كتبت: شهد مصطفى

حين نتقدم لشغل وظيفة وننجح في الحصول عليها، تكون الأسابيع أو الشهور الأولى في مكان العمل الجديد مخصصةً للتدريب على أساسياته ومبادئه، وكيفية إتمام المهام المناطة بنا وفقًا لنظام جهة العمل، وتكون أيضًا هذه الفترة فرصة للتعرف إلى آليات التواصل بين العاملات والعاملين، وسبل التعامل مع الطوارئ.

على الأرجح تكون الإرشادات والتوجيهات مسجلة كتابيًا في كتيب خاص بمكان العمل، لتوحيد طريقة تنفيذ المهام الروتينية، والحفاظ على مستوى الخدمات والمنتجات، وتسهيل عملية تقييم أداء الموظفات والموظفين، بناءً على مدى التزامهم بهذه القواعد.

هذا الكتيب يتضمن ما اصطُلِح عليه بـ «إجراءات التشغيل القياسية» أو «SOP: Standard Operating Procedures»، وهي حزمة من الإرشادات التي يعكف على إعدادها فريق من العاملات والعاملين وقد يشاركهم في ذلك خبراء من خارج جهة العمل، بهدف خلق تجانس منهجي في أداء الموظفات والموظفين، وتحسين كفاءة وجودة عملهم.

توحيد خطوات العمل أمر سابق على صك مصطلح «إجراءات التشغيل القياسية» الذي يعود إلى منتصف القرن الماضي، إلا أنه قد صار حاليًا عنصرًا حيويًا في استراتيجيات العمل ومحورًا رئيسًا في تصميم البرامج وتنفيذها، وأضحت صياغة الإجراءات الموحدة جزءًا  أساسيًا من العملية التنظيمية والإدارية في مختلف قطاعات الأعمال ومنها الرعاية الصحية، والتصنيع، والفندقة، والأغذية، والتعليم، وتكنولوجيا المعلومات، ومراكز الاتصال وخدمة العملاء، والقطاع المصرفي، والطيران، والقطاع الشرطي، وكذلك المجتمع المدني وكياناته.

تختلف الإجراءات الموحدة من مؤسسة إلى أخرى، وتتباين من قسم إلى آخر وبرنامج إلى آخر، لكنها ترتكز على منهج واحد؛ إذ تحدد الإدارة الأمر الذي يراد صياغة ضوابط لإنجازه، ثم المهام المتكررة في هذا السياق، وفئة العاملات والعاملين المسؤولين عنها، ثم تنتقل إلى شرح مفصل ومبسط لخطوات التنفيذ.

لقد باتت إجراءات التشغيل الموحدة أداة لا غنى عنها في مؤسسات العمل ربحية كانت أو غير هادفة للربح، لكي تضمن استمرارية نشاطها على النحو الأفضل، وتحقق أهدافها قصيرة وطويلة المدى، وتحافظ على تصاعد أداء العاملات والعاملين سواء كانوا يعملون بدوام كامل أو جزئي أو بشكل مؤقت، ولا ينحصر الاعتماد عليها في المهام الرئيسة والمكررة التي يقوم بها أغلب الموظفات والموظفين، بل يمكن أن تشمل إجراءات التشغيل الموحدة كل عملية تجري في مكان العمل كالتحقيق في شكاوى العاملات والعاملين أو العميلات والعملاء، أو تفصيل خطوات اختيار وتعيين الموظفات والموظفين، أو تحديد أطر الاجتماعات والحملات وأي فعاليات تنظمها وترعاها مؤسسة العمل.

