ربما لا تنص القوانين في ماليزيا على وجوب ارتداء الحجاب، كما هو الحال في إيران أو السعودية، لكن السلطة الدينية هناك لا تسمح ولا تقبل المساس بهذا العُرِف الذي تعتبره فرضًا على كل امرأة مسلمة، ولذلك لم تتوان في استخدام نفوذها الطائل من أجل استصدار أمر بالتحقيق في محتوى كتاب صدر حديثًا للكاتبة والناشطة الماليزية مريم لي، بعنوان «خيار خلع الحجاب – Unveiling choice»، وفيه تكشف الدوافع وراء اتخاذها قرار التخلي عن الحجاب بعد ارتدائه لنحو 14 عامًا في بلد ذي أغلبية مسلمة، تنتشر فيه ممارسة تغطية الرأس بين النساء بل وتفرضها بعض المؤسسات على العاملات بها، كما تحظر اللوائح على الموظفات في جهاز الخدمة المدنية ارتداء ملابس بدون أكمام أو تنانير وفساتين فوق مستوى الركبة، فضلًا عن فرض الحجاب بالقوة منذ العام 2004 في إحدى المدن الماليزية وهي كوالا تيرينجانو.

في الـ13 من إبريل الجاري، عقدت الكاتبة مريم لي حفل توقيع كتابها الجديد في دار نشر جيراك بودايا في مدينة بيتالينغ جايا الماليزية، وفي هذه الجلسة التي استمرت لثلاث ساعات، تحدثت لي عن تجربتها الشخصية مع خلع الحجاب، كما شاركتها النقاش اثنتين من النسوة اللاتي اختبرن الشعور ذاته واتخذن القرار نفسه وعايشن معاناة نفسية مماثلة، وهما موهاني نيزا وديان سوفيا. وقد تطرق النقاش إلى الأبعاد الثقافية والتاريخية والاقتصادية المحيطة بقضية حجاب المسلمات في ماليزيا.

الشبكات الاجتماعية.. وسيلة المتشددين لممارسة «الإرهاب المعنوي»

قبل انعقاد حفل التوقيع، اندفع المتشددون والمتنطعون في الهجوم على الكاتبة والكتاب عبر مواقع التواصل الاجتماعي متهمين إياها بالترويج إلى خلع الحجاب، مما أثار تخوّف بعض النساء من الحضور خشية اتهامهن بالفسوق ومخافة تعقبهن. وعلى الرغم من أن الجلسة مرت دون أن يعكرّها رد فعل سلبي من جمهور الحاضرين خلال انعقادها، فإن الهجوم على مواقع التواصل الاجتماعي استمر بوتيرة أشد، وامتد ليشمل الناشطتين الأخريين اللتين شاركتا في حفل التوقيع. لكن مريم لي شددت خلال الجلسة وفي تصريحات صحافية أعقبتها على أن الكتاب لا يتجاوز حدود التوثيق لتجربة شخصية.

وفي تقديمها للكتاب، كتبت لي «لقد تناولت على وجه التحديد مسألة الاختيار بتعقيداتها فيما يخص قضية الحجاب، وفعلت ذلك من خلال تجسيد الواقع متعدد الأبعاد لكوني امرأة مسلمة في ماليزيا ذات الغالبية المسلمة، وكيف كان خلع الحجاب فعلًا ذا طبيعة سياسية وليس مجرد اختيار شخصي.»

ماليزيا صاحبة الصورة النموذجية عن التعايش السلمي والاحتواء رغم احتفاظها بالتوصيف كدولة إسلامية، تعاني في الأونة الأخيرة من صعود لافت للتيار المتشدد الذي لا يسعى فقط إلى تشديد الإجراءات فيما يتعلق بالممارسة الدينية الإسلامية، وإنما يبذل قصارى جهده بغية ترسيخ أفكاره في عقول الجيل الأصغر سنًا، وذلك من خلال تأسيس مدارس إسلامية خاصة وصل عددها إلى 900 مدرسة أنشئت فيما بين العامين 2011 و2017، وهو ما يثير قلقًا عميقًا بشأن ما ترسخه هذه المدارس من قيم وأفكار لدى الصغار.

يقولون «ماليزيا وسطية».. والواقع يثبت العكس

الجلبة التي أحدثها المحافظون على مواقع التواصل الاجتماعي، حفزت وزير الشؤون الدينية مجاهد يوسف على الإعلان عن قلقه إزاء الجلسة والنقاش الذي دار خلالها، وتأييده لإجراء «تحقيق عادل ومنصف». وفي صباح يوم الـ15 من إبريل، نشر الوزير عبر صفحته على موقع فيسبوك بيانًا يعلن فيه بدء التحقيق في ما جاء بكتاب «خيار خلع الحجاب». وكان أفراد من إدارة الشؤون الدينية في إقليم سلاغور قد توجهوا صباح اليوم التالي للجلسة إلى مقر دار النشر، وطلبوا الحصول على نسخ من الكتاب بالإضافة إلى قائمة أسماء من حضروا حفل التوقيع.

