حقق المنتخب الإسباني لكرة القدم للنساء إنجازًا تاريخيًا بتتويجه ببطولة كأس العالم للسيدات في أغسطس الماضي، للمرة الأولى في مسيرته الممتدة لـ٢٣ عامًا وفي ثالث مشاركاته على الإطلاق في البطولة الأهم دوليًا في ساحة كرة القدم النسائية، إذ لم تظفر إسبانيا سوى بمشاركتين وحيدتين ومتأخرتين في منافسات كأس العالم للسيدات، إحداهما في نسخة العام ٢٠١٥ والأخرى في العام ٢٠١٩.

على الأرجح لم يعلم إلا قليلون خارج القارة الأوروبية بهذه الخلفيات، لأن الإعلام الرياضي الدولي لم يوجه اهتمامًا إلى إنجاز اللاعبات الإسبانيات الكبير، بالقدر الذي ظهر عندما فاز المنتخب الأمريكي بالبطولة قبل أربعة أعوام لتعتلي الولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول المتوجة بكأس العالم للسيدات، ويعود هذا إلى انشغال الإعلام الرياضي وغير الرياضي بتتويج المنتخب الإسباني بالبطولة لداع آخر غير الإنجاز الذي تحقق، وهو الحدث الذي أفسد الأجواء الاحتفالية وطمر الانتصار، وكان السبب فيه رجل ذو سلطة يتغمده شعور بالاستحقاق الذكوري المطلق.

إنجاز نسائي ضخم أذواه غرور ذكوري واستعراض فحولي

«هل تعتقدون أنني أحتاج إلى أن أستقيل؟، دعوني أخبركم؛ أنا لن أستقيل، أنا لن أستقيل، أنا لن أستقيل، أنا لن أستقيل، أنا لن أستقيل.»

بصوت جهور وانفعال حاد وسط تصفيق حماسي، قال هذه الكلمات لويس روبياليس رئيس الاتحاد الإسباني لكرة القدم الموقوف مؤقتًا، في خلال انعقاد الجمعية العمومية غير العادية في الـ٢٥ من أغسطس الماضي، على خلفية الاحتجاجات التي انتشرت في عدد من المدن الإسبانية للمطالبة بعزله من منصبه ومعاقبته بتهمة الاعتداء الجنسي على لاعبة كرة القدم جينيفر هيرموسو، بعد أن جذب رأسها وقبلها على شفتيها أثناء تسليم المنتخب الإسباني الميداليات الذهبية، عقب الفوز في المباراة النهائية ببطولة كأس العالم لكرة القدم للسيدات.

في كلمته أمام الجمعية العمومية نفى روبياليس أن يكون تقبيله لجيني هيرموسو على شفتيها إبان تسليم الميداليات اعتداءً جنسيًا بأي شكل من الأشكال، زاعمًا بأن الأمر كان رضائيًا ومتبادلًا، وأنه سأل اللاعبة عما إذا كانت لا تمانع أن يقبّلها وقد جاء ردها بالموافقة.

بالإضافة إلى ادعائه بأن ما حدث كان رضائيًا، قدم روبياليس نفسه كضحية تتكاتف ضده أطراف عديدة، بدايةً من جيني نفسها وزميلاتها في المنتخب اللاتي يطالبن الاتحاد بإقالته، مرورًا بمعارضيه داخل منظومة كرة القدم الوطنية، وصولًا إلى الجماعات والمؤسسات النسوية في إسبانيا.

زعم رئيس اتحاد كرة القدم الإسباني، على عكس ما رأى عشرات أو ربما مئات الملايين حول العالم عبر شاشات التلفاز والأجهزة الذكية، أن اللاعبة هي التي جذبته نحوها وعانقته قبل أن يسألها عن إمكانية تقبيلها، واصفًا الهجوم عليه في وسائل الإعلام وخروج مظاهرات في أنحاء متفرقة من البلاد احتجاجًا على استمراره في منصبه، بعملية اغتيال اجتماعي يقف وراءها معارضوه داخل منظومة كرة القدم الإسبانية الذين يحتفون بالنسوية المزيفة، إحدى المصائب المبتلى بها البلد، على حد تعبيره.