لماذا نحتاج إجراءات موحدة لمواجهة العنف الجنسي في العمل؟

تحرص الغالبية العظمى من جهات العمل على وضع إجراءات موحدة للتحقيق في شكاوى العاملات والعاملين، وتحديد ماهية التجاوزات فيما بينهم وكيفية التعامل معها إداريًا، إلا أن شكايات العنف الجنسي قلما تختصها أماكن العمل بإجراءات لاستقبالها، والتحقيق فيها، واجتراح آليات لمنع تكرارها، على الرغم من وجود تأثير مباشر للعنف الجنسي على أداء من يتعرضن ويتعرضون له، ورضا الموظفات والموظفين، وسمعة المؤسسة أو الشركة.

تكشف دراسة «الآثار الاقتصادية والوظيفية للتحرش الجنسي على المرأة العاملة» الصادرة في العام 2017، أن النساء اللاتي يتعرضن للتحرش في أماكن العمل، تتملكهن مشاعر الغضب ولوم الذات، فضلًا عن عدم الثقة بالنفس على المستويين الشخصي والمهني، وهو ما يُلقي بظلاله على مستقبلهن الوظيفي.

تشير أيضًا دراسة «آثار الإجهاد المرتبطة بالتحرش الجنسي على العمل: الآثار المترتبة على الاستشارات» الصادرة في العام 1982، إلى أن تداعيات التحرش على النساء العاملات تشمل تكرر الغياب، وانخفاض الانتاجية، وتراجع الثقة بالنفس، وقد أفاد نحو 75 في المئة من عينة النساء بأن التحرش الجنسي أثر سلبًا على أدائهن الوظيفي، إذ أدت مواجهتهن لإيماءات وتلميحات جنسية بشكل يومي إلى فقدان الدافع وانعدام القدرة على التركيز في العمل.

علاوة على ذلك، فإن الناجيات من التحرش أو الابتزاز الجنسيين في العمل غالبًا ما ينتهي بهن الحال وقد فقدن وظائفهن؛ حيث يضطر بعضهن إلى ترك العمل من جراء استهدافهن بإجراءات انتقامية في حالة عدم الاستجابة للمعتدين أو إبلاغهن عن ما يتعرضن له، وقد يتخلين عن وظائفهن بسبب الشعور بالخوف وانعدام الأمان. وفي حالات أخرى، تقرر مؤسسات العمل فصلهن تعسفيًا حين يشكين شفهيًا أو كتابيًا من تعرضهن لشكل من أشكال العنف الجنسي على أيدي زملاء أو مديرين أو عملاء، وهو المسلك الذي تنجرف نحوه كثير من أماكن العمل ظنًا بأن كبح هذا النوع من الشكايات سيحمي سمعة المكان من التشويه.

في ضوء هذه الحقائق، دعت منظمة العمل الدولية (ILO) في العام ٢٠١١ أماكن العمل في مختلف القطاعات، إلى إعداد سياسات لمنع ومواجهة أي شكل من أشكال التحرش الجنسي، بما يضمن التعامل مع حوادث التحرش بجدية، والتحقيق الفوري فيها، وحماية صاحبات أو أصحاب الشكايات، وتوقيع عقوبات تأديبية تصل إلى الفصل من العمل بحق كل من تثبت الاتهامات بحقه.

هناك إمكانية للتعامل مع شكاوى التحرش الجنسي من خلال الإجراءات المتبعة في الشكاوى الأخرى، إلا أن منظمة العمل الدولية أوصت المؤسسات والشركات بتبني إجراءات محددة للتعامل مع التحرش الجنسي بمختلف أشكاله، من أجل استجابة أفضل لاحتياجات الناجيات والناجين، خاصةً أن الأفراد الذين يتعاملون مع هذه الشكاوى على وجه التحديد يحتاجون إلى تدريب خاص يؤهلهم للتعامل مع مقدميها والتحقيق في الحوادث بحساسية وحيادية.