ويسعى وزير الشؤون الإسلامية مجاهد يوسف منذ فترة إلى تطبيق قواعد أكثر صرامة فيما يتعلق بمظهر النساء، وقد سبق أن صرح العام الماضي بأن الحكومة تدرس تمرير قرار يحدد مواصفات معينة لملابس النساء المسلمات العاملات في القطاع الخاص، إلا أن حديثه قوبل برفض واسع في بلد يحتضن مجموعات عرقية ودينية وطائفية مختلفة، تمثل ما يقترب من 40 في المئة من إجمالي السكان.

وقد جاءت تصريحات الوزير عن توجه الحكومة إلى وضع ضوابط لزي النساء المسلمات في القطاع الخاص، بعد شهور من انتقادات وجهتها مجموعات إسلامية لشركة الطيران الوطنية في ماليزيا، بشأن زي المضيفات معتبرين أنه غير لائق ولا يتماشى وقواعد الدين الإسلامي.

كتاب «خيار خلع الحجاب» يطرح قضية جوهرية في علاقة النساء المسلمات بأجسادهن، خاصة في ظل غياب حق الاختيار في كثير من الدول التي إن لم تفرض ارتداء الحجاب بالقانون، فإنها تلزمه بسلطة مجتمعية.

إذا حظرت السلطات تداول الكتاب، فلن تكون هذه هي الواقعة الأولى من نوعها، فقد اعتادت الحكومة الماليزية على منع كتب وأفلام وأغاني بدعوى الإساءة أو المخالفة لقواعد الدين الإسلامي ونصوصه. وفيما يخص الكتب تحديدًا، فقد حظرت الحكومة في العام 2017 كتابًا بعنوان «كسر الصمت: أصوات الاعتدال – الإسلام في ديمقراطية دستورية»، يضم مقالات لمسؤولين سابقين في الدولة ودبلوماسيين، يدعون إلى تطبيق مبادئ «الإسلام الوسطي» لمواجهة موجة التعصب المتنامية في ماليزيا، وأعلنت الحكومة وقتئذ أن سبب المنع يرجع إلى أن الكتاب قد يضر بالنظام العام ويزعج الرأي العام، كما نص القرار على توقيع عقوبة بالسجن لثلاث سنوات لكل من ينتهك الحظر.

رياح السبعينيات ضربت ماليزيا.. فأضحى الحجاب نمطًا

شهدت ماليزيا تحولًا في مظاهر الحياة الاجتماعية خلال الأربعين سنة الماضية، كما هو حال جميع الدول ذات الأغلبية المسلمة، على خلفية صعود التيار الوهابي في السعودية وتوغله في البلدان ذات الأغلبية السنية من ناحية، وفي أعقاب الثورة الإيرانية وبداية حكم الملالي من ناحية أخرى.

وقد نجحت المجموعات الداعية إلى اعتماد القراَن والسنة باعتبارهما مصدرين رئيسين لكل شيء يخص الفرد، في بسط سيطرتها وأسلمة الدولة، وفي هذا الإطار تمكنت هذه المجموعات من إقناع قطاع – اتسع تدريجيًا- من النساء المسلمات بفكرة «الزي الإسلامي»، فتطور الزي من الفساتين القصيرة والبناطيل الجينز، إلى التنانير الطويلة والسراويل الواسعة، ثم اكتمل التحول بغطاء الرأس.

ورغم أن ارتداء الحجاب لا يستند إلى أي قوانين في ماليزيا، فقد أصبح المتوقع من كل امرأة مسلمة في ماليزيا أن ترتديه في مرحلة المراهقة أو بداية الشباب، وبات ارتداء الحجاب استجابة إلى ضغط مجتمعي أكثر من كونه قرارًا يتخذ بإرادة حرة.

وجود نسبة ولو قليلة من النساء المسلمات في ماليزيا لا يضعن غطاءً على الرأس، لا يعني امتلاكهن لحرية الاختيار الكاملة، ولا يدلل على ذلك فقط ما حدث مع الكاتبة مريم لي وكتابها «خيار خلع الحجاب»، بل تثبته مظاهر الحياة اليومية، فعلى سبيل المثال تعج مجلات الموضة بصور العارضات «المحجبات»، كما تُصدّر ماليزيا إلى العالم الإسلامي موضة «الحجاب الماليزي» والمعروف في اللغة الملايوية (اللغة الرسمية في ماليزيا) بــ«tudung»، ويشير المُسمّى إلى زي متكامل حيث الفساتين الفضفاضة أو السترات الطويلة ذات الألوان البراقة، مصحوبة بالبناطيل الواسعة ويعتقد بعض مؤيدي الحجاب أن الإطلالة الماليزية تبعث على التشجيع على ارتدائه على عكس «الشادور الأسود» في إيران أو «البرقع الأزرق» في أفانستان أو «العباءات السوداء» في السعودية، إلا أن هذا التصور لا يمكن أن يخفي حقيقة مفادها أن ارتداء الحجاب في ماليزيا ليس خيارًا حرًا في أغلب الأحيان، بل تفرضه مصادر متعددة سواء مجتمع أو سلطة دينية أو حتى تصورات ذاتية تشكّلت واستقرت مع الوقت في عقول النساء عن أن النظرة الإيجابية للفتاة والسيدة يضمنها الحجاب أكثر من أي شيء اَخر.