كان «محمد خان» أكثر مخرجي تيار الواقعية الجديدة – الذي يضم أسماءً أبرزها؛ داوود عبد السيد وخيري بشارة وعاطف الطيب – انحيازًا لمعالجة أزمة المرأة الأمدية مع المجتمع الذكوري من خلال أفلامه، وهو واحد من أكثر مخرجي السينما المصرية الذين أجادوا الإيغال في صراعات النساء الداخلية، وانعكاسها على تفاعلهن مع الإطار المفروض عليهن في مجتمع يحترف ممارسة القهر بحقهن، وينجلي ذلك في أفلام مثل؛ موعد على العشاء، زوجة رجل مهم، أحلام هند وكاميليا، بنات وسط البلد، في شقة مصر الجديدة، فتاة المصنع.

في الذكرى الأولى لرحيل «خان»، نحاول قراءة عدد من أفلامه، التي نبش من خلالها في عوالم النساء، ومنها فيلم “أحلام هند وكاميليا”.

هو أحد أهم الأفلام التي قدمها “محمد خان” خلال مسيرته الممتدة لأكثر من 35 سنةً، وأكثرها واقعية واقترابًا من النساء المنتميات للطبقة المطحونة في مصر، وتحديدًا فئة العاملات في المنازل، ولم يكتف “خان” بإخراجه، بل كتب له القصة والسناريو أيضًا، وهو واحد من أصدق الأعمال السينمائية التي تعبر عن الكادحات في المجتمع، خاصة بعد أن زادت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، على إثر سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبنتها السلطات المصرية في النصف الثاني من السبعينيات.

يرسم “خان” بقلمه وعدسته صورةً واقعية لامرأتين تصارعان الظلم والقهر والحرمان، في مجتمع منقسم بين قوي متعجرف وضعيف مهزوم، ولم يوجه اهتمامه لخلق حدث رئيس يدور حوله الفيلم، وإنما ركز على الرحلة التي تتلاحق فيها الخيبات والانكسارات، ورغم ذلك كلما كادت الأحلام تضيع وتتبخر، تتولد القوة داخلهما لتتخطيا كل عقبة تعترض طريقهما الملبد بالغيوم.

“هند” و”كاميليا” وحلم الخروج من شرنقة الذل والاستغلال

يحكى الفيلم قصة عاملتين في المنازل، وهما “هند” الأرملة الشابة القادمة من الريف إلى القاهرة، للعمل في المنازل، وتنحصر أحلامها في زوج يحولها إلى “ست بيت” ويخلصها من هذه المهنة المنهكة نفسيًا وجسديًا، والثانية هي “كاميليا” المطلقة التي تعول شقيقها وأسرته، في مقابل أن تعيش معه في البيت نفسه، وحلمها أن تهنأ وصديقتها بحياة مستقلة وحرة بعيدة عن الاستغلال والذل الذي يحاوطهما من كل جانب.

أهم ما يميز هذا الفيلم أنه لم يجمل واقعًا أو يتعامل برومانسية حالمة مع مشكلاته، وإنما أبرز الاَلم والقهر والصعاب التي تحف طريق “هند وكاميليا”، وفي الوقت نفسه لم يختفِ الأمل، ليبقى ضوء يلوح في الأفق البعيد، يدفعهما إلى تحمل مشاق الحياة وابتلاع أوجاعها.

تنتمي “هند وكاميليا” إلى الطبقة الفقيرة المسحوقة في هذا المجتمع، وتمضي حياتهما من إخفاق إلى اَخر، وسط شبكة ذكور يجمعهم الاستغلال والأنانية، سواء كان “عيد” الذي أحبته “هند” وتزوجته، أو “سيد” شقيق “كاميليا” أو “عثمان” الذي تتزوجه الأخيرة مجبرةً بسبب شقيقها، و”أنور” صديق “عيد”.

وكان “خان” قد ذكر في أحد المقالات الواردة في كتابه “مخرج على الطريق”، أنه كان يطمح أن يقوم بدور الثنائي كل من “فاتن حمامة” و”سعاد حسني”، إلا أن حلمه في الجمع بينهما حالت الظروف دون تحققه، لتصبح “نجلاء فتحي” هي “كاميليا” و”عايدة رياض” هي “هند”، وقام بدور “عيد” الراحل “أحمد زكي”.

