كتبت: شهد مصطفى

في عملي، يثنون على مظهري وتعاملي مع الآخرين، ويضربون بي المثل في الأناقة وحسن المعاملة وعفة اللسان، إلا أنهم لا يتحدثون عن إمكانياتي المهنية. لكن لا يمكنني القول بأنني أتعرض إلى إساءات.

لم يرفضوا تعييني في شركة هندسة الإكترونيات، بل قبلوا انضمامي لفريق العمل في القســم الإداري، لأن فريق المهندسين يتعرض لضغط أكبر ويقضي أوقاتًا أطول تمتد إلى ساعات متأخرة. يبدو ذلك جيدًا، أليس كذلك؟

عندما أرادوا تكريمي بعد عشرين عامًا من العمل في المؤسسة، اتفق زملائي في كلماتهم على أنني كنت كــ«الأم» احتضنتهم جميعًا. وعلى الرغم من أنهم لم يشيروا إلى مميزات في أدائي المهني، لم يكن حديثهم سلبيًا بل كان كله ثناء.

طلبت من رئيس التحرير في الجريدة الانتقال إلى القسم الرياضي، فأخبرني أنني أمامي فرصة أفضل ومنصب أعلى، حيث اتخذ قرارًا بتعييني رئيسةً لقسم أخبار المرأة. أعلم أنه رفض لاعتقاد مٌسبَّق لديه بأن الرجال أصلح للقسـم الرياضي، إلا أنه لم يقل نصًا أنه يرفض طلبي لهذا السبب فضلًا عن أنه قدم لي ترقية لم أسع إليها، لذلك من الصعب أن يصدّق أحد أنني تعرضت للتمييز.

لا تعبر هذه المواقف الواقعية عن تمييز صريح على أساس النوع الاجتماعي، ينتزع حقوق النساء ويحط من شأنهن ويزدري إمكانياتهن علنًا أو يشكك في قدراتهن عيانًا بيانًا، وربما تبدو المواقف والجمل إيجابية لكثيــر من الأفراد، نظرًا لأنها تحمل في ظاهرها إطراءً. ولكن في الحقيقة، هذه المشاهد في جوهرها شكل آخر من أشكال التحيز ضد النساء والتمييز ضدهن، حتى لو كان الطافي على السطح هو «المجاملة»، لأن أساس الثناء والدعم والتقريظ في هذه الحالات هو رؤى نمطية عمد المجتمع إلى تكريسها، سواء تلك المتعلقة بجمال النساء ورقتهن، أو عدم قدرتهن على تحمّل عنــاء العمل لساعات طويلة والـتأخر خارج المنزل، أو عدم صلاحيتهن لشغل مواقع بعينها والعمل في أقســام وقطاعات ما زالت مصنفة باعتبارها «ذكــورية»، أو محاصرتهن بالصورة المُعلبة للأم والأمومة.

التمييز الجنسي الودود: لُطف على السطح وتنميط في الباطن

هذا الشكل من التمييز ضد النســاء لا يقل في خطورته عن التمييز الصريح ضدهن، لأنه يساهم بالقوة ذاتها في إعادة إنتاج القوالب النمطية، وتقييد أدوارهن في المجال العام، وقد أدرك هذه الحقيقة الباحثان سوزان فيسك وبيتر جليك قبل 24 عامــًا، فصاغا مصطلح التمييز الجنسي الودود (Benevolent Sexism).

اشتركت سوزان فيسك مع بيتر جليك في إعداد ورقة بحثية تتعمّق في مفهوم التمييز المتناقض على أساس الجنس (Ambivalent Sexism)، صدرت في العام 1996، بعنوان «جرد التمييز الجنسي المتناقض: التفرقة بين التمييز الجنسي العدائي والتمييز الجنسي الودود». وفي الورقة يفترض الباحثان وجود شكلين متناقضين من السلوكيات والمواقف التي تُعبّر عن التمييز على أساس الجنس، أولهما هو التمييز العدائي (Hostile Sexism) الذي يتجسد في الآراء والمواقف والسلوكيات العنيفة تجاه المرأة التي تحدث بشكل شديد الوضوح لا لبس فيه، وثانيهما هو التمييز الودود (Benevolent Sexism).

ويُعرّف الباحثان في ورقتهما التمييز الجنسي الودود بأنه مجموعة من المواقف المترابطة المتحيزة ضد المرأة، عن طريق رؤيتها بشكل نمطي وفي أدوار مُقيّدة، ولكن تبدو هذه المواقف في ظاهرها إيجابية على مستوى نبرة المشاعر التي تحملها وميلها إلى استنباط السلوكيات المُصنّفة باعتبارها مُحبّذة كالمسـاعدة، أو البحث عن الحميمية في العلاقات عبر الإفصاح عن الذات.

ويرى الباحثان أن التمييز الجنسي الودود يدعم التمييز الجنسي العدائي في ترسيخ تفوّق الرجل على المرأة وحاجتها إلى حمايته، وذلك عبر أقوال وأفعال تروج إلى أن النسـاء أكثر لطفًا من الرجال، وأقدر على الرعاية، وأقرب إلى بذل التضحيات، ويتميزن بذوق أرفع ومهارة أعلى في التواصل من الذكور. وهذا كله يتم تمريره من خلال المجاملة والامتداح والثناء، الذين يرتكزون على القناعات النمطية ذاتها التي يستند إليها التمييز الجنسي العدائي.

