كتبت: آلاء حسن

هل يفترض بنا أن نحتفي بأي عمل درامي يتعرض بنقد لمظاهر العنف والتمييز القائمين على النوع الاجتماعي لمجرد القيام بذلك، بغض النظر عن الأسلوب والزاوية المستخدمين في تناول هذه القضايا؟

نحن نعتقد أنه لا يجدر بنا فعل ذلك لأن الدراما إذا أرادت أن تسلك طريقًا غير الذي عهدنا أن تمضي فيه، حيث تتماهى مع المنظومة الأبوية بكل مقوماتها وقيمها، فالبديل ليس المرور سريعًا على المشكلات التي تطارد النساء بسبب جنسهن، بمشاهد مقحمة وغير موظفة دراميًا وحوارات مشحونة بالمعلومات والألفاظ الجامدة، فتأثير الدراما على جمهورها لا يأتي بالخطابية والمعلوماتية، وإنما بالقصص المحبوكة والشخصيات الديناميكية والحوارات ذات البعد الإنساني التي تستفز المتفرجات والمتفرجين وتحفزهم على إعادة النظر في اتجاهاتهم الشخصية، وهذه العناصر شبه غائبة عن مسلسل «حضرة العمدة» الذي يقفز من قضية عنف على أساس النوع إلى أخرى ثم أخرى وبعدها أخرى، فيما أشبه بإعلانات حملات التوعية.

يشارك مسلسل «حضرة العمدة» في موسم الدراما الرمضانية الحالي، وهو ثاني تجارب الكاتب والصحافي إبراهيم عيسى في الدراما التلفزيونية بعد «فاتن أمل حربي»، وأحدث أعمال المخرج عادل أديب.

تؤدي الدور الرئيس في العمل الممثلة والمغنية روبي، وهو دور صفية الفارس أستاذة علم النفس بالجامعة الأمريكية التي تعود إلى قريتها (تل شبورة) لتتولى منصب العمدة بناءً على طلب ورجاء من أبناء عمها الذين يسعون إلى استغلال وجودها على رأس هذا المنصب لفرض سطوتهم على القرية وتأمين مصالحهم الشخصية.

وعلى مدار الحلقات العشر الماضية، تعرض المسلسل إلى عدد من صور العنف والتمييز المنتشرة في مصر ضد النساء والفتيات، كتشويه الأعضاء الجنسية الخارجية للإناث (ختان الإناث)، وتزويج القاصرات، وفرض الحجاب قسريًا على الطفلات بالمدارس، وحرمان الإناث من الميراث، وابتزاز الفتيات إلكترونيًا وتهديدهن بنشر صورهن الخاصة، وقبل كل ذلك مسألة الرفض المجتمعي لوجود النساء في مواقع السلطة. لكن السمة المشتركة في التناول الدرامي لكل هذه القضايا هو العبور السريع من خلال مشاهد متفرقة بعضها لا يتصل ببعضه، وحوارات مباشرة تخلو من الانسيابية.

شيء آخر لافت للنظر هو تباهي صناع العمل بمناقشته لقضية تمكين المرأة ووجودها في المواقع القيادية، بينما تغيب النساء عن الأدوار الرئيسة في صناعته، إذ يتعاون الكاتب والمخرج مع المنتجين ريمون مقار ومحمد محمود عبد العزيز، والمونتير سالم درباس، ومدير التصوير علي عادل، والموسيقار شادي مؤنس لإعداد الموسيقى التصويرية.

لكن تجدر الإشارة إلى أن اسم الصحافية عاليا عبد الرؤوف يظهر في نهاية تتر المقدمة فقط كأحد المشاركين في الكتابة، إلا أنه يختفي تمامًا في تتر النهاية، وعلى أفيشات المسلسل والدعاية الخاصة به في القنوات الفضائية والمواقع الإخبارية.

حضرة العمدة: امرأة أكثر منهن جمالًا ووعيًا ستغير واقعهن المزري

تبدأ قصة حضرة العمدة فعليًا مع عودة صفية الفارس إلى قرية تل شبورة التي عاشت فيها طفولتها ومراهقتها، قبل أن تنتقل إلى القاهرة للدراسة بالجامعة، ثم العمل، والارتباط برجل من إحدى دول الشمال قرر أن يشهر إسلامه حتى يتزوجا، رغم معارضة عائلتها لهذه الزيجة لما تمثله من خرق للعادات والتقاليد.

تساهم الحالة النفسية السيئة التي تعايشها صفية بعد وفاة زوجها، في موافقتها على العودة إلى القرية وتولي العمودية؛ المنصب الأشبه بالوسيط بين أهل القرية والسلطة التنفيذية للدولة، والذي يمنح كل من يشغله امتيازات اجتماعية.