أيضـــــــــــــًا..«في شقة مصر الجديدة».. رحلة الخروج للحرية وتعضيد التمرد

هند
فتاة قروية بسيطة، أقرب إلى السذاجة، تعاندها الظروف ويلاحقها الحظ التعيس، يموت زوجها بعد شهر واحد من الزواج، ولأنها من أسرة فقيرة، تتحول إلى عبء بعد أن أضحت أرملةً، فينتهز خالها الفرصة، ليحولها إلى ماكينة تدر مالًا دون عناء، وينقلها إلى القاهرة لتخدم في أحد البيوت، لأناس من الطبقة المتوسطة، ورغم تحملها مشاق العمل اليومي والإهانة المستمرة والنهر والزجر، إلا أنها لا تنال شيئًا من راتبها، الذي يهم خالها أول كل شهر ليتحصل عليه، حتى يتمتع به وأسرته.

تقضي “هند” أغلب يومها مع الطفل “ميمي” الابن المدلل في البيت الذي تخدم به، تغبطه على حياته، التي لم تتمتع بها لا في صغرها ولا في شبابها، فتظهر في أول مشاهد الفيلم في الملاهي، وتأمرها والدته أن تصعد به إلى أعلى لعبة التزحلق أو الزحلوقة، عندها تقف “هند” وتنظر إليه وهو ينزلق عليها، تتمنى لو كانت مكانه، وتتمتم “يبختك يا سي ميمي.”

وكان “خان” قد ذكر في مقال من سلسلة مقالات كتبها عن الفيلم، أنه استوحى شخصية “هند” من مربيته التي كانت تحمل الاسم نفسه ويصفها قائلًا  “كانت تسير مفرودة القامة بخطوات شبه عسكرية، وهي تحمل السبت الممتلئ بالخضراوات على رأسها، دون أن تسنده بيد، اسمها هند علي خضر، من قرية صغيرة بمركز قويسنا المنوفية، عملت لدى أهلي خادمة، وتحولت إلى شبه مربية لي حوالي عشر سنوات من عمري، وكلما كنت أتذكرها، كان هناك دافع قوي داخلي يؤكد لي أنه في يوم ما هذه الـ “هند” ستكون موضوعًا لفيلم من أفلامي، وقد كان بالفعل لتصبح “هند” المربية الريفية إلهامًا لفيلمي أحلام هند وكاميليا.”

تقع “هند” في حب “سيد”، ظنًا منها أنه الرجل الذي سيخلصها من عالم الخدمة في المنازل، لكن معه تزداد الحياة قتامةً.

“سيد” هو الاَخر من المطحونين، ولكنه على عكس “هند” وجد ضالته في السرقة، مؤمنًا بأن ما يسرقه مستحق له ولأمثاله ممن سحقهم المجتمع. السرقات لم تجعل لـ”سيد” بيتًا مستقلًا، ولم تنتشله من القاع، بل على العكس تظل حياته ممزقة بين السجن والحياة البائسة خارج أسواره، فلم ينل “عيد” من اسمه شيئًا، ولم ير جملته المتكررة “مسيرها تروق وتحلى” حقيقةً ولو لساعات.

بسببه تجد “هند” نفسها المتهم الوحيد في عملية سرقة نفذها وصديقه “أنور” في بيت تعمل به، ليصبح ذلك أول موقف يتجسد فيه خذلانه، الذي يتتابع مرات، عندما يتركها تواجه الحياة وحيدة بعد حملها منه دون زواج، وبعد الزواج ومجيء “أحلام” للحياة، يبقى متمسكًا بالاحتيال والنصب والسرقة أركانًا أساسية في حياته، فيدخل السجن، ويتركها تتحمل مسؤولية ابنتها ومعها “كاميليا” تقاومان أمواج الحياة العاتية، لتكتشف “هند” أن السند الحقيقي لم يكن في الرجل الذي طالما حلمت به، وإنما السند الحقيقي هو صديقتها التي رافقتها في كل خطواتها، وتخبطاتها، وانكساراتها.

كاميليا

هي أيضًا عاملة في المنازل، ولكنها تختلف عن “هند” في أنها لم تأتِ من الريف، وإنما تعيش في القاهرة، ولذلك هي أكثر جرأةً في مواجهة بطش الحياة، تفضل العمل باليوم في شقق متعددة، وليس المكوث في خدمة بيت وأسرة بعينها مثل “هند”، وتجد في ذلك قسطًا من “الحرية”.

وتتشابه مع “هند” في المعاناة من انتهازية ذويها، حتى أقربهم إليها وهو شقيقها “سيد” الذي يربط معيشتها في بيته مع زوجته وأبنائه بإنفاقها عليه، لأنه أشبه بالعاطل، يعمل في المهن العابرة غير المستقرة، يوم من العمل في مقابل عشرة أيام من العطلة.

