على الرغم من أن مصر عرفت السينما خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع، بالتوازي مع انطلاق هذا الفن في أوروبا وأمريكا، وفضلًا عن أن أول إنتاج سينمائي مصري كان الأول في منطقة الشرق الأوسط في العام 1907، يظل فيلم «ليلى» هو الانطلاقة الحقيقية للسينما التجارية في مصر، ويبقى تاريخ عرضه الأول في سينما متروبول، والموافق 16 نوفمبر من العام 1927، هو اليوم الذي يمكن الاعتراف به كبداية فعلية للسينما المصرية التي باتت الأضخم في المنطقة والأكثر تأثيرًا في الشعوب العربية قاطبة، إلى درجة جعلت اللهجة المصرية هي الوحيدة التي يفهمها جميع العرب، وتتكرر بعض كلماتها في أحاديثهم اليومية.

هذا الفيلم الذي فتح الباب أمام صناعة متكاملة الأركان، يعود الفضل فيه إلى إصرار امرأة واحدة لم تأبه لكل مصادر القلق التي أحاطت بهذا الفن الجديد وقتئذ، ولم تُحبطها العقبات المتلاحقة في طريق مغامرتها غير محسوبة النتائج. بذلت هذه السيدة كل ثمين حتى يخرج إلى النور أول فيلم روائي طويل في المنطقة برمتها، ليصبح لاحقًا اسم «عزيزة أمير» كلمتين أساسيتين في الصفحة الافتتاحية لتاريخ طويل وممتد يسجل مراحل تطور السينما في العالم العربي.

في قراءة مقسمة إلى حلقات تبدأ بهذه الحلقة، تتبّع «ولها وجوه أخرى» المناهج التي أتبعها عدد من المخرجات البارزات في السينما المصرية عبر أطوارها المختلفة، وأولهن الرائدة عزيزة أمير وهي أول مخرجة مصرية وعربية، ونحاول استقراء رؤاهن بشأن واقع نساء ومعالجاتهن السينمائية للقضايا النسوية على المستويين الخاص والعام.

من بين 25 فيلمًا.. اثنين فقط بتوقيع المخرجة «عزيزة أمير»

صناعة الفيلم السينمائي ترتكز على عنصرين رئيسين وهما التأليف والإخراج، فالنص المكتوب هو العمود الفقري لجسد الفيلم، وهيكلة هذا الجسد وبث الروح فيه هي مهمة المخرج الذي يحوّل المكتوب إلى مرئي ومسموع، يتفاعل معه المشاهدون الجالسون في قاعات العرض. وفي فيلمها الأول، شاركت عزيزة أمير في عدد من الأدوار الرئيسة في صناعته، إذ اشتركت في التأليف مع السيناريست والمخرج أحمد جلال والفنان استيفان روستي، وقد قدم الثلاثة نسخة محدّثة لما كتبه المخرج التركي وداد عرفي الذي تولى مهمة تأليف الفيلم وإخراجه في البداية تحت عنوان «نداء الرب»، إلا أن هذه النسخة لم تعجب أمير ونتيجة اختلاف في الاَراء بينهما انسحب عرفي من العمل، وتولت هي مسؤولية إعادة كتابة السيناريو والحوار متعاونةً مع جلال وروستي، كما اشتركت مع الأخير في إخراج الفيلم، وتشير بعض المصادر إلى أن جلال أيضًا كان شريكًا في عملية الإخراج، بينما تحمّلت أمير وحدها مسؤولية إنتاج الفيلم في نسختيه سواء المهدرة تحت اسم «نداء الرب» أو التي خرجت إلى النور باسم «ليلى»، إلى جانب قيامها بدور البطولة فيه. وقد تم طبع الفيلم وتحميضه في بيتها الكائن في شارع البرجاس بحي جاردن سيتي، الذي حوّلته لاحقًا إلى استديو خاص.

بعد صدور فيلم «ليلى»، أصبحت عزيزة أمير أول مخرجة ومنتجة وكاتبة سينمائية في المنطقة العربية، لكنها لم تكن أول مخرجة في العالم كما يردد البعض، فوفق المؤرخين السينمائيين، فإن أول مخرجة سينمائية هي الفرنسية أليس جاي بلاش (Alice Guy-Blaché) التي أخرجت أول نسخة من فيلمها La Fée aux Choux في العام 1896، وأعادت إصداره في العامين 1900 و1902، وكانت مدة النسخة الأولى دقيقة واحدة.

خلال هذه الفترة كان التداخل بين التأليف والإخراج كبيرًا، ويبدو أن الإخراج لم يشغل عزيزة أمير كثيرًا بالمقارنة مع التمثيل والإنتاج ومن بعدهما التأليف، فمن بين 25 فيلمًا أنتجتها، ظهر اسمها كمخرجة (بالاشتراك مع اَخرين) على تترات فيلمين فقط، بينما مثّلت في 23 فيلمًا وشاركت في تأليف 19 فيلمًا. وخلال مسيرتها، عهدت إلى استيفان روستي بإخراج أغلب أفلامها إبان المرحلة التي سبقت تكوينها ثنائي مع المخرج محمود ذو الفقار الذي أخرج معظم الأفلام التي أنتجتها بعد زواجهما.

