كم من عائلة عمدت إلى إقناع أبنائها الأكبر سنًا بأن ثمة مسؤولية تقع على عاتقهم تجاه أشقائهم الصِغار، ولذا يجب عليهم أن يعاونوا الوالدين في رعايتهم، وأن يكونوا نموذجًا لهم في القول والفعل حتى إذا كانت الأعمار متقاربة للغاية.

بسبب هذا النسق في التعامل مع الأبناء الذين شاءت الأقدار أن يكونوا الأوائل في الترتيب الميلادي، يتحمل طفلات وأطفال كُثر أعباءً نفسية وجسدية تحرمهم من اختبار مرحلة الطفولة بشكل صحي، وتنحرف بهم بعيدًا عن مسار التطور الطبيعي عاطفيًا واجتماعيًا. علمًا بأن الأعباء لا تذهب بعيدًا في المراحل العمرية اللاحقة، إذ تظل أرواحهن وأجسادهن مثقلةً بها وإن تغيرت أشكالها من وقت إلى آخر تبعًا للظروف المحيطة.

الاعتقاد بأن الأبناء الأكبر سنًا يعانون أكثر من إخوتهم المولودين بعدهم، يتبناه طيف من علماء النفس مستندين إلى نظرية الترتيب الميلادي (Birth Order Theory)، التي تفترض أن تعامل الوالدين مع أبنائهم يختلف بناءً على ترتيب ميلادهم. ويجادل الطبيب النمساوي ألفريد أدلر مؤسس علم النفس الفردي وصاحب نظرية الترتيب الميلادي، بأن الديناميكيات داخل الأسرة تساهم بقوة في تشكيل شخصية الفرد خلال سنوات التكوين الأولى، زاعمًا بوجود أوجه تشابه ثابتة في علاقات الوالدين بأبنائهم تتجاوز الزمان والمكان، وتباين الأوضاع والظروف.

انبثق عن نظرية الترتيب الميلادي مصطلح متلازمة الابن/الابنة الأكبر سنًا (Oldest Child Syndrome)، الذي يشير إلى مجموعة من اضطرابات الشخصية تصيب الأفراد الذين ولدوا أولًا نتيجة اضطلاعهم بدور الوالدة الثانية أو الوالد الثاني، والتزامهم برعاية الأشقاء الأصغر سنًا وتقديم العون لهم على شتى المستويات.

النظرُ في متلازمةِ الأبناء الكبار عبر عدسة النوع الاجتماعي

اعتبر بعض المتحمسين للافتراض الذي ترتكز إليه متلازمة الابن/الابنة الأكبر سنًا أن الإطار النظري لها أغفل عنصرًا مهمًا وهو النوع الاجتماعي، وطفقوا يعيدون النظر في الفرضية بعد إضافة النوع الاجتماعي كبعد أساسي في تحليل تجارب هذه الفئة، فتراءى لهم أن العبء المادي والعاطفي الذي يتحمله الابن الأكبر لا يتساوى إطلاقًا مع ذلك الذي ينوء به كاهل الابنة الكبرى، وقد أسفر هذا الجدال عن ظهور مصطلح متلازمة الابنة الكبرى (Eldest Daughter Syndrome) الذي لا ينتسب صكه إلى عالمة أو عالم بعينهما، ولم يحظ حتى الآن بتسجيل علمي.

تقول إلين برادلي ويندل، المعالجة النفسية ومديرة معهد فالنسيا للعلاقات في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، إن الفتيات الكبريات، على عكس الأبناء الذكور الأكبر سنًا، غالبًا ما تتوقع منهم الأسر أن يتسمن بالنضج، وأن يلعبن دور أمهاتهن التقليدي في المنزل، بمعنى أن يقمن بالأعمال اليومية غير المأجورة، ويذهبن لشراء احتياجات الأسرة من السوق، بالإضافة إلى الاعتناء بإخوتهن وكبار السن إذا تعذر هذا على الأم لأي سبب.

تشير متلازمة الابنة الكبرى إلى التأثير السلبي الذي يلحق بالفتاة، التي حلت في الترتيب الأول بين الأبناء، على المستويين النفسي والسلوكي نتيجة تحويلها من طفلة إلى أم (Parentification) على النحو الذي يتوافق مع التوقعات الاجتماعية الأبوية تجاه دور الأمهات، إذ تؤدي هذه العملية إلى اضطرابات في الشخصية تنعكس في سعي الابنة الكبرى دائمًا إلى إرضاء المحيطين بها، حيث لا تكترث إلى احتياجاتها وتطلعاتها قدر ما تفعل تجاه ما يريده ويحتاجه الآخرون، مما يدفعها في كثير من الأحيان إلى إخفاء مشاعرها والحد من الإفصاح عن رغباتها، كما تزيد احتمالية إصابتها برهاب الفشل، وهي الحالة المعروفة باسم الأتيكيفوبيا (Atychiphobia) التي تتسبب في المداومة على نقد الذات ولوم النفس بكل قسوة.

