تدوينة | إينــــاس كمــــال

كنت أمازح صديقًا من دولة عربية فقلت له «أنا لا أعتبر الدعوة إلى قتل جميع الرجال خطاب كراهية.»

حدث هذا على هامش مشاركتنا في أولى الفعاليات التدريبية الخاصة ببرنامج زمالة صحافة الحوار الهادفة إلى تعزيز مكافحة خطاب الكراهية، التي دشنها مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد).

لكن بعد أن قلت هذه الجملة، توقفت قليلًا أمامها لأدرك أننا نقول أحيانًا – أعني نحن المدافعات عن حقوق النساء في مصر أو في الدول الناطقة بالعربية – عبارات كراهية في إطار المزاح أو في أوقات الغضب النسوي المشروع تجاه كل مسببات هدر حقوق النساء على مدى الزمن.

أثناء فترة التدريب تعمق داخلي شعور بأننا نمارس خطاب الكراهية بصورة أو بأخرى؛ تلك الممارسة التي أخشى أن تؤثر على المكتسبات التي نجنيها كنساء في مصر بعد مشقة وعناء.

واحدة من أبرز العبارات المُعبّرة عن خطاب الكراهية الذي أقصده هي «المرأة عدوة المرأة»؛ هذه الجملة الكليشيهية التي تقع عيني عليها لما لا يقل عن خمس مرات يوميًا سواء من رجال أو نساء، ويؤكد كل منهم/ن بمواقف سطحية أن المرأة هي السبب في عدم نيل بنات جنسها لحقوقهن، وهي جملة خبيثة غرضها هو تأجيج الصراع بين النساء أنفسهن حتى لا يتوحدن وينشغلن عن قضاياهن وحقوقهن بالصراع فيما بينهن.

في البداية كنت أعبر عن اشمئزازي وغضبي من هذه الجملة، ثم أجهز ردودًا مقنعة، وأحيانًا كان يتطور بي الأمر فاستخدم أسلوبًا هجوميًا ضد الرجال واتهمهم بأنهم العدو الأول، إلا أن مثل هذه الأساليب ما هي إلا مقدمات لخطاب كراهية متبادل وطويل الأمد.

أقول إننا لا نعادي جنسًا بعينه، لا نقول إن عدونا هو الرجل أو المرأة، بل هي الأفكار الذكورية القمعية التي تحد من حرية النساء وتمنع عنهن حتى النفس الذي يتنفسنه، ولكن يثير قلقي تبني بعض النساء لخطاب الكراهية رغم إدراكهن الكبير لقضية الحقوق والحريات ودفاعهن عنها، وهذا ما يمكن وصفه بـ«النيران الصديقة.»

ننجرف أحيانًا مع حماستنا وغضبنا عند وقوع حادثة قتل/اغتصاب/تحرش جماعي، فتمتلئ الصفحات الرئيسة على موقعي فيسبوك وتويتر بالعشرات من اللعنات وعبارات الغضب والكراهية ضد الرجال عمومًا، ويسخر بعضنا من الأمر بجملة مثل «كل الرجال ما عدا فلان لأنه قمّاص وبيزعل من التعميم»، وهو ما أراه مدخلًا للخطابات العدائية لأن الحراك النسوي لا ينبغي أن نُشَخصن معاركه، فمعاركنا الأساسية هي الحرية والكرامة والعدالة والمساواة وليست معارك ضد شخص أو أشخاص حتى إذا كانوا مصدرًا لخطابات الكراهية مثلما نرى كثيرًا من حسابات على فيسبوك، بعضها يكون مزيفًا، حيث نجد هذه الحسابات المعادية للنساء تنشر صور بعض من يتبنين القناعات النسوية مرفقة بعبارات مسيئة لهن ولتربيتهن وأخلاقهن لمجرد أنهن يقلن إن «المرأة مثل الرجل» أو «يجب أن تتحقق المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء.»

وبعض هؤلاء المعادين هم من أصحاب النزعة الذكورية المُغلّفة بقيم المجتمع والمربوطة بفيونكة التفسيرات الدينية -المغلوطة- الذين يقولون «حاشا لله، لا يجوز أن تتساوى المرأة بالرجل أبدًا، فالرجل سيد المرأة، أو قوّام عليها، أو للرجال عليهن درجة، وغير ذلك من مزاعم.» وكل ذلك كان له أثره على صعود تيار النسوية الإسلامية الذي يدافع عن الدين في مواجهة أصحاب هذه الأقوال التي تسلب النساء حقوقهن، خاصةً خلال السنوات الأخيرة.

تسعى النسوية الإسلامية إلى تفكيك جميع الآيات والأحاديث التي يستشهد بها «رجال الدين» من زاوية مختلفة، وقد أشارت دكتورة نور رفيعة المحاضرة في منهجيات تفسير القرآن بجامعة سياريف هداية الله الإندونيسية – خلال محاضرة بالجامعة الأمريكية في القاهرة – إلى أن الأفضل من مصطلح «رجال الدين» هو تسمية «علماء الدين» أي عالمة أو عالم (كوظيفة لرجل أو امرأة) يتخصصون في الفقه والأمور الدينية الخاصة بالنساء.