وقد يكون ذلك راجعًا إلى أن عزيزة أمير كانت تعد نفسها ممثلة بالأساس، ودخولها إلى عالم السينما كان محاولة لتحقيق أحلامها التي عرقلتها صراعات الفرق المسرحية الداخلية، وفي مقدمتها فرقة «رمسيس» لمؤسسها يوسف وهبي التي انضمت إليها في فيما بين العامين 1925 و1926، وسرعان ما انفصلت عنها.

للاَسف لا تتوفر أي نسخ من فيلمي «ليلى» و«كفري عن خطيئتك» الذين شاركت أمير في إخراجهما، ولذلك سنعتمد في قرائتنا خلال هذه الحلقة على ما استطعنا جمعه من معلومات عنهما من مصادر متفرقة.

عزيزة أمير تُعبّد طريق السينما من أجل «ليلى»

كانت أمير تبحث عن الفرصة التي تثبت وتكرس موهبتها التمثيلية، وهي تعلم أن تحقيق ذلك لن يكون إلا إذا تحملّت مسؤولية إنتاج فيلمها الأول في ظل تخوّفات صناع الدراما اَنئذ من السينما ومقاومة صعود هذا الفن من جانب نجوم ونجمات المسرح.

وتكشف تجربة «ليلى» حجم الإصرار والطموح الذي تمتعت به هذه السيدة، التي لم تفقد الأمل ولم تثنها أزمات النسخة الأولى «نداء الرب» عن البدء من نقطة الصفر مرة أخرى، حتى يخرج الفيلم بالصورة التي كانت تتطلع إليها، فأنفقت مزيدًا من المال رغم ما تبدد في النسخة الأولى، ووقفت أمام الكاميرا تعيد تمثيل دورها، وجلست مع شركاء جدد من أجل تطوير السيناريو الأول.

لم تختف العوائق بعد الانتهاء من الفيلم، فقد واجهت أمير صعوبات في توزيعه بعد أن رفض أصحاب دور العرض السينمائي استقباله في ظل توقعات بفشله، ولكن بتصميم أكبر وعزيمة أشد، قررت أن تستأجر دار عرض متروبول في القاهرة لمدة أسبوع خلال شهر نوفمبر في العام 1927، بتكلفة وصلت إلى ثلاثمائة جنيه تحملتها كاملةً دون دعم من شخص أو جهة، وأقامت عرضًا خاصًا دعت إليه عددًا من الشخصيات العامة، مثل: أحمد شوقي وطلعت حرب وأحمد لطفي السيد.

كل هذه الأدوار التي قامت بها كانت كافية لإحكام سيطرتها على الفيلم، لأن الإخراج سواء على المستوى الفني أو الحرفي لم يكن قد تبلور في حقبة السينما الصامتة في مصر، إذ كان الاهتمام الرئيس آنذاك بالمادة الحية المعتمدة على الممثل والنص.

بعد عدة سنوات، اشتركت عزيزة أمير مع مصطفى والي في إخراج فيلم «كفري عن خطئيتك» الذي أنتجته شركتها «إيزيس» وعُرِض لأول مرة  في القاهرة، بتاريخ الـ 16 من يناير في العام 1933، كما اشتركت مع ألبير بدريوز في تأليفه.

التمثيل أهم والبطلة هي عامل الجذب الرئيس، هذا ما يؤكده الإعلان الورقي للفيلم الذي لم تظهر عليه أي إشارة إلى المخرجين أو المؤلفين، بينما برز اسم عزيزة أمير وصورها موزعة عليه، وبخط كبير في أعلى الإعلان ألحِقَ اسمها بلقب «مؤسسة التمثيل السينمائي في مصر».

النسق: امرأة مهزومة في مجتمع ذكوري

خلال المرحلة المبكرة للسينما، كان مفهوم الدراما لدى صناعها، يتوقف عند حدود خلق صراع بين الخير والشر يتأزم في محطة معينة، قد تكون زواج، أو موت، أو حرب، أو فشل، أو نجاح، ثم تمضي الأحداث في الصعود حتى ينتهي الفيلم بموعظة أخلاقية. ومع ذلك، فإن الفيلمين الذين شاركت أمير في إخراجهما يمكن قرائتهما على مستويين، أولهما يتفق وهذه الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، لأن المرأة في الفيلمين تبدو مغلوبة على أمرها وهزيمتها حتمية، تخسر في النهاية ويفوز الرجال وحدهم. صورة تستجدي المشاهدين إلى التعاطف معها والإشفاق عليها.