تتعوّد الابنة الكبرى منذ سن صغيرة على الجمع بين مهام متعددة في الوقت ذاته، ما بين رعاية الإخوة، والقيام بالأعمال المنزلية، والاعتناء بالكبار، واستذكار الدروس، والقيام ببعض المأموريات نيابة عن والديها، ولهذا تتحول إلى شخص يلهث وراء الكمالية (Perfection) بعد أن باتت تعتقد أن استحقاقها يأتي من نجاحها في تأدية مهام عديدة ومختلفة مع بعضها البعض بل وأن تفعل ذلك على أفضل نحو، مما يضعها تحت ضغطٍ هائل على صحتها الجسدية وكذلك النفسية.

حين أضحت تطبيقات التواصل ساحةً للتضامن بين البنات الكُبرَيات

خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري برز وسم (#EldestDaughterSyndrome) أو #متلازمة_الابنة_الكبرى، بعد أن شرعت عشرات المراهقات والشابات في الولايات المتحدة الأمريكية في التغريد والتدوين به، ثم لحق بهن فتيات ونساء في دول أخرى كبريطانيا، وكندا، والهند، وباكستان، وأستراليا.

وكانت قد بدأت فتيات ونساء، هن الكبريات بين إخوتهن، في شهر يناير الماضي بنشر تغريدات وتدوينات ومقاطع مصورة لهن مرفقة بوسم #متلازمة_الابنة_الكبرى، يكشفن فيها عن المسؤوليات الثقيلة التي ألقيت على عاتقهن في سن صغيرة لسببين متشابكين وهما موقعهن في الترتيب الميلادي وجنسهن، وقد أجلت حكاياتهن تماثلًا فيما عايشنه خلال مرحلة الطفولة، وتشابهًا في الأثر السلبي الذي تترجمه قراراتهن، واختياراتهن، وأفعالهن.

وفي هذا السياق، نشرت شابة عبر حسابها على تطبيق تيك توك نصًا بعنوان «قصة معاناة الابنة الكبرى»، كانت قد خطته قبل سنوات قليلة لتعبر عن ما يجول بخاطرها من أفكار ويعتمل داخلها من مشاعر كامرأة تعاني من متلازمة الابنة الكبرى. وفي جزء مما كتبته تقول «أن تكوني الأخت الكبرى هو عبء صامت. إنه شعور بالوحدة. تكاد أن تضيع عليكِ حياتك لأن لديكِ مشاكل أخرى عليكِ التعامل معها، ولديك عائلة لتحميها. لقد تقدمتِ في السن أكثر من سنك في هذا العمر الصغير. أنتِ دائمًا الناضجة، والصديقة الحساسة، ولا يُمكِنك أن تكوني متهورة فهناك الكثير يعتمد على كفاءتك.»

شاركت أيضًا الصحافية والكاتبة النيجيرية-الإنجليزية بولو بابالولا بالتغريد على وسم #متلازمة_الابنة_الكبرى، ولخصت تجربتها الشخصية في قولها «كونك الابنة الكبرى يجعلك حقًا تشعرين وكأنك نسخة متدربة غير مدفوعة الأجر من الأم الصغيرة التي تعرفينها أحيانًا.»

لم يمتد هذا الحراك الإلكتروني إلى الدول الناطقة بالعربية، وما برحت متلازمة الابنة الكبرى مصطلحًا غير معروف أو متداول في هذه البقعة، ولذلك وجدنا أنه من الأهمية بمكان أن نذهب بما عرفناه إلى نساء هن الأكبر سنًا بين إخوتهن، ونسألهن عما إذا كانت الفرضية المطروحة تتماس مع تجاربهن أم لا.

أنا أيضًا ابنة كبرى عانيت وما زلت أعاني

رجحت هبة أنها واحدة ممن يعانين من متلازمة الابنة الكبرى، بعد أن تعرفت إلى أعراضها واجترت جانبًا مما عاشته في مرحلتي الطفولة والمراهقة، «كان أبي يحثني على تقمص شخصية الأم، وأذكر أنه قال لي ذات مرة بنبرة تحفيزية: البنت الكبيرة لازم تبقى عاقلة وحنينة زي ماما ولازم تاخد بالها من إخواتها زي ما هي بتعمل.»

تردف هبة البالغة من العمر 32 عامًا قائلة «استجبتُ لتشجيع والداي، وصرت مثل الطفلة التي ترتدي ثوب أمها الطويل وحذاءها الكبير، لا يمكنها أن تركض أو تتحرك بحرية وإلا تعثرت أو تمزق ما ترتديه فتعرضت للعقاب. كنت أهتم بإخوتي في كل شيء تقريبًا، من الطعام إلى النظافة الشخصية، واستذكار الدروس، وحل مشكلاتهم مع زملائهم وأصدقائهم، وشراء احتياجاتهم، ومعالجة الخلافات التي تنشب بينهم أو بينهم وبين أبي وأمي. تحمّلت في صمت هذه الأعباء ولم أتذمر أو أشكو على مدى سنوات عديدة تتجاوز العشرين، لأن محبة والداي لي كانت مشروطةً بتقمص هذه الشخصية والنهوض بهذا الدور.»