وبالحديث عن الفقه نفسه الذي يستقي منه بعض الدعاة المنتشرين بكثافة على الساحة فقه النساء، كشفت الدكتورة نيفين رضا أستاذة الدراسات الإسلامية المشارِكة في جامعة تورنتو الكندية أن الفقه يستخدم خمسة في المئة فقط من الآيات القرآنية، مما يعني أننا أمام فقه وُضِع معظمه وفقًا لمرويات عن السنة.

ويأخذنا هذا إلى انشغال «رجال الدين» بالحديث عن الحلال والحرام للنساء، على حساب الحديث عن صحيح الدين فيما يتعلق بالتسامح والعدالة والصدق وكرم الأخلاق والشجاعة في الحق والأمانة وغيرها، حتى أصبح لدى بعض النساء والرجال تصور بأن الدين الإسلامي موجه فقط إلى النساء، فالمساجد وخطّابها وأحاديث رجال الدين في التلفاز جميعها يمتلئ بكلام عن النساء وما يتعين عليهن فعله أو عدم فعله، بصيغ تحرض الرجال في عائلاتهن ضدهن «خليك راجل، اشكمها، طبق شرع الله، أقم حدود الله، ستُسأل عنها يوم القيامة، إلخ…»

وهذا يحيلنا إلى خطابات بعض المدارس الفكرية النسوية ضد الأديان بشكل مطلق، التي أجد أن الكثير منها يغفل السياق الاجتماعي للدول الناطقة بالعربية وذات الأغلبيات المسلمة الذي تعتبر الأديان أحد المكونات الأساسية فيه، ولذلك حتى إذا كانت هذه الخطابات ليست ذات تأثير سلبي في الدول الغربية فإنها في دول مثل دولنا تتحول من خطابات مقاومة إلى خطابات كراهية وعدائية.

يظهر لدى بعض الفتيات حيرة ألاحظها في المجموعات النسائية المغلقة حين يطرحن أسئلة مثل «يا بنات هو … حلال ولا حرام؟، أصل الشيخ فلان بيقول إنه حرام فعلًا»، وتنهال التعليقات ردًا على السؤال بأن «الدين – أي الدين الإسلامي- قال هذا وفعلًا يحط من قدر المرأة مهما حاولنا تجميله»، ويدلل أصحاب التعليقات على ذلك بأن الخطابات التنويرية لبعض الشيوخ والفقهاء يهاجمها رجال دين – بعضهم في مناصب رسمية – هجومًا حادًا ويقولون إنها تُميَّع الدين وهم يؤكدون أن الدين الإسلامي قد «كرّم» المرأة بجعل «الرجل وليها وحاميها والوصي عليها.»

وقد أصبحت كلمة «تكريم» موضع سخرية وتنكيت، فأجد بعض الصديقات يعلّقن ساخرات «ما أجمل التكريم» عندما يبرز منشور عن رجل تزوج أربع نساء يعشن بما ينفقه لأنهن لا يعملن ويتعرضن للإساءة منه، أو إذا كان المنشور عن رجل ضرب زوجته حتى فاضت روحها إلى بارئها ومع ذلك حُكِم عليه بالسجن المخفف لبضعة أشهر، أو لو كان عن رجل استولى على مصوغات زوجته وأموالها الخاصة معتبرًا إياها حقه لأنه تركها تعمل بوظيفة ثابتة، ويعلقن بهذه الجملة أيضًا حينما تظهر آراء متشددة حول قضايا تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية للإناث وتزويج القاصرات والمواريث والحجاب وغيرها. وأنا لا أقول إن هذا الأسلوب غير مشروع بل من حق كل شخص أن يعبر عن غضبه كيفما يشاء، ولكن لأننا ندافع عن حقوق النساء، ومنشغلات بقضاياهن، وندرك الأثمان التي تكبدتها النساء لتحقيق المكتسبات الحالية خاصةً بعد ثورة يناير 2011، وقتما ناضلن بشجاعة وتحملن سخافات كثيرة وهجومًا بشعًا بلغ حد الاعتداءات الجسدية والجنسية التي انتهت في بعض الأحيان إلى الاغتصاب الجماعي، يجب علينا أن نكون حذرات فلا نكون ممن يتورطون في تصدير خطابات عدائية قد تعطل مساعينا لتحقيق مزيد من المكتسبات أو تأتي علينا بمزيد من التعنت والتعصب والتمييز.

يميز الحركة النسوية في مصر أنها تجمع بين اتجاهات مختلفة ومتباينة من دون أن يهيمن عليها تيار بعينه، فلا هي راديكالية بحتة، ولا ليبرالية خالصة، ولا يغلب عليها كذلك فكر النسوية الإسلامية، ولذلك أتطلع إلى رؤية الحركة النسوية الحالية في مصر تتطور وتستفيد مما حدث في السابق، وأتمنى أن نحذر كمدافعات من تبعات خطابات الكراهية التي قد تنبعث من الداخل، لكي لا تصبح المناطق التي يُكتَب عليها بالبنط العريض «مساحة آمنة للنساء» مجرد ساحات ممنوع على الرجال الدخول إليها، كما لو كان الأمان يكمن في غياب الرجال.

** هذه التدوينة تعبر عن رأي صاحبتها/صاحبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي «ولها وجوه أخرى»