لكن بقراءة الفيلمين في سياقهما الزمني والفني، سيبدو الأمر مختلفًا بعض الشيء. لقد صدر فيلم «ليلى» في العام 1927، وفي ذلك التوقيت، لم تكن النساء قد حازت حقها في الدراسة بالجامعة إذ التحقت أول دفعة فتيات بجامعة القاهرة بعد ذلك بعامين، وكان تنقل النساء وخروجهن إلى العمل ما زال مقيدًا حتى بعد سنوات مما أحدثته ثورة 1919 من تغيير في الواقع الاجتماعي تمخض عن خروج النساء إلى المجال العام تدريجيًا. فضلًا عن ذلك، كانت الحركة النسوية حينذاك تخوض حربًا ضروسًا من أجل مطالب محددة ومنها: منع الزواج المبكر للفتيات، وتقييد تعدد الزوجات، وقصر الطلاق على المحكمة. وكل هذا يعكس واقع النساء في مجتمع يبذل قصارى جهده ويقاوم بقوة مساعي الخروج من شرنقة العزلة والإقصاء، وفيه تدار علاقاتهن بالوصاية من الأب والأخ ثم الزوج والابن، وهذه هي الحقيقة التي أكدت عليها أمير في فيلميها «ليلى» و«كفري عن خطيئتك».

يحكي فيلم «ليلى» قصة فتاة في واحة مصرية تحب وتأمن وتثق في شاب، وتتجه القصة إلى ما هو أشبه بأفلام ديزني حيث يقترب الزواج والسعادة الأبدية، لكن تحوّلًا يجعل القصة تنحرف عن هذا المسار، إذ يخذلها الرجل بخيانته لها وقراره بأن يمضي في طريقه مع امرأة أخرى، تاركًا إياها تحمل وحدها أوزار علاقتهما التي أسفرت عن جنين داخل أحشائها.

مثل أفلام كثيرة تصدر حتى يومنا هذا، هناك رسالة وعظية تطفو على السطح، وإن كان المفاد هو أن العلاقات خارج إطار الزواج ستنتهي بالمرأة إلى الدرك الأسفل، فقد حاول «ليلى» أن يحكي فصل القصة الذي يتجاهله المجتمع، إذ قدمت أمير قصة الخذلان الذي يحيط بالنساء، ويبدأ من الرجل في الدائرة الضيقة ويمتد ليمارسه المجتمع الذكوري الذي يُحمّل المرأة وحدها مسؤولية ما يدرجونه في خانة «الخطيئة».

الإجبار على الزواج، والاتهام بالخيانة، وحرمان المرأة من الحق في الاختيار؛ أمور جسدتها أمير في فيلميها اللاحقين، وهما «بنت النيل» الذي صدر في العام 1929، وكانت أحد المشاركين في تأليفه، لكن إخراجه كان لعمرو وصفي، ومن بعده «كفري عن خطيئتك» ثاني فيلم تشارك في إخراجه، وقد اختارت تقديمه صامتًا على الرغم من أن السينما الناطقة بدأت عهدها في مصر قبل صدوره بعام، ويُرجع كثير من المؤرخين فشل الفيلم تجاريًا إلى هذا السبب.

إلى جانب الإخراج بالتعاون مع مصطفى والي، شاركت أمير في تأليف الفيلم وبطولته وبالطبع إنتاجه من خلال شركتها «إيزيس للإنتاج السينمائي»، وتدور أحداثه حول فتاة هندية تدعى ماهاتا جومى تنتقل إلى مصر مع أبيها وشقيقها، وتلتقي في القاهرة بشاب مصري، ثم تنشأ بينهما علاقة عاطفية، وبسبب التقاليد السائدة التي تحرم على المرأة اختيار شريكها، تضطر ماهاتا إلى إخفاء الأمر عنهما. تتصاعد الأحداث ويتضح حجم القمع الذي تعيش تحت وطأته الفتاة بين أسرتها، حيث يجبرها شقيقها على الزواج من رجل ثري، وبعد خطبتها للأخير يصبح هو الاَخر مصدرًا من مصادر العنف ضدها، فتعقد العزم على الهروب مع الرجل الذي أحبته إلى الإسكندرية على أمل التحرر من القيود التي تكبلها. لكن السلطة الأبوية ستنتصر في هذه الجولة وتطيح بأحلامها، بعد أن يتمكن خطيبها من الوصول إليها، والعودة بها إلى القاهرة.

في النهاية، تتناول ماهاتا  السم منتحرةً، وهي في نظر مرتكبي العنف ضدها تكفر عن خطيئتها، المتمثلة في عدم الطاعة والتمرد والخيانة، إلا أن اختيار الموت بيد البطلة نفسها بدلًا عن قتلها على يد الأخ أو الخطيب، يعكس احتجاجًا وتحديًا لواقع يقوم على ثنائية الذكورية والدونية.

الخطيئة كانت عدم الامتثال لأمر الرجال، والتكفير عنها لم يأت بالانصياع أيضًا. لقد رفضت الاستسلام للأمر الواقع، وبعثت برسالة عبر الانتحار تعلن انسحابها من هذا العالم الذي سئمته، وكأنها تتمتم «هذا المجتمع ينضح بقبحه، وذكوريته أشد فتكًا من السم، لا حق في الاختيار وإن حدث أضحى خطيئة لا تغتفر، وإذا كان الموت هو السبيل للفكاك منه، فقد اخترت الموت على أن أعيش في هذا الواقع التعِس.»

*ترقبوا الحلقة الثانية من قراءة «ولها وجوه أخرى» في مناهج المخرجات المصريات ومعالجاتهن للشخصيات النسائية والقضايا النسوية