هل التمييز الودود أكثر خطورة من التمييز العدائي؟

يهدف التمييز الجنسي العدائي إلى الحفاظ على سيطرة الرجال على النساء من خلال التأكيد على أن القوة والحنكة من مميزات الرجل، بينما الضعف وغلبة العاطفة من سمات المرأة، وينعكس هذا النوع من التمييز في العنف الصريح الموّجه ضد  النساء اللاتي يرفضن الامتثال للأدوار الجندرية النمطية، انطلاقًا من الخوف الذكوري الذي يرى فيهن تهديدًا للرجل وهيمنته، ولذا يمكن القول أن التمييز الجنسي العدائي يسعى إلى إبقاء النســاء في وضعية التبعية للرجال بشكل علني.

على النقيض من ذلك، لا يظهر التمييز الجنسي الودود جليًا بهذا الشكل، ومن الصعب إدراكه بسهولة، إذ يتم التعبير عنه بطريقة إيجابية ظاهريًا، لأن من يمارسه لا يقول صراحة أن المرأة لا تمتلك قدرات الرجل وإمكانياته، ولا يطالبها بوضع المنزل أولوية في حياتها، وإنما يثني على طبيعتها الأنثويــة مبتسمًا، ويمتدح مهاراتها التي افترضها مقدمًا استنادًا للقوالب النمطية، كالتميز في الإشراف، والمتابعة، والتواصل، ليستغل ذلك في تنحية النساء عن بعض الوظائف، ولحصرهن في أماكن بعينها في الحياة المهنية، وللمحافظة على السقف الزجاجي الذي يمنع صعودهن إلى مراتب يسيطر عليها الرجال وحدهم.

يحمي هذا  الأسلوب هيمنة وسيطرة الذكــور على المجال العام من دون استثارة مزيد من الغضب والتمرد، خاصة أن ممارسة التمييز الجنسي الودود، تنم عن قابلية لإفساح مساحة للنساء على عكس التمييز الجنسي العدائي، ولكن بشرط أن تقبل النساء بمراقبة الرجال، وقواعدهم، والصور النمطية السائدة.

فضلًا عن ذلك، يستخدم ممارسو التمييز الجنسي العدائي نبرة متسلطة، وهو ما لا يفعله ممارسو التمييز الجنسي الودود، الذين يستخدمون نبرة تشجيعية يمكن من خلالها تمرير رســالة «أنتن في احتياج إلى حماية الرجل» بشكل سلس ولطيف.

وعلى سبيل المثال، إذا كان التمييز الجنسي الودود يحدث داخل أماكن العمل، فقد تكون هذه الحماية من ظروف العمل القاسية في قسم ما داخل المؤسسة، أو الحماية من إساءة العملاء، أو الحماية من البقاء داخل مقر العمل لساعات متأخرة حتى لا يتعرضن لمضايقات سواء في الشارع أو في المنزل.

تقول سوزان فيسك وبيتر جليك في ورقتهما البحثية، إن التمييز الجنسي الودود ليس شيئًا جيدًا، لأنه على الرغم من المشاعر الإيجابية التي قد تبدو للمدرك، فإن ركائزها تكمن في القوالب النمطية التقليدية والهيمنة الذكورية (على سبيل المثال: الرجل كداعم والمرأة باعتبارها تابعًا له.)

كما يربط التمييز الجنسي الودود بين الحماية واللطف الذين تتلقاهما المرأة من ناحية وامتثالها للأدوار النمطية المُحددة للإناث من ناحية أخرى، أي أنها إذا كانت أنيقة المظهر وهادئة الطباع وتتحدث بصوت منخفض وتعترف بأن الرجل يمتلك قدرات بدنية وعقلية تفوق قدراتها، فإنها تستحق منه أن يحمل لها الحقائب الثقيلة، ويفتح لها الباب، ويسمح لها بالسير أمامه. أما إذا كانت متمردةً على هذا النمط، يتجه المجتمع إلى معاقبتها لأنها «امرأة حازمة»، وهذا يعني في القاموس الذكوري أنها «مُسيطرة وفظة» وتستحق التعنيف والإيذاء المعنوي والجسدي أحيانًا.

تصوّر الباحثتان جين جوه وجوديث هول في دراستهما «التعبيرات غير اللفظية واللفظية للتمييز الجنسي الذي يمارسه الرجال في التفاعلات الجندرية المختلطة»، التي نشرتها المجلة البحثية «Sex Rules» في العام 2015، التمييز الجنسي الودود بأنه كالذئب في ثياب الحمل الوديع، يديم دعم النساء لغياب المساواة بين الجنسين على المستوى الشخصي، لافتتين إلى أن الإشارات المُتصوّر أنها حسنة النية، قد تغري النساء بقبول الوضع الراهن في المجتمع، لأن «التمييز على أساس الجنس يبدو جذابًا وغير ضار.»

هذا الطرح تؤيده النتائج التي خرجت بها دراسة بعنوان «ما مدى جاذبية الرجال المتحيزين جنسيًا؟.. تصوّر النساء لملامح استجابة الذكور في جرد التمييز الجنسي المتناقض»، صدرت في العام 2010 ونشرتها أيضًا المجلة البحثية «Sex Rules».

أجريت الدراسة على عينة تضم 700 امرأة تتراوح أعمارهن بين 18 إلى 73 عامًا، وبينت نتائجها أن هؤلاء النسوة يرين الرجال الذين يمارسون أشكالًا من التمييز الجنسي الودود، كحمل الأشياء الثقيلة عن المرأة، وإعطائها المعطف إذا شعرت بالبرودة، ودفع ثمن الغداء أو العشاء في اللقاء الأول، أكثر جاذبية من غيرهم. بالإضافة إلى ذلك، كشفت الدراسة اعتقادهن أن هذه السلوكيات تشير إلى أن الرجل على استعداد للاستثمار في العلاقة، عن طريق ما يتصوّرن أنه يعبر عن الرعاية والدعم والالتزام.