استطاعت الحركة النسوية السوداء (The Black Feminist Movement) أن تهدم اختزال النسوية الليبرالية (Liberal Feminism) لبواعث التمييز والعنف ضد النساء في نوع الجنس منفردًا، بعد نضال عتيد من أجل إجلاء الفروق بين خبرات النساء الملونات ذوات الأصول الأفريقية والنساء البيضاوات ذوات العرق الأوروبي، وقد أضحى العرق بفضل هذا الحراك عنصرًا رئيسًا في المعادلة باعتباره عاملًا مساعدًا في تضاعف وتعدد صور العنف والتمييز ضد النساء.

من ناحية أخرى، لعب الحراك النسوي لنساء الداليت في شبه القارة الهندية دورًا مشهودًا في إثبات التشابك العضيد بين الجنس والطبقة، الذي يؤدي إلى انتزاع حقوق أساسية وجوهرية منهن ويجعلهن أكثر عرضة للعنف، بل ويحمي المعتدين والقامعين من المحاسبة.

تأسست نظرية نسوية الداليت  (Dalit Feminist Theory) استنادًا إلى خبرات نساء هذه الجماعة اللاتي يضعهن النظام الطبقي الهندي في أدنى درجاته، حيث يعشن في فقر مدقع، محرومات من التعليم، مهمشات اجتماعيًا، وتجتمع هذه الظروف عند نقطة بعينها لتتقاطع مع جنسهن كإناث؛ فلا يزداد العنف ضدهن فحسب وإنما يصبحن عرضة لصور من العنف نادرًا ما تطال النساء اللاتي يسبقنهن في الترتيب الطبقي، وأبرزها الاستعباد الجنسي الذي ينتشر على نطاق واسع للغاية بين نساء الداليت.

أطلقت هذه الجماعة اسم الداليت على نفسها في مستهل القرن الماضي، وهي كلمة تعني المضطهدين أو المنبوذين، ولكن لا يعاني جميع المنتمين إلى هذه الجماعة من الاضطهاد بالدرجة ذاتها، إذ تتعرض النساء للعنف الجنسي بشكل روتيني ومبتذل وسط تصالح واسع مع ذلك، وإذا أبلغت إحداهن لدى الشرطة عن تعرضها لأي شكل من أشكاله، لا يدخل السواد الأعظم من البلاغات إلى مرحلة التحقيق حتى مع توافر شهادات بوقوع الجرائم وإفادات بأسماء وأماكن مرتكبيها.

حقيقة لا لبس فيها: اضطهاد النساء ليس أحاديًا

طفق الفصل بين الهويات الثلاث (الجنس والطبقة والعرق) يتلاشى، بالتزامن مع بلورة المنهج النسوي التقاطعي (Intersectional Feminism) على أيدي ناشطات ومنظرات يحملن أيديولوجيات النسوية السوداء، أو النسوية الماركسية، أو النسوية الاشتراكية، وقد تضافرت خبراتهن وقصص الإساءة والإيذاء التي اختزنتها ذاكرتهن لإدراك التقاطع بين الاضطهاد على أساس الجنس، والاضطهاد بسبب العرق أو اللون، والاضطهاد الذي يولده موقع المرأة في الهرم الطبقي، فضلًا عن أن هذا التشابك تبدى جليًا أمامهن في فرص التعليم والعمل المتاحة لهن، وتجاربهن مع نظم العدالة، وأشكال ومستويات التمييز المباشر والبنيوي والثقافي ضدهن.

تُقيّد النساء السوداوات برباط ثلاثي للاضطهاد. في ظل نظام الفصل العنصري، تتحد كل عناصر كينونتهن – جنسهن ولونهن وطبقتهن – لإلغاء حقهن في المساواة الاجتماعية. وفي ظل النظام العنصري والمتحيز جنسيًا، لا تتعرض النساء للاضطهاد قياسًا بالرجال فقط، بل قياسًا ببعضهما البعض.

منشور «القهر المنهجي – المقاومة التي لا تلين» – جنوب أفريقيا

كتبت لويز طومسون، الناشطة النسوية الاشتراكية وعضوة الحزب الشيوعي الأمريكي في العام 1936، مقالًا بعنوان «نحو فجر أكثر إشراقًا»، استخدمت فيه لأول مرة مصطلح الاستغلال الثلاثي (Triple Exploitation) لتصف الاضطهاد الذي تتعرض له النساء السوداوات من جراء التقاطع بين هويات الجنس والعرق والطبقة، وتقول لويز في معرض مقالها «في البلد كله، تواجه النساء السوداوات هذا الاستغلال الثلاثي – كعاملات ونساء وسوداوات. ما يقرب من 85 في المئة من النساء العاملات ذوات الأصول الأفريقية هن عاملات منزليات، أي ما يوازي ثلثي العاملات بالمنازل في الولايات المتحدة الأمريكية، البالغ عددهن اثني مليون عاملة.»