يعلم روبياليس، مثل معظم المعتدين الجنسيين، أنه لا يستطيع منفردًا أن يُثبّت صورة الضحية عن نفسه لدى الرأي العام وأنه في حاجة إلى أشخاص ومؤسسات تدافع عنه وتؤيد موقفه، ولذلك قاد الاتحاد الإسباني لكرة القدم، الذي يضم ست عضوات فقط من بين ١٤٠ عضوًا، إلى إصدار بيان يكذب جيني هيرموسو في قولها إنها لم توافق على القبلة ولم تسع إلى تشجيع رئيس الاتحاد على القيام بذلك.

كما حاولت والدة روبياليس أن تساعده في الوصول إلى هدفه من خلال استثارة تعاطف الناس معها ومعه، إذ أعلنت المكوث داخل إحدى الكنائس العتيقة والإضراب عن الطعام احتجاجًا على ما وصفته بمطاردة غير مبررة وغير إنسانية ومتعطشة للدماء تستهدف ابنها، وقد صرحت إلى إذاعة تيلينسكو الإلكترونية الإسبانية بأنها لا تمانع أن تموت في سبيل العدالة.

ومثلما عزم روبياليس على التمثل في صورة المغدور به الذي تكالبت عليه الخصوم، فقد حرص كذلك ولا يزال على تقمص دور المحارب الذي لن يقبل بالهزيمة، إذ يصر على عدم الاستقالة في تحدٍ للمجتمع الغاضب والحكومة التي عزمت على اتخاذ إجراءات ضده، واستخفافٍ بقرار لجنة الانضباط بالاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA) الذي يقضي بإيقافه لمدة ثلاثة شهور، وذريعته في ذلك هي القوانين الرياضية الحالية في إسبانيا التي تحول دون عزله. وفي هذا السياق أيضًا، أصدر روبياليس بيانًا تعقيبيًا على قرار المحكمة الإدارية الرياضية في إسبانيا (TAD) بفتح تحقيق بشأن اعتدائه جنسيًا على جيني هيرموسو، وقد تعهد في أثنائه بمواصلة الدفاع عن نفسه لإثبات الحقيقة، معتبرًا أن هذه الإجراءات بمثابة إعدام سياسي وإعلامي له.

النهج الذي دلف إليه روبياليس غالبًا ما يلجأ إليه الجناة في قضايا الاعتداء الجنسي، لا سيما تلك التي تصبح محور اهتمام الرأي العام أو تشغل بقوة مجتمعًا بعينه، فالغاية التي يريد إدراكها المعتدون هي إسقاط الإدانة على الناجيات أو الناجين لدفع المحاسبة والعقاب بعيدًا عنهم والخروج من المأزق بلا خسائر، إذا لم يكونوا من أصحاب الحظوظ الذهبية الذين يتجاوزون المآزق ببعض المكاسب، ولعل أحد أبرز هذه النماذج هو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؛ الذي وجهت إليه ٢٦ امرأة خلال حملته الانتخابية الأولى اتهامات بالاعتداء الجنسي باختلاف درجاته، ثم ازدادت موثوقية رواياتهن بعد تداول مقطع صوتي مسرّب يتحدث في خلاله ترامب مباهيًا بارتكابه أفعالٍ تندرج تحت توصيف الاعتداء الجنسي، ومع ذلك لم تتأثر شعبيته وفاز بالانتخابات الرئاسية في العام 2016. وفي الوقت الحالي تتعاظم فرصه في الفوز بترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية مرة أخرى العام المقبل، وهو الذي أدانته محكمة مدنية قبل أربعة شهور بالاعتداء الجنسي على الكاتبة الأمريكية إي جين كارول.

