الغضب هو أحد ركائز الناشطية ووقود الحراك النسوي، وطالما كانت الترجمة الأولى له هي التظاهر الذي يتطور أحيانًا إلى احتلال مواقع حيوية والاعتصام فيها أو يدلف نحو الإضرابات، ولذا كان ولا يزال هو الشكل الأبرز والأكثر تأثيرًا للاحتجاج النسوي، إلا أنه أبدًا لم يكن الوحيد، فثمة أشكال أخرى لجأت إليها الحركات النسوية للتعبير عن غضبها والاحتجاج على الأوضاع والقوانين التي تجور على حقوق النساء، وقد عهدنا منها البيانات والمانيفستو والعرائض، بالإضافة إلى الحملات الإلكترونية التي تتزايد أهميتها وقوتها يومًا بعد الآخر.

أثبتت التكتيكات الاعتيادية المنظمة للاحتجاج فعالية في أوقات كثيرة، ونجحت مرارًا في تحريك مياه راكدة وفتح أبواب مغلقة وتسريع وتيرة تغيير ما، لكن ذلك لا يجعلها دائمًا الخيار ذا الأفضلية بالنسبة للمجموعات النسوية لا سيما الأكثر راديكالية منها، إذ تجنح بعض الناشطات إلى الخروج عن المألوف وابتكار طرق صادمة وجامحة للتعبير عن غضبهن، ورغم أن مثل هذه الطرق الاحتجاجية قلما تكون نموذجًا جاذبًا للمحاكاة، فإنها تنجح في تحقيق الغرض الرئيس منها وهو لفت الأنظار إلى إشكاليات غير مطروقة، أو إحراج الشخصيات والجماعات التي تملك سلطة وتستغلها لقمع النساء وانتهاك حقوقهن.

اصطٌلِحَ على تسمية هذا الأسلوب بالضربات اللحظية (Zaps)، وغالبًا ما يكون أكثر خطورة على من يستخدمونه من الأساليب التقليدية للاحتجاج، خاصةً أن أعداد المشاركات والمشاركين في تنفيذ حوادثه تكون قليلة، ومن ثم يصبح التصدي لهم أيسر واحتمالية تعرضهم لإجراءات عقابية أكبر.

تضطر بعض المجموعات النسوية إلى استخدام الضربات اللحظية، إذا ما وجدت أن هناك حاجة ملحة للصدمة والصدام، ولكن هناك مجموعات أخرى تعتمد بشكل أساسي في نضالها على هذا الأسلوب مثل «فتيات العصابات– Guerrilla Girls»، التي تعد واحدة من أبرز المنظمات النسوية التي تمردت على طرق الاحتجاج المعتادة وأتبعت على مدار 38 عامًا نهجًا مغايرًا، جعلها نموذجًا لا يغيب عن الإشارة والذكر عند الحديث عن الاحتجاج النسوي غير التقليدي.

غضب فتيات العصابات يغطي الجدران في مانهاتن

تشكلت مجموعة «فتيات العصابات» في العام 1985 بالولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن فاض الكيل بمؤسساتها من استمرار التمييز المركب ضد النساء في الفن المعاصر، وقد بدأ نشاطها في مدينة نيويورك للاحتجاج على تهميش الفنانات وأعمالهن في معارض ومتاحف المدينة، وللضغط على إدارات هذه الأماكن لتغيير سياساتها المحتفية بالأعمال الفنية التي تُسلّع النساء، وهي المشكلات التي ترجعها المجموعة إلى سطوة الرجال ذوي البشرة البيضاء على مؤسسات الفن.

وقد تمثل نضال «فتيات العصابات» في رسم الجرافيتي على الجدران والحوائط، وتصميم ووضع إعلانات ساخرة في الشوارع، كان معظمها يشمل إحصاءات وأرقام للحيلولة دون التشكيك في ما تستند إليه المجموعة كدواعٍ للسخط والاعتراض.

لم تفصح عضوات المجموعة منذ أن تأسست وحتى الآن عن هويتهن، فقد اعتدن على تعريف أنفسهن بأسماء فنانات تشكيليات راحلات كفريدا كاهلو، وكاتي كولفيتس، وأليس نيل عوضًا عن أسمائهن الحقيقية، كما ألزمن أنفسهن بارتداء أقنعة في شكل رأس الغوريلا أثناء تعليق الإعلانات أو رسم الجرافيتي، كنوع من أنواع الحماية الشخصية ولضمان توجيه التركيز إلى القضية التي يناضلن من أجلها وليس إلى شخوصهن.