وخلال الربع الأخير من العام ٢٠٢٢، أصدرت المنظمة الدولية دليلًا استرشاديًا لجهات العمل، لا سيما تلك التي تمارس نشاطها في الدول التي وقعت وصادقت على اتفاقية المنظمة بشأن العنف والتحرش الجنسي في عالم العمل (الاتفاقية ١٩٠) الصادرة في العام ٢٠١٩، ويتضمن الدليل حزمة من الإرشادات حول ما يعتبر عنفًا جنسيًا وما لا يصنف كذلك، وسبل الاستجابة لبلاغات الموظفات أو الموظفين عنه، من خلال وضع وتنفيذ سياسات وإجراءات فيما يتعلق بالتشجيع على الإبلاغ، وتصميم آلية واضحة للإبلاغ وتقديم الشكاوى، ورسم خط سير للتحقيق الناجز والموضوعي، فضلًا عن تقديم الرعاية الطبية للناجيات والناجين، والدعم والمشورة من أجل التعافي.

كيف نصيغ وثيقة إجراءات موحدة بشأن العنف الجنسي في العمل؟

 تبدأ عملية إعداد وثيقة إجراءات التشغيل الموحدة بشأن العنف الجنسي داخل أماكن العمل، بتشكيل لجنة من العاملات والعاملين، وقد يستعان بأطراف خارجية كالقانونيين، ومقدمي خدمات الدعم النفسي، وممثلات وممثلي المنظمات النسوية.

ولأن التعامل مع هذه الحوادث والناجيات والناجين منها، يحتاج إلى دراية وحساسية تجاه النوع الاجتماعي والعنف القائم على أساسه، يقترح دليل الاتحاد الدولي للصحافيين لإعداد إجراءات تشغيل قياسية للقضاء على العنف الجنسي في المؤسسات الإعلامية، أن يشارك الفريق المسؤول عن صياغة الوثيقة في تدريب خاص عن العنف الجنسي، لتخرج الإجراءات مستندةً إلى نهج يتمحور حول الناجيات والناجين (Survivor-Centered Approach)، ويضع حقوقهم واحتياجاتهم وسلامتهم في مقدمة الأولويات.

يجب أن تخصص الوثيقة مسردًا للمصطلحات المتصلة بالعنف الجنسي، حتى يصبح لدى جميع العاملات والعاملين الفهم نفسه لها، ومن بينها: الناجية أو الناجي، والمعتدي، والموافقة المستنيرة، والشكوى، والتحقيق، والاستشارات القانونية، والدعم النفسي، والخصوصية.

يتخذ العنف الجنسي في مكان العمل صورًا عديدة، كالتحرش الجنسي اللفظي، والنكات الجنسية، واللمس غير المرغوب فيه بما في ذلك المعانقة والتقبيل، ومشاركة صور ومقاطع جنسية، والملاحقة برسائل نصية أو اتصالات هاتفية تتضمن عروضًا جنسية، والإلحاح على الخروج في موعد عاطفي رغم الرفض، وشرط التوظيف والترقية بخدمات جنسية، والتهديد بالاعتداء الجنسي والاغتصاب أو ارتكاب هذه الجرائم فعلًا داخل مقر العمل أو خارجه.

توسع منظمة العمل الدولية في دليلها العملي لجهات العمل بشأن منع العنف والتحرش في العمل، حدود «مكان العمل» الذي قد تقع فيه حوادث العنف الجنسي حيث تتعدى المقر التقليدي إلى أماكن تأدية مهام العمل عن بعد، بما فيها المنزل أو الجهات المتعاقدة مع المؤسسة أو الشركة، أو أماكن الأنشطة المتعلقة بالمؤسسة كالمؤتمرات والتدريبات والاحتفالات، ورحلات العمل. كما يدرج الدليل التحرش الجنسي عبر البريد الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي في قائمة ما يصنف عنفًا جنسيًا في عالم العمل.