المفترض أن يكون لدى صفية قدرًا من المعرفة بظروف بلدتها، والأفكار السائدة هناك، والعادات والتقاليد الشائعة بها، خاصةً أنها عاشت فيها نحو ١٨ عامًا، وحتى بعد انتقالها للعيش بمكان آخر فقد ظلت موجودة داخل مصر، والكثير مما يجري في المدن والقرى المصرية يحدث أيضًا في العاصمة، إلا أن صفية الفارس تظهر كالمهاجر الذي جاء غريبًا إلى القرية بعد عقود من الغياب؛ يفاجئها وقوع جرائم تشويه الأعضاء الجنسية الخارجية للإناث على أيدي الأطباء، رغم أن مصر تحتل المرتبة الأولى عالميًا في تطبيب هذه الممارسة، وما يقرب من ٨٢ في المئة من هذه الجرائم (المعروفة باسم: ختان الإناث) يجريها الأطباء وفرق التمريض.

وحين تذهب العمدة صفية لتقديم التهاني في أحد الأفراح، يصدمها صغر سن العروسين وتصيبها الدهشة من إقدام الأهالي على تزويج طفلين تجاوزا العاشرة بسنوات قليلة. لكن المدهش حقًا هو أن شخصية يؤطرها المسلسل في إطار القائدة المستنيرة التي ستنتشل قريتها من غياهب الظلام والظلم، تبدو منفصلة تمامًا عن الواقع وكأنها لا تعلم أن جرائم تزويج القصر تنتشر في كثير من القرى، وأن مصير عشرات الآلاف من الفتيات المصريات سنويًا هو التزويج قبل أن يتممن عامهن الـ١٨.

ترى صفية في نفسها المخلّصة التي ستنقذ أهل قريتها الغارقين في الجهل والتشدد، وتعبر عن ذلك بجمل ترددها من حين لآخر مثل «أنا جايه أفهم الناس وأوعيهم بحقوقهم»، و«أنا هعرف أخلي تل شبورة كلها تعرف مصلحتها ومصلحة بناتها»؛ وفضلًا عن ما تحمله هذه العبارات من نبرة استعلائية، فإنها تبطن استساغة صفية للنظام الاجتماعي الذي تهيمن عليه القبلية، وقبولها بهرميته التي تجعل تغيير ما هو قائم أو إدامته بيد من يعتلي القمة، وفي هذه الحالة هي هذا الشخص، ولذا لا يظهر أي شكل للتضامن النسوي بين صفية ونساء القرية، وإنما يبرز أمر من اثنين؛ هالة من الإعجاب والانبهار تحيط بـ«الدكتورة» التي تعرف أكثر منهن وتستطيع أن تقول للرجال ما لا يستطعن التفوه به، أو ضغينة مدفوعة بغيرة وحقد على «مرات الخواجة» التي نزلت إلى القريـة لتخطف أنظار الجميع لا سيما الرجال.

تغار كابر (تؤدي دورها بسمة) من صفية خوفًا من انجذاب زوجها حامد (يؤدي دوره محمود حافظ) للأخيرة، وتسعد كابر بشدة حينما تسمع من زوجها أو شقيقه جلال (يؤدي دوره أحمد رزق) كلمات تتغنى بجمالها، ظنًا منها أن جمال الشكل (بمقاييس الرجال) هو الذي سيمنح إحداهما الأفضلية على الأخرى، وتضمر شلباية (تؤدي دورها وفاء عامر) مشاعر غيرة تجاه صفية التي يتغزل بجمالها شباب القرية ومنهم زوجها، وكذلك شقيقها الذي يخبرها في محادثة هاتفية عن تحمسه لرؤية العمدة الجديدة مستخدمًا عبارة «إيه العمدة المز ده»، وهو الوصف الذي يزعج شلباية التي تريد دائمًا أن تسمع من الآخرين أنها الأجمل بين نساء تل شبورة.

شخصيات منمطة ومشاهد أقرب إلى الفيديوهات التعليمية

يغيب عن شخصيات مسلسل «حضرة العمدة» لا سيما النسائية منها الدينامية والتفاعل، تبدو الشخصيات ثابتة ومسطحة، فلا يعرف المتابعات والمتابعون كيف قادها ماضيها إلى ما هي عليه في الوقت الحاضر، كما أن ضعف الحبكة والبطء الشديد في تطور الصراعات يضفي حالة من الجمود على معظم الشخصيات.