خلال السنوات الأولى لنشاط المجموعة ساد وصف التجسيدات والنكات التي تظهر في الرسوم والإعلانات بالجريئة، وفي بعض الأوقات كانت توصف بغير اللائقة، ولعل أكثر الأعمال التي أثارت الجدل في تلك الفترة هي لوحة إعلانية وضعتها «فتيات العصابات» في العام 1989 بمنطقة مانهاتن في مدينة نيويورك، تستحوذ على المساحة الأكبر منها صورة امرأة تستلقي عاريةً على فراش بينما تضع على وجهها قناع الغوريلا، وقد كُتِبَ إلى جوارها بخط عريض «هل يجب أن تكون النساء عاريات ليدخلن إلى متحف المتروبوليتان للفنون؟»، وأضافت المجموعة إلى اللوحة أرقامًا إحصائية تكشف أن الغلبة للرجال كأصحاب أعمال فنية يحتضنها المتحف الأكبر في مدينة نيويورك، أما النساء فيحضرن في الغالب كأجسام عارية في هذه الأعمال، «أقل من 5% من إنتاج الفنانين في أقسام الفن الحديث هو لنساء، بينما 85 % من الأجساد العارية البارزة في الأعمال المعروضة داخلها هي لنسـاء.»

كانت «فتيات العصابات» أول مجموعة نسوية تسلك هذا المسلك لتقاوم التهميش والتمييز ضد الفنانات، وقد نجحت على مدار رحلتها الممتدة لما يقرب من أربعة عقود في أن تحفز المارة في الشوارع وزوار المعارض الخاصة التي تعرض أعمالها، على إعادة النظر في قناعاتهم ومراجعة مواقفهم المتصالحة مع التحيز والإقصاء في الفن الحديث.

وبعد كل هذه السنوات أضحى لأعمال «فتيات العصابات» وحملاتها، مساحة من العرض في العديد من مناهج دراسات المرأة والنوع الاجتماعي الجامعية، فضلًا عن تنقل إعلاناتها الساخرة التي احتلت شوارع نيويورك في السابق من معرض إلى آخر داخل الولايات المتحدة وخارجها، في دول مثل بريطانيا، وأيسلندا، والبوسنة والهرسك، بعد أن أضحت بمثابة أرشيف يؤرخ لجانب من الحراك النسوي ووثائق تشهد على نهج مميز للاحتجاج.

أفلام وجوائز تحت سيطرة الرجال.. إذن لنفسد حفل النقانق

في مساء السابع من شهر ديسمبر في العام 2016، كانت دار أوبرا سيدني تشهد انعقاد واحد من أكبر الفعاليات الفنية في أستراليا، وهو حفل توزيع جوائز الأكاديمية الأسترالية لفنون السينما والتلفزيون، حيث تستقبل ساحتها الفنانات والفنانين للحضور والمشاركة في الحفل، وتفترش أرضها السجادة الحمراء التي يتتابع وصول النجمات والنجوم إليها دقيقة بعد الأخرى، وبينما تسير الأمور بسلاسة إذ تتعالى أصوات بالمكان على حين غرة، فتضطرب الأجواء وتتشتت العيون بحثًا عن مصدر الضجيج، إلى أن يفاجأ الجميع باقتحام 16 امرأة للسجادة الحمراء مغطيات ببدلات مصممة على شكل نقانق، ويرددن هتافات «أوقفوا حفل النقانق.»

مصطلح «حفل النقانق – Sausage party» هو تعبير دارج في الإنجليزية يستخدم لوصف التجمعات الاجتماعية التي يشكل الرجال غالبية الحاضرين فيها، وقد وجدت عضوات منظمة «المرأة في السينما والتلفزيون» أن هذه السمة تسيطر على ترشيحات جوائز الأكاديمية الأسترالية لفنون السينما والتلفزيون لا سيما في نسخة العام 2016، إذ لم تضم وقتها القائمة الطويلة للأفلام الروائية المرشحة للجوائز سوى فيلمين فقط اضطلعت بإخراجهما نساء، لذا قررن الاحتجاج بطريقة صادمة ومستغربة تعكس شدة غضبهن من استمرار تهميش النساء العاملات بصناعة السينما والتلفزيون.

سرعان ما اندفع أفراد الأمن نحو المتظاهرات بعد اقتحامهن السجادة الحمراء، وتحفظوا عليهن ريثما تأتي الشرطة للتحقيق معهن، ورغم أن تظاهرة النقانق لم تستمر سوى لدقائق معدودة، فقد حظيت الواقعة باهتمام كبير في الصحافة الأسترالية وانتشرت صورها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليتمخض ذلك عن نقاش مجتمعي وثقافي واسع حول التمييز المنهجي ضد النساء في صناعة السينما والدراما التلفزيونية الأسترالية، وانعكاساته على مشاركة النساء في الصناعة، وتمثيلهن على الشاشة، وشيوع التحرش الجنسي بالعاملات في هذا المجال، وفجوة الأجور بين الجنسين في قطاع الترفيه، بالإضافة إلى التفاوت في فرص تمويل المشاريع الفنية بين المخرجين والمخرجات.