في إطار قولبة الابنة الكبرى في «قالب الأم النمطي» الراسخ في المخيلة الاجتماعية، قد يعتمد الوالدان في البداية على الثناء والمكافأة لترغيب الطفلات في لعب دور الأم البديلة لأشقائهن، وقد يسلكا الطريق المعاكس فيتبعان الأسلوب العقابي، إذ لا تجد الفتاة حينها حلًا لدرء غضب والديها منها سوى في إجادة تقمس دور الأم التقليدي، وفي كلتا الحالتين تغدو الابنة الكبرى كمن يشاهد مرحلة الطفولة والمراهقة من الخارج.

وتشير الطبيبة النفسية سالي بيكر في تصريحات لجريدة لندن إيفينينغ ستاندرد (The London Evening Standard) إلى أن إدراك المرأة أنها مصابة بمتلازمة الابنة الكبرى، قد لا يحدث قبل الوصول إلى مرحلة الرشد، لافتةً إلى أن الطفلة لا يُمكّنها تخفيف الأمر، كما هو حال الأطفال الذي يعيشون في هياكل أسرية غير مستقرة وغير مساندة، لأنهم لا يملكون في هذه المرحلة قوة التغيير.

إسراء هي الأكبر بين ثلاثة أبناء، وتعتقد – بناءً على تجربتها الشخصية – أن الابنة الكبرى تتعرض لتمييز أثناء الطفولة تعاني من تبعاته على مدى حياتها، «كان الفارق العمري بيني وبين أخي وأختي صغيرًا، عامين وثلاثة أعوام، ومع ذلك حمّلني والداي مسؤولية الاعتناء بهما وحمايتهما، وأقنعاني أن هذا واجبي لأنني أكبر منهما، ولذلك كنت أبقى في الفناء بعد اليوم الدراسي عندما يحضر أحدهما مجموعة تقوية، كي أعود معهما إلى المنزل ولا يعودا بمفردهما، وكنت أرافقهما ذهابًا وإيابًا إلى مراكز الدروس الخاصة، واعتدت أن أتدخل لمعالجة المشاكل التي يقعان فيها قبل أن يعلم بها أبي ويعاقبهما.»

تتابع إسراء ذات الـ36 ربيعًا «لطالما شعرت بأنني أقل منهم حظًا لأنني ولدت قبلهم، وقد أخبرت أبي وأمي أكثر مرة عن انزعاجي مما أراه تمييزًا ضدي ثم توقفت تمامًا، لأن أبي كان ينهرني ويتهمني بالأنانية في كل مرة أفعل ذلك، غير أنني صدقت مع مرور الوقت أنني لو لم أهتم بأخي وأختي وأعتني بشؤونهما باستمرار مهما كان الأمر مرهقًا، سأكون فعلًا شخصية أنانية. الآن يتملكني شعور دائم بالمسؤولية تجاه كل من حولي، وانشغال لا ينتهي بإرضائهم ومساعدتهم حتى لو كان هذا على حساب صحتي العقلية والجسدية.»

لست الأولى في الترتيب الميلادي.. لكنني أختبر هذه المعاناة

يُمنى ليست الابنة الكبرى فقد سبقها في الترتيب صبي يكبرها بثلاث سنوات، لكنها لم تنجُ من متلازمة الابنة الكبرى، وتعزي هذا إلى أن شقيقها الأكبر لم يكن مطالبًا بتحمل المسؤوليات التي أوكِلَت إليها، ومن بينها رعاية شقيقتيها الصغريين، والقيام بالمهام المنزلية رغم أنه الابن الأكبر. لكن أكثر ما يستوقف يُمنى في الطريقة التي يتعامل بها والداها معها، هو عدم تمرير الأفعال التي يعتبرونه خطأ من دون معاقبتها، وتوجيه اللوم إليها مباشرة إذا فعلت إحدى الشقيقتين أي من هذه الأفعال، فيقولان لها عبارات مثل «أنتِ السبب، ما هما بيقلدوا أختهم الكبيرة» و «طبعًا بتعمل زي أختها الكبيرة، عشان كده هتتعاقبي زيك زيها»، بينما لا يتعاملان بهذا الشكل مع شقيقها الذي يحل في الترتيب الأول بين أبنائهم.

تعتقد يُمنى أن نساءً كثيرات حالهن من حالها، يختبرن معاناة الابنة الكبرى وإن كن لا يشغلن الموقع الأول في الترتيب الميلادي، لأن من يكبرهن سنًا ذكر وليس من المعتاد أن يتحمل الابن الأكبر عبئًا فالأعباء العائلية في معظم الأوقات من نصيب شقيقاته.