إعداد: شهد مصطفى وآلاء حسن

تحت عنوان «عولمة الأسواق» كتب ثيودور ليفيت أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد في العام 1983، مقالًا عن التطور التكنولوجي الحثيث وتغير السلوك الاجتماعي على نحو يُمكّن شركات مثل كوكا كولا (Coca Cola)، وماكدونالدز (McDonald’s)، وكلوقز (Kellogg)، من بيع منتجاتهما منخفضة التكلفة في معظم دول العالم، واصفًا الواقع التجاري الجديد بـ «العولمـة- Globalization».

بعد أن صك ليفيت مصطلح «العولمـة – Globalization» تداولته الأوساط الأكاديمية والصحافية الغربية على نطاق واسع، وتجاوزت غايته في الكتابات والخطابات الإشارة إلى السيولة في حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال عبر الحدود، إلى وصف الانتقال اليسير والمتسارع للمعلومات والأفكار والمنتجات الثقافية والأيديولوجيات السياسية بين الدول.

تتباين رؤى المؤرخات والمؤرخين بشأن البداية الفعلية للعولمة، إلا أن الكثير منها يرجح أن البوادر كانت في القرن الثامن عشر بالتزامن مع الثورة الصناعية، أما العولمة المقترنة بالليبرالية الجديدة التي نعرفها اليوم فالاعتقاد الشائع بشأن بدايتها يصلها بالتغيرات الكبرى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وبالأخص بروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى تتنامى هيمنتها على الاقتصاد والتجارة العالميين، وتُصدّر إلى العالم نموذجها السياسي بوصفه النموذج المثالي الذي لا بد أن تسعى سائر الدول إلى تطبيقه.

في كتاب «لكزس وشجرة الزيتون: فهم العولمة» الصادر في العام 1999، عرّف الصحافي الأمريكي توماس فريدمان العولمة بأنها إنشاء وتعضيد الترابط الاقتصادي المتبادل بين الدول، زاعمًا بأنها ستؤدي إلى تقليل الصراعات والنزاعات حول العالم. لكن السنوات أثبتت انعدام صحة ما روج إليه فريدمان، فالعنف والصراعات لا يتراجعان والعولمة لا تحدث على مستوى أفقي بين الدول بل عامودي، إذ تنتقل المعرفة والسلع والقيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية من الشمال إلى الجنوب، وقد ساعدت هذه العمليـة المستمرة الدول الرأسمالية في الشمال وعلى رأسها الولايات المتحدة على توسيع نطاق السياسات الليبرالية الجديدة وتعميم النمط الاستهلاكي الذي يجعل لهذه الدول اليد الطولى في الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية.

الهياكل الإمبريالية والنيو ليبرالية هي روح العولمـة ووقودها، وباستمرار هذه الهياكل راسخةً يبقى النظام الأبوي المهيمن على العالم من أقصاه إلى أدناه محصنًا من الخلخلة، فقد جعلت النظم الاقتصادية النيو ليبرالية النساء في الجنوب العالمي، والمهاجرات والملونات في الشمال تروسًا في آلات الإنتاج، الذي تتربح منه الطبقة الرأسمالية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية.

ورغم جلاء هذه الحقيقة لم تتخذ التيارات النسوية في مجملها موقفًا مناهضًا إزاء العولمة والقوى الدافعة لطوفانها، فقد تباينت المواقف بين الرفض المطلق، والتحفظ، والقبول، والتمازج.

راقت العولمة للتيار النسوي الليبرالي في الشمال العالمي، الذي طالما عُرِفَت جماعاته بالنزعة المركزية الأوروبية، وبنظرتها إلى العالم من زاوية النساء البيضاوات المنتميات إلى الطبقة الوسطى (إذا لم تكن البرجوازية)، بالإضافة إلى النبرة الاستعلائية – كثيرًا إلى حد الصلف – في خطابها عن النساء في دول الجنوب العالمي الذي غالبًا ما يختصرهن في كتلة متجانسة من الضحايا المقموعات، اللائي يحتجن إلى محاميات للدفاع عن حقوقهن. وقد قدمت منابر سياسية واقتصادية دولية كالأمم المتحدة والبنك الدولي يد العون إلى النسويات الليبراليات حتى يقدّمن أنفسهن كمنقذات للنساء في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كما أسعفتهن هذه المؤسسات على تكريس النموذج الرأسمالي للنجاح الفردي والترويج له مقياسًا لتحرر المرأة وتمكّنها، بما يتجاهل التقاطع بين الذاتي والجماعي والتشابك بين التجارب الفردية والظروف المحيطة.

الالتصاق المغناطيسي بين النسوية الليبرالية والعولمــــة

نشأت العلاقة التوافقية أو التكاملية بين النسوية الليبرالية والعولمـة في مستهل القرن العشرين، ثم ازدادت متانتها بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية وبدء الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي.

في خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بدأت مساعي أقلمة خطاب ومطالب الحراك النسوي الأمريكي، وبعد الحرب العالمية الأولى شرعت بعض جماعات «تحرير المرأة» في الولايات المتحدة وبريطانيا على وجه الخصوص في عولمة أجندتها، لا سيما فيما يتعلق بالحقوق السياسية. وكانت أبرز خطوة في هذا المنحى هي التي اتخذتها رائدات «حركة تحرير المرأة» في الولايات المتحدة، وفي مقدمتهن سوزان برونيل أنتوني وإليزابيث كادي ستانتون، عندما قررن تدشين مؤسسة نسوية تتجاوز الحدود، وتجمع بشكل دوري ممثلات عن منظمات في دول أخرى تناضل من أجل حقوق النساء في التعليم والعمل والتملك، عن طريق تنظيم مؤتمرات تسمح لهن بتبادل الأفكار والتنسيق فيما بينهن بشأن وسائل الضغط ذات الجدوى.

عقدت المنظمة التي حملت اسم «المجلس الدولي للنساء» أول تجمع لها في العام 1888 بالعاصمة الأمريكية واشنطن، وقد نظمته تحت عنوان «المؤتمر الدولي للنساء»، ومع أن المنظمة دثّرت نفسها ونشاطها بغطاء دولي، فإن جميع عضواتها كن أمريكيات من الطبقة الوسطى البيضاء، يجتمعن مع نساء بخلفية مشابهة من كندا وبعض دول شمال وغرب أوروبا، وتتمركز نقاشاتهن حول ما تجده فئة واحدة ومحددة أولوياتٍ للنساء.

في العام 1902 ظهرت ثاني منظمة توصف نفسها بالدولية، بعد أن عزمت مدافعات عن حق النساء في الانتخاب في الولايات المتحدة وبريطانيا على تأسيس تحالف يجمع قائدات الحراكات التي تناضل من أجل هذا الحق في العديد من الدول، واخترن له اسم «التحالف الدولي لحق النساء في الانتخاب»، إلا أنه لم يكن سوى تحالف أمريكي أوروبي أبيض، ولم تشهد مؤتمراته منذ التأسيس وحتى العام 1923 مشاركة نساء من دول الجنوب التي كانت قد بدأت فيها حركة نسائية منشغلة بقضيتي تعليم الفتيات وخروج النساء إلى العمل.

شارك لأول في مؤتمر التحالف الدولي لحق النساء في الانتخاب الذي انعقد في العام 1923، ممثلات عن جماعات ومنظمات نسوية من 43 دولة كانت مصر إحداها، وشاركت وقتها ثلاث قياديات بالاتحاد النسائي المصري وهن هدى شعراوي، وسيزا نبراوي، ونبوية موسى، وصار الاتحاد منذ ذلك الحين عضوًا بهذا التحالف.

في تلك الفترة، انطلقت مواقف عديدة للمجلس الدولي للنساء ( (ICWوالتحالف الدولي لحق النساء في الانتخاب (IWSA) من الأرضية التي كان يقف عليها التيار النسوية الليبرالي الغربي، إذ اتسم خطاب المنظمتين بالتمركز حول النساء ذوات البشرة البيضاء، المتعلمات، المتزوجات، وبدا متعاميًا عن خبرات العاملات، والملونات، والقابعات تحت الاستعمار الأوروبي. كما أن خطابهما كان متماهيًا مع ما تروج له حكومات بلدانهما عن أنها منبع الحرية والحداثة وناقلها إلى العالم.

وإذا كانت الحركات النسوية الليبرالية قد تجاهلت معاناة النساء الملوّنات في الشمال، فقد أغمضت عينيها كليًا وصمّت أذنيها تمامًا عن العنف المركب الذي تواجهه النساء في الجنوب العالمي؛ فلم يتخذ التحالف الدولي لحق النساء في الانتخاب، الذي أضحى لاحقًا التحالف الدولي للنساء (IAW)، موقفًا مناهضًا حيال الاستعمار في إفريقيا وآسيا، الذي كان يمثل تجليًا من تجليات الهيمنة الأبوية المنظمة التي ترتكن إلى السيطرة والعنف والاستغلال.

في المقابل، سعى التحالف إلى الحشد ضد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد عقد مؤتمرًا كبيرًا في لاهاي بعد تسعة أشهر من اندلاع الحرب العالمية الأولى، بمشاركة ما يربو على ألف امرأة من 12 دولة في أوروبا وأمريكا الشمالية للاحتجاج على الانتهاكات التي تتعرض لها النساء في الدول المتناحرة، والمطالبة بوقف الحرب فورًا وإحلال السلام. وقد انتهى المؤتمر بتشكيل «رابطة النساء الدولية للسلام والحرية» التي هيمن على عضويتها نساء من بريطانيا، لقبن أنفسهن بالمدافعات عن السلام العالمي، الذي قدّرن أن العائق الأكبر أمامه هو الحروب العسكرية والنازية والفاشية المتصاعدة في أوروبا، بينما لم تعتبر عضوات الرابطة التوسع الاستعماري الأوروبي في الجنوب حائلًا ومانعًا للسلام العالمي، ولم تخصص مؤتمرات أو بيانات للاحتجاج عليه حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