لكن التأطير النظري للاستغلال الثلاثي جاء على يد المفكرة النسوية كلوديا جونز، من خلال مقال كتبته لمجلة الشؤون السياسية (Political Affairs) في العام 1949، تحت عنوان «نهاية لإهمال مشاكل المرأة السوداء». وقد ناقشت كلوديا في مقالها مسألة استغلال النساء ذوات الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة الأمريكية على الأسس الثلاث التي حددتها لويز طومسون، مستخدمةً مصطلحي الاضطهاد المكثف (Intensified Oppression) والاستغلال المفرط (Super Exploitation).

اتهمت كلوديا جونز الحزب الشيوعي الأمريكي، وهي أحد أعضائه، بتبني المواقف الاجتماعية التي تؤبد التحيزين الجنسي والعنصري رغم إعلانه الالتزام بمناهضتهما، كما شددت على أن تحقيق حلم «أمريكا الاشتراكية» التي تراها الضمانة الكاملة لتحرير النساء، يتطلب التوقف عن تجاهل الاضطهاد المركب الذي تواجهه النساء السوداوات وعدم التعامي عن ما يمتلكنه من إمكانيات لتولي قيادة الحركة العمالية.

في المقال أيضًا، ذكرت كلوديا أن النساء ذوات الأصول الأفريقية (مواطنات أو مهاجرات) مرغمات على العمل شئن أم أبين، لسد احتياجات أسرهن التي لا تكفيها الأجور الهزيلة التي  يتقاضاها أعضاؤها من الرجال ذوي البشرة السوداء، بينما لا تضطر النساء البيضاوات إلى التعامل مع هذه المعضلة، وإذا قررن الخروج إلى العمل فالأمر المحقق هو أن أجورهن ستكون أعلى مما تتقاضاه نظيراتهن السوداوات بفارق كبير.

أسفر مقال كلوديا جونز عن نقاش داخل الحزب الشيوعي حول تعاطيه مع الاضطهاد المركب الذي تواجهه النساء ذوات البشرة السوداء، ثم توسع ليشمل كيفية رتق خطاب الحزب بشأن العدالة الاجتماعية والسياسية ليكون أكثر استيعابًا لقضية الاستغلال الثلاثي.

بسبب هذا المقال المعمق والمطول، أضحت كلوديا جونز واحدة من رائدات الفكر النسوي التقاطعي الذي يرفض المقاربات الأحادية في تحليل اضطهاد وتهميش المرأة، ويعترف بخصوصية وضع النساء  السوداوات على وجه التحديد، في ظل هيمنة النظام الأبوي، وسيادة ثقافة التفوق الأبيض، وسطوة النظام الرأسمالي على الولايات المتحدة والعالم.

صعدت أسهم النسوية التقاطعية (The Intersectional Feminism) كمنهج فكري خلال التسعينيات، بعد أن صكت المصطلح الأكاديمية الأمريكية كيمبرلي كرينشو وأوردته في ورقتها البحثية «إلغاء تهميش التقاطع بين العرق والجنس: نقد نسوي أسود للعقيدة المناهضة للتمييز والنظرية النسوية والسياسات المناهضة للعنصرية.»

خلال حياتها، لم تختبر كلوديا جونز اضطهادًا ثلاثي الأبعاد فقط، فمصادر القمع كانت أكثر من ذلك، ظهرت واحدًا تلو الآخر عقب مجيئها مع أسرتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية قادمة من ترينيداد-توباغو التي أذواها الاستعمار البريطاني.