يركن دونالد ترامب إلى استراتيجية محددة في مواجهته لاتهامات الاعتداء الجنسي والاغتصاب المتوالية، تناظر تلك التي يعوّل عليها لويس روبياليس في أزمته الأخيرة، والبادي هو أن المعتدين الجنسيين، أمثال روبياليس وترامب، ما برحوا مقتنعين بفعالية هذه الاستراتيجية المعروفة باسم (DARVO) وقدرتها على التأثير في الرأيين الشخصي والعام.

كيف يصنع المعتدون أراجيف المخطط التآمري الذي يحاك ضدهم؟

كل ما فعله رئيس اتحاد كرة القدم الإسباني الموقوف خلال الأسابيع القليلة الماضية، يأتي تحت مظلة استراتيجية التلاعب النفسي (DARVO)، ويختصر هذا الاسم ثلاثة تكتيكات هي: (الإنكار – Deny) حيث ينكر المعتدون وقوع الاعتداء، و(الهجوم – Attack) في إشارة إلى هجوم الجناة لفظيًا على الناجيات والناجين والأطراف الداعمة لهم، و(قلب دوري الضحية والمعتدي – Reverse Victim and Offender) إذ يروّج المعتدون ويجزمون بأنهم الضحايا والطرف الآخر هو الجاني (عليهم).

ظهر مصطلح (DARVO) لأول مرة في التسعينيات حين استخدمته جنيفر جوي فريد الأكاديمية الأمريكية والمنظرة في علم النفس، لتوصيف رد الفعل الشائع للمعتدين حينما تصبح الاتهامات ضدهم علنيةً، إذ يحاول مرتكبو جرائم العنف الجنسي عبر استراتيجية (DARVO) أن يصرفوا نظر المجتمع عن الجريمة الأصلية ويحولوه تجاه الناجيات والناجين، لإقناع أكبر عدد ممكن من المراقبين والمتابعين للقضية بأن الحدث مجرد أكذوبة مُختلَقة لتدمير سمعتهم والقضاء على مستقبلهم، بهدف تطوير حالة تعاطف معهم تساعد في منع وقوع العقاب أو تجعلهم مؤطرين بصورة بطولية إذا خضعوا للمحاسبة.

نفّذ رئيس اتحاد كرة القدم الإسباني الخطوات الثلاث لاستراتيجية (DARVO) حرفيًا، إذ بدأ بنفي ارتكابه للاعتداء جنسي، ثم هاجم الناجية/الضحية ومن يطالبون بمعاقبته، واتهم الجميع بالتآمر عليه لتشويه سمعته وإنهاء مسيرته بفضيحة مفبركة، بعد ما وصفه بإدارة ناجحة لاتحاد كرة القدم الإسباني على مدى ست سنوات.

لكن الاستراتيجية لم تحقق لروبياليس ما تمناه، فالغضب ما برح متأججًا ومطالبات إبعاده عن منصبه لم تتراجع رغم محاولات الاتحاد الوطني لكرة القدم لتسكين الموقف، عن طريق الإعلان عن إقالة مدرب منتخب النساء خورخي فيلدا الذي أعرب عن دعمه لروبياليس، وتعيين المدربة مونتسي تومي بدلًا منه لتكون المرة الأولى التي تتولى فيها امرأة تدريب منتخب كرة القدم الإسباني للسيدات.

في حوار أجراه موقع نيوترال (Newtral) مع لاعبة كرة القدم الإسبانية فيرونيكا بوكيت المحترفة بالدوري الإيطالي، قالت الأخيرة إن إزاحة روبياليس – لو حدثت – لن تكون كافية لحل الأزمة بسبب وجود كثيرين مثله، مشددةً على أن المشكلة خطيرة ولا يمكن اختزالها في شخص واحد، بيد أن اللاعبة كشفت في الحوار ذاته عن ثقتها في قدرة النساء على تغيير الثقافة السائدة في الرياضة، وقالت إن «ما فعله روبياليس هو جزء من المجتمع المراد تغييره، والذي يتغير بالفعل عامًا بعد عام.»