النسويـة الدوليـة الليبرالية

في خضم الحرب الباردة، تمركز التحالف الدولي لحق النساء في الانتخاب (الذي أصبح وقتها التحالف الدولي للنساء) في خندق الدفاع عن الكتلة الغربية الليبرالية في مواجهة الكتلة الشرقية الشيوعية، واستخدم منصات الأمم المتحدة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لها (ECOSOC) لتبرير الصراع ليس فقط الأيديولوجي بل العسكري أيضًا، بزعم أن الحرب اضطرارية وغايتها هي تحرير الشعوب من الأنظمة القمعية التي تنتهك حقوقها.

في تلك المرحلة، اقترن مصطلح النسوية الدوليـة بكل من التحالف الدولي للنساء، والمجلس الدولي للنساء، ورابطة النساء الدولية للسلام والحرية، نظرًا للمساحة التي أتيحت للمنظمات الثلاث في الملتقيات الدولية، خاصةً في ظل تمتعها بالعضوية الاستشارية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، وضمانها لميكروفونات مفتوحة دائمًا لعضواتها في لجنة الأمم المتحدة لوضع المرأة (CSW)، وهي الامتيازات التي لم تتوافر لمنظمة أخرى ذات أجندة نسوية متجاوزة للحدود، ولها نشاط في العديد من الدول حول العالم، وهي الاتحاد النسائي الديمقراطي الدولي (WIDF).

تأسس الاتحاد النسائي الديمقراطي الدولي في العام 1945، وتشارك في تدشينه مجموعة من المدافعات عن حقوق النساء اليساريات من فرنسا، وأستراليا، وبلغاريا، ورومانيا، وكانت واحدة من أولوياته هي دعم الحركات النسوية التي ناضلت في الخمسينيات والستينيات ضد الاستعمار في إفريقيا وآسيا.

حصل الاتحاد النسائي الديمقراطي الدولي، مثل المنظمات سالفة الذكر، على العضوية الاستشارية بالمجلس الاقتصادي الاجتماعي التابع للأمم المتحدة في العام 1947، وشاركت عضواته في الاجتماعات السنوية للجنة وضع المرأة بالأمم المتحدة، ولكن مع احتدام الحرب الباردة أسقِطَت عضوية الاتحاد بالمجلس في العام 1954، ومُنِعَ من المشاركة في اجتماعات لجنة وضع المرأة بالأمم المتحدة حتى العام 1967، وذلك بسبب معارضته للسياسات الليبرالية الرأسمالية، ومواقفه المناهضة للإمبريالية الأمريكية، وتوجهاته اليسارية بطبيعة الحال.

على الجانب الآخر، كانت أبواب المؤسسات الدولية الكبرى مشرعة أمام التحالف الدولي لحق النساء في الانتخاب، والمجلس الدولي للنساء، ورابطة النساء الدولية للسلام والحرية التي كانت تصور انحيازها إلى الغرب الليبرالي بالمسير في الطريق الواعد بالحرية والعدالة والمساواة، وهي القيم التي تناضل الحركات النسوية في كل مكان من أجلها، إلا أن سردية هذه المنظمات بدت مائعة إزاء استخدام الأسلحة كي تنتصر الأفكار، رغم أن العنف الجنسي ضد النساء، وبالأخص الاغتصاب، هو أحد أسلحة الحروب الفتاكة التي تتمسك الجيوش النظامية وغير النظامية باستخدامها.

وفي هذا السياق، اتسم خطاب النسوية الدولية الليبرالية بشأن جرائم العنف الجنسي المرتبط بالنزاع المسلح إبان الحرب الباردة بالازدواجية؛ فعلى سبيل المثال، انتفض التحالف الدولي للنساء غضبًا ضد جرائم العنف الجنسي التي ارتكبتها قوات الاتحاد السوفيتي ضد مئات الآلاف من النساء الألمانيات، حينما سيطر السوفيت على الجانب الشرقي من ألمانيا فيما بين العامين 1945 و1949، بينما لا يوجد ما يوثق احتجاجًا مثله ضد جرائم العنف الجنسي التي ارتكبها الجيش الأمريكي بحق النساء الفيتناميات بعد انخراط قواته في حرب فيتنام.

هناك شواهد على تغير خطاب المنظمات النسوية الدولية الليبرالية إزاء الاستعمار القديم، والعنصرية العرقية، والنضال النسوي في الجنوب، إلا أنه لم يختلف كثيرًا تجاه الرأسمالية، والفردانية، وأشكال الاستعمار الحديث. وحتى يومنا هذا لا تزال معظم المنظمات النسوية التي تلحق بأسمائها كلمتي الدولي والدولية مسجورةً بالتراتبية والازدواجية.