في أغلب الأحيان تتحدث صفية بتكلّف وكأنها تحاضر في الجامعة أو تلقي كلمةً في مؤتمر، وتظهر الدكتورة نعمات (تؤدي دورها نهلة سلامة) التي تنتمي إلى جماعة الإخوان بوجه عبوس في كل الأوقات، وتبدو شخصية شلباية أشبه بكتلة الشر المتحركة، امرأة تكره كل من حولها وتضع نزواتها ورغباتها فوق كل شيء. كما اختار صناع العمل أن ينمطوا علاقتها بزوجها الذي يصغرها سنًا لتأكيد هذه الصورة، ويأتي التنميط متماشيًا مع تصنيف المجتمع الذكوري للعلاقات، إذ تكون – وفقًا للتصنيف – كل من تتزوج برجل أصغر منها امرأة تعاني من أزمة منتصف العمر، ولذا تتصيد رجلًا في أوج شبابه (غالبًا ما يكون عن طريق المال) حتى تشعر بأنها لا تزال مرغوبة عاطفيًا وجنسيًا، وهذا هو حال شلباية مع زوجها.

التنميط ليس آفة الشخصيات فحسب، إذ تتسم المشاهد والحوارات بالأمر ذاته؛ فبعد أن تقتحم صفية غرفة الكشف بعيادة الدكتورة نعمات لتمنعها من تشويه الأعضاء الجنسية الخارجية لطفلة بالمخالفة للقانون المصري، تظهر العمدة جالسة إلى جوار ضابط شرطة في حضور أبناء عمها وتجمع بعض أهالي القرية، وهي تعلن بحزم رغبتها في تحرير محضر ضد الطبيبة، قبل أن يتبين لها عدم إمكانية ذلك لامتناع كل الأطراف مشاركين كانوا أو شهودًا عن الاعتراف بوقوع الحادثة، وتتنامى النزعة الخطابية في المشهد مع إجراء المحامي جلال ابن عم صفية (يؤدي دوره أحمد رزق) مكالمةً غير مبررة مع مساعده يسمعها كل الحاضرين، ويطلب فيها من الأخير قراءة مواد قانون العقوبات التي تجرم ما اصطُلِحَ عليه بختان الإناث، ثم ينهي المكالمة ويلتفت إلى أهالي القرية المتجمعين، ويحدثهم بصوت جهور مطالبًا إياهم باحترام القانون.

تتكرر الحوارات المباشرة التي صيغت بلهجة خطابية بكثرة، ومنها المشادة الكلامية التي تقع بين نعمات وابنتها روفيدة (تؤدي دورها صولا عمر) بشأن عمليات تشويه الأعضاء الجنسية الخارجية للفتيات، حيث تكشف الابنة عن خوفها من تبعات إصرار أمها على إجراء هذه الممارسة، ثم ينحى الحوار باتجاه المعايرة الشخصية بين الطرفين بشأن من منهما أكثر التزامًا بالدين، ولتحسم الابنة السجال لصالحها وتثبت أفضليتها تقول لأمها «تحفيظ القرآن مهمة بعملها من غير ما أؤذي حد، أو أعادي حد، أو أقطع في جسم الأطفال»، فتنزل الجملة على الأم كالصاعقة وكأنها تسمعها لأول مرة، فلا تستطيع الرد وتلجأ إلى الصراخ. يبدو رد فعل نعمات مبالغًا فيه خاصةً أن العبارة التي نطقت بها ابنتها معهودة وتتكرر كثيرًا على ألسنة الرافضين والمحتجين على هذه الجريمة واعتاد الطرف الآخر على سماعها منذ سنوات. لكن صناع العمل أرادوا أن يقنعوا المشاهدات والمشاهدين أن الفتاة انتصرت على الأم بـ«المنطق» المُختزَل في جملة لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال مفاجئة لأحد من مؤيدي تشويه الأعضاء الجنسية للإناث ومنفذيه، أو أن تؤدي بهم إلى التلعثم وعدم القدرة على الرد، ولذا بدت الصدمة التي ظهرت على نعمات مفتعلة بشكل واضح.

إننا على يقين من أن تناول قضايا العنف ضد النساء في الدراما أمر مهم، بل في غاية الأهمية إذا نجحت في أن تجعل المشاهدات والمشاهدين يتفاعلون مع أحداثها، ويتأملون شخصياتها، ويتوحدون معها. أما إذا كان المتفرجات والمتفرجون سيجلسون أمام الشاشة للاستماع إلى خطب ومواعظ ونصوص قوانين، فلن يجدوا فرقًا بين العمل الدرامي والإعلانات التوعوية التي تطلقها الوزارات والمجالس القومية، ومن المرجح جدًا أن يؤدي الإفراط في المباشرة إلى إعراض قطاعات واسعة عن متابعة العمل والنفور من الأفكار التي يطرحها.