علاوة على ذلك، يتحتم على لجنة الإعداد والصياغة أن تفرد جزءًا في الوثيقة لمهام لجنة التحقيق في الشكايات، فعلى سبيل المثال تحدد مؤسسة شركاء نيرانجان رو للمحاماة، مقرها الهند، في وثيقتها لإجراءات التشغيل الموحدة لمنع التحرش في مكان العمل، اختصاصات لجنة التحقيق في شكاوى التحرش الجنسي في سلسلة من التدابير وهي: التحقيق في جميع شكاوى التحرش الجنسي المقدمة إليها كتابيًا، واتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة الشكاوى والاستجابة لإفادات العاملات أو العاملين المتضررين، وتنفيذ الإجراءات المنصوص عليها لمنع وقوع وتكرر حوادث التحرش الجنسي.

فيما يتعلق بآلية تقديم الشكايات، يشدد دليل أصدرته المجموعة الفرعية للعنف المبني على النوع الاجتماعي في العراق التابعة لصندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، على ضرورة إعطاء أولوية لسرية البيانات والتحقيقات والموافقة المستنيرة.

ويوجب الدليل على جهات العمل احترام حق الناجيات والناجين في التحكم في كيفية مشاركة المعلومات المتعلقة بالحادثة، وحقهم في تحديد الأفراد والجهات التي يمكن مشاركة بعض المعلومات التفصيلية معهم، ومنهم مقدمي خدمات الدعم النفسي والطبي والقانوني.

وفقًا للدليل ذاته، يمكن للناجيات والناجين طلب عدم الكشف عن هويتهم، ويحق لهم كذلك تقديم الشكوى من دون التعريف بأنفسهم، وفي كل الأحوال تلتزم جهة العمل بالتعامل مع الشكوى بحدية والتحقيق في ما ورد فيها.

إضافة إلى ذلك، يجب أن تنص الإجراءات الموحدة على احترام خيار الناجية أو الناجي في عدم الإجابة عن كل الأسئلة خلال الإدلاء بشهادتهم أمام لجنة النظر في الشكاوى، أو التوقف عن استكمال الإفادة وطلب التأجيل، ويجب على اللجنة ألا تمارس أي ضغوط عليهم في هذا الشأن.

من ناحية أخرى، توصي منظمة العمل الدولية بالنص على حق الناجيات والناجين في إجازات مدفوعة وغير مدفوعة الأجر خلال فترة التعافي سواء من إصابة أو صدمة، وأن تضع بين مهام المسؤولات والمسؤولين عن متابعة حالة بعينها، مسألة تمكين الناجيات والناجين من خدمات الرعاية الطبية، والمشورة النفسية.

يعد شعور الناجيات والناجين بالجدية مقصدًا بالغ الأهمية للإجراءات الموحدة فيما يتعلق بمناهضة ومنع العنف الجنسي، ومن ثم يجب أن تبلغ لجنة النظر في الشكاوى مقدمة أو مقدم الشكاية بالوقت الذي سيستغرقه التحقيق والموعد المتوقع لإعلان النتائج النهائية، كما يتعين على اللجنة أن توضح للمبلغات والمبلغين تسلسل الإجراءات التي سيجري اتخاذها، والعقوبات المزمع تطبيقها إذا ثبتت صحة البلاغ.

بعد أن تنتهي اللجنة المسؤولة عن إعداد الوثيقة من عملها، يجب أن تُعلِم جهة العمل جميع العاملات والعاملين بآلية الإبلاغ والشكاوى المستحدثة بشأن العنف الجنسي، إلى جانب إتاحة الوثيقة على نحو يسهل الإطلاع عليه من قبل العاملين بالداخل والمتعاملين من الخارج.

أخيرًا وليس آخرًا، لا بد أن تخضع الوثيقة باستمرار إلى المراجعة والتقييم، فالغاية الجوهرية ليست امتلاك ورقة تحمل عنوانًا ضد العنف الجنسي من دون أن يكون لها أثر على بيئة العمل، ولذا فمن المهم أن تحتفظ جهة العمل بسجلات المحاضر والمقابلات والنتائج، لإعادة النظر فيها بشكل دوري بهدف تحديد مواطن القصور ودراسة سبل معالجتها.