجاهل لخصوصية وضعية النساء ذوات البشرة السوداء تحديدًا، ويأتي في مقدمتهن عالمة الاجتماع الأمريكية باتريشيا هيل كولينز التي تفحصت بشكل أعمق التقاطع بين الجنس والعرق والطبقة وتأثيره على خبرات النساء ذوات البشرة السوداء.

وفقًا لباتريشيا كوينز، يمنح الموقع الاجتماعي للنساء السوداوات وخبراتهن اليومية مع الاضطهاد المركب زاوية رؤية فريدة، تؤهلهن لتقديم وجهة نظر أكثر موضوعية عن العالم الاجتماعي، وفي كتابها «الفكر النسوي الأسود: المعرفة والوعي وسياسة التمكين» الصادر في العام 1990، تتبع باتريشيا جذور ما أسمته بـ«المعرفة المركزية الأوروبية الذكورية» التي شوهت تجارب وخبرات النساء السوداوات في العمل والأسرة والسياسة الجنسية أو استبعدتها تمامًا من الخطاب الأكاديمي، لافتةً إلى أن طمس وجهات نظرهن في المعرفة السائدة قادهن إلى التعبير عن خبراتهن عبر منافذ أخرى كالموسيقى والرقص، وهو ما أطلقت عليه «المعرفة المستبعدة – subjugated knowledge.»

تحدد باتريشيا ثلاثة متطلبات تحتاج الباحثات اللاتي يرغبن في تطوير الفكر النسوي الأسود إلى الوفاء بها لضمان مصداقيتهن، وهي أن يكن مدافعات بشكل شخصي عن النساء ذوات البشرة السوداء، وأن يقبلن بمشاركة نتائج بحثهن مع هؤلاء النساء وكذلك الباحثات السوداوات، والأهم أن يتأهبن لتحدي «المتطلبات السياسية والمعرفية الأوروبية الذكورية.»

من جانبها، انتقدت الأكاديمية الكندية دوروثي إديث سميث ما يروج حول موضوعية علم الاجتماع، مؤكدةً أن الأبحاث الاجتماعية تقدم صورة غير حقيقية عن الحياة اليومية، وقد تناولت في كتابها «العالم اليومي كإشكالية: علم الاجتماع النسوي» الهيمنة الذكورية على الفضاءات الأكاديمية والإعلامية والسياسية، وعلاقتها بارتكاز الخطاب والنص الاجتماعيين على وجهة نظر واحدة يحددها الرجال من أجل تكريس «علاقات الحكم» التي تهمّش النساء، مشيرةً إلى أن هذه العلاقات لا تتوقف عند المجال الخاص وإنما تتجاوزه إلى مؤسسات الإدارة والحكومات التي تقود وتنظم وتضبط المجتمعات.

أعزت دوروثي تجاهل منظور النساء وخبراتهن الشخصية، خاصةً نساء الطبقة العاملة، في علم الاجتماع إلى تعامل الخطاب الاجتماعي معهن باعتبارهن مفعولًا به ولسن فاعلًا حاضرًا ومتفاعلًا في الحياة اليومية، ولفتت في كتابها المذكور آنفًا إلى أن هذا الاتجاه يظهر حتى في أبحاث الاجتماع التي تسبر قضايا تتصل بالنساء مثل أدوار النوع الاجتماعي والعلاقات بين الجنسين.

تقدر دوروثي أن إدراج وجهات نظر جميع الأطراف سيسمح لمستقبلي المعرفة بتشكيل تحليلهم الخاص بناءً على الكيفية التي أثرت بها المناظير المختلفة على استنتاجاتهم، وعلى عكس المفكرات اللاتي أجزمن بوجود وجهة نظر يمكن وسمها بالموضوعية، استبعدت عالمة الاجتماع النسوية دوروثي سميث أن تكون أي وجهة نظر موضوعية حقًا، مشددةً على أن تأمل جميع وجهات النظر والرؤى هو عنصر مهم في دراسة الظواهر الاجتماعية.