أيقنت كلوديا بعد فترة من وجودها في نيويورك أن حظها ليس أفضل من أجدادها الذين نقلتهم قوى الاستعمار رغمًا عنهم من أفريقيا إلى ترينيداد ليعملوا مجبرين في المزارع، فقد صارت في مواجهة مستمرة مع أشكال مختلفة من الاضطهاد تستهدفها في الوقت ذاته، ومع تراكم الصدامات والصدمات أدركت أن السبب ليس كونها أنثى فقط، ولا لأنها مهاجرة فحسب، أو أن بشرتها داكنة ليس أكثر، ولم يكن أيضًا حضورها في آخر درجات السلم الطبقي هو وحده ما وضعها في مهب الأذى، وإنما فعلت ذلك هذه الهويات متشابكةً، ولذلك جادلت كلوديا جونز بأن الاضطهاد على أسس اللون والطبقة والجنس يرتبط ارتباطًا عضويًا بالإمبريالية الأمريكية والاستعمار الأوروبي وكذلك الرأسمالية، وأكدت مرارًا على أن محاربة هذه الأنظمة والسياسات الاستغلالية هي السبيل للقضاء على الاضطهاد الثلاثي.

الاضطهاد الثلاثي: قد تتغير أضلاعه أو تزداد فيغدو رباعيًا، خماسيًا، …

نبتت جذور مفهوم ونظرية الاضطهاد الثلاثي في تربة الحراك النسوي الأسود، إلا أنها تفرعت وتشعبت، فلم يعد الجنس والعرق أو اللون والطبقة مقومات ثابتة للاضطهاد ذي الطبقات الثلاث، وذلك بالتحديد بعد أن شرعت نساء من خلفيات أخرى في تدبر النظرية ورنون إلى تجاربهن عبر عدسة ثلاثية، فاكتشف بعضهن أن المركبات الثلاث ذاتها تقف وراء معاناتهن المؤقتة أو الممتدة، بينما وجد بعض آخر مركبًا واحدًا  أو اثنين من الثلاث التي طرحتها كلوديا جونز تتشابك مع مركب أو مركبات مختلفة لتعقيد أوضاعهن، كالقدرة الجسدية التي تتداخل مع الجنس والطبقة في أوقات وتتقاطع مع الجنس والعرق في أوقات أخرى، أو الهجرة التي تتلاقى مع الجنس والطبقة الاجتماعية لتُعمّق معاناة كثير من النساء، أو التوجه الجنسي المغاير للسائد الذي يثقل مشقة النساء اللاتي يكابدن اضطهادًا بسبب الجنس والطبقة أو اضطهادًا محركه الجنس ولون البشرة، أو اضطهادًا ثلاثيًا يرتكز على هويات الجنس والطبقة والعرق.

ولا تغيب أيضًا العقيدة عن مسببات الاضطهاد التي غالبًا ما تتلبس بالجنس والطبقة والهجرة لتجبر النساء على مجابهة اضطهاد رباعي، وقد يصير خماسيًا إذا تقاطع العرق مع الهويات المذكورة.

ورغم واقعية معاناة الرجال والنساء تحت وطأة الكولونيالية والاستيطان، فإن الاضطهاد الذي تتعرض له النساء من جراء الاستعمار يتخامر مع اضطهادهن بسبب الجنس والوضع الاقتصادي السيء الناجم عن تركيب طبقي شديد التعقيد، خاصةً في ظل إخضاع الاقتصاد الوطني أو المحلي تمامًا للمحتل، فما من قوة استعمارية سمحت للأعم الأغلب من الشعوب الأصلية بأن تستفيد من موارد بلدانها إلا بأقل قدر ممكن.

أما الفجوة الاقتصادية بين الجنسين والموجودة في شتى البلدان المستقلة والمستقرة حول العالم، تزداد اتساعًا في ظروف الاحتلال نظرًا لما يترتب عليها من رسوخ للتنميط الجنساني واستمرار لتقييد النساء بالأدوار النمطية المتعلقة بالإنجاب والرعاية، بدعوى الحفاظ على هوية الشعب الأصلي وبقائه.

وتُعتَبر النساء الفلسطينيات مثالًا حيًا على المعاناة الثلاثية التي يحتشد وراءها النوع الاجتماعي والطبقة والاحتلال، ولكن عند النظر إليهن بعدسة مكبرة سيتبين أن الاضطهاد ليس ثلاثيًا في كل الأحوال، فقد يكون رباعيًا إذا كن نساء فلسطينيات كويريات، أو حصلن على تعليم محدود، أو ذوات إعاقة جسدية، ويصبح خماسيًا عندما تتقاطع اثنتان من هذه الهويات مع تلك التي أفضت إلى الاضطهاد الثلاثي، وقد تتلاقى هويات أخرى مع كل ما سبق فتتعدد طبقات الاضطهاد ويبرح سداسيًا أو سباعيًا، بينما تنوء كواهل النساء بأكوام من الأعباء الجسام التي تٌبطئ خطواتهن في سباق يفتقر إلى العدالة بكل صنوفها.