في جامعة هارفارد.. النساء يهتفن: نبول أو لا نبول!

شهدت حديقة جامعة هارفارد الأمريكية في شهر مايو من العام 1973 حدثًا استثنائيًا عُرِفَ لاحقًا باسم «مظاهرة التبول»، الذي خططت له وقادته فلورينس كينيدي المحامية والناشطة النسوية والمدافعة عن الحقوق المدنية.

بدأت عملية الاندماج بين كلية رادكليف وجامعة هارفارد في بداية السبعينيات، بعد سنوات طويلة من تقسيم الطلاب بينهما على أساس الجنس، حيث تدرس الإناث برادكليف في حين يلتحق الذكور بهارفارد، وفي النهاية يحصل الجميع على شهادة تخرج تحمل ختم جامعة هارفارد وتوقيع عميدها.

في ذلك الوقت أرادت إدارة جامعة هارفارد تشجيع الفتيات على الالتحاق بها مباشرة لزيادة نسبة الطالبات المقيدات بالجامعة، فقررت فتح الباب أمامهن للمشاركة في اختبارات القبول، التي كانت تُجرَى حينذاك في المبنى الخاص بقاعة لويل للمحاضرات الذي كان يخلو من حمام للنساء، ولذلك كان ينبغي على المُمتَحِنة إذا أرادت الذهاب إلى الحمام أثناء الاختبار أن تخرج من المبنى وتعبر الشارع لاستخدام أحد الحمامات المنفصلة، وهذا ما قالت الكاتبة النسوية إيرين دافال إحدى المشاركات في مظاهرة التبول إنه «كان يتسبب في إهدار نحو 15 دقيقة من وقت النساء أثناء الاختبار لا يفقدها نظرائهن الرجال.»

نتيجة لذلك، طلبت إحدى المتقدمات للجامعة من فلورينس كينيدي، مؤسسة الحزب النسوي، أن تساعدهن في تسليط الضوء على المشكلة التي تتجاهلها إدارة الجامعة، وهو الأمر الذي قوبل باستجابة متحمسة وقوية من جانب فلورينس، إذ بدأت على الفور التخطيط للاحتجاج على الوضع الذي اعتبرته تمييزًا مؤسسيًا ضد النساء في مكان بناه الرجال ليلبي احتياجاتهم فقط، مع أن النساء موجودات بالجامعة منذ تأسيسها كعاملات.

كانت فلورينس كينيدى من الشغوفين بمدرسة الاحتجاج اللحظي الصادم، ولذا لم تفكر في تنظيم وقفة احتجاجية تقليدية أو جمع توقيعات تطالب بزيادة عدد حمامات النساء في الجامعة، وإنما عزمت على القيام بفعل مفاجئ ومضحك في الوقت ذاته، والأهم ألا يمر عابرًا.

اتفقت فلورينس مع عدد من عضوات حزبها أن يكون احتجاجهن داخل حديقة هارفارد، حيث طفن في أنحائها بلافتات مكتوب عليها «نبول أو لا نبول- To pee or not to pee» وهن يرددن شعارات «نبول أو لا نبول؟ هذا هو السؤال» و«هل سيدع العميد النساء يستخدمن حمامه الشخصي؟»، ثم اتجهن نحو قاعة لويل يحملن أواني شفافة بداخلها سائل أصفر اللون يشبه البول، وأسقطنه على درجات السلم.

في مقال نشرته المجلة النسوية الفصلية « On the Issues » في عددها لصيف العام 1990، تروي الكاتبة إيرين دافال أن التظاهرة انتهت بوقوف فلورينس كينيدي وسط المحتجات وهي ترفع يدها مقبوضة وتقول بصوتٍ عال «فليحذر عميد جامعة هارفارد. إذا لم يصبح للنساء حمام في قاعة لويل، حتى لا تضطر اللاتي يؤدين الاختبارات إلى حبس البول، أو الركض إلى الشارع، أو إهدار الوقت في اتخاذ قرار التبول من عدمه، فإننا سنعود العام المقبل وسنقوم بالفعل الحقيقي»، وكانت تقصد بذلك أن يتبولن في حديقة هارفارد.

رغم غياب أي معلومة دقيقة بشأن ما إذا كانت «مظاهرة التبول» قد اجتذبت استجابة سريعة من إدارة الجامعة أو أدت فقط إلى وضع مسألة حمامات النساء على الأجندة بعد أن كانت غائبة، فإن ما نوقن به هو أن وجود حمامات للجنسين وأخرى محايدة للجنس في شتى مباني جامعة هارفارد اليوم، ما كان له أن يصبح واقعًا لولا هذا الاحتجاج الذي وقف العاملون والطلاب يشاهدونه بعيون متسعة وأفواه فاغرة، بعضهم يراه «احتجاجًا غير جاد» وبعض آخر يعتبره «بذاءةً».