“كاميليا” امرأة مطلقة، عاشت فترة عسيرة خلال زواجها، ولم تعد تفكر في الزواج مجدًا، خاصة بعد أن تبين لها أنها لن تستطيع أن تنجب أطفالًا.

تزداد صورة الأخ قبحًا عندما يجبرها على الزواج من رجل يعمل تحت إمرته، عجوز وبخيل، لا يرى في “كاميليا” سوى جسد يكفيه لإفراغ شهوته الجنسية، لكن “كاميليا” التي يسكنها التمرد، تدخر من أموال العمل في المنازل، حتى يأتي اليوم الذي تهرب فيه منه، وتنهي هذا الفصل التعيس أو بالأحرى الأكثر تعاسة في حياتها.

لم تكن علاقة “كاميليا” بــ”هند” مجرد علاقة صديقتين جمعتهما الظروف، ولكنها أعمق من ذلك، فهي أقرب إليها من أسرتها، تشاركها تفاصيل الحياة اليومية التي يكتنفها الإحباط والحرمان، وتتخللها أحلام بسيطة سرعان ما تذوب في زحام الهموم، وتمثل “كاميليا” مصدر الأمان والدعم لـ”هند”، فهي أقوى وأكثر صلابةً، وتتحول “أحلام” مولودة “هند” إلى ابنة لــ”كاميليا” التي حلمت بها، لتصبح منبع الأمل المشترك بينهما.

أحلام

ووراء الطفلة الصغيرة التي أدت دور “أحلام”، قصة أخرى لا تقل إيلامًا عن القصة التي ظهرت على الشاشة، فهي طفلة تدعى “رضا”، ابنة لعاملة بمنزل أحد الكتاب السياسيين من أصدقاء المخرج “محمد خان”، راَها أكثر من مرة مع أمها في بيت صديقه، حتى أصبحت في مخيلته “أحلام”.

سعدت “صباح” والدة “رضا” باختيارها للقيام بالدور الصغير في الفيلم، ولأن “خان” كان على علم بالظروف الخاصة لـلأم، طلب من الإنتاج أن يكون أجر “رضا” في صورة أساور ذهب، تحتفظ بها الأم لطفلتها، خوفًا من أن يستغل الأب العاطل، أجر ابنته وينفقه على نفسه. “صباح” التي كانت فخورة بابنتها الصغيرة التي اختيرت للظهور في فيلم سينمائي كهذا، لم يمكنها القدر من مشاهدة الفيلم عند عرضه، لأنها توفيت إثر إصابتها المفاجئة بمرض الصفراء.

مرة جديدة وليست أخيرة.. “خان” يواجه المجتمع بذكوريته ويعضد مقاومة النساء

على الرغم من أن الفيلم مخرجه وكاتبه رجل، لكنه نسوي الطابع، ويمكن إدراجه تحت ما يسمى بــ”سينما التيار النسوي”، التي تغوص في أعماق مشكلات النساء النفسية والاجتماعية، وتناصر حقهن في التحرر من قيود الاستغلال والابتزاز الذكوري، ومجابهة انتهاك اَدميتهن تذرعًا بالأفضلية الذكورية.
لم يضع “خان” المرأة في إطار مثير للشفقة، بالعكس جعلها رغم القهر، تقاوم ولا تفقد الأمل، وفي هذا الفيلم تحديدًا يبرز “خان” الرجال نماذج بغيضة ومثيرة للاشمئزاز، بداية من خال “هند” الذي اعتبرها وسيلة سهلة للحصول على المال مرتاحًا من خلال تشغيلها في البيوت، و”سيد” شقيق “كاميليا” الذي يتعامل معها باعتبارها مصدر المال، الذي يعيش وأسرته مستفيدين منه، ولا يكف عن عن إهانتها، ومعايرتها بأنها لا تنجب أطفالًا، ويبرحها ضربًا عندما تصر على أن تأتي “هند” لتعيش معها، ثم يجبرها على الزواج من رجل لا يرى فيها سوى جسد، وفي أحد المشاهد التي تبرز ذلك، يظهر الزوج “عثمان” يكرهها على ممارسة العلاقة الجنسية، متذرعًا بحقه كرجل، حتى ترضخ له في نهاية الأمر وترتسم على وجهها ملامح الاستسلام أمام وحشيته، وما أن يفرغ شهوته، حتى يبدأ التشاجر معها، ثم يعتدي عليها بالضرب، لأنها أتت بــ”هند”، لتعيش معهما، ويطردهما في وقت متأخر من الليل.

التحرش يبرز في الفيلم عن طريق “عيد” الذي  يحاول التحرش بصديقة زوجته “كاميليا” إلا أنها تتصدى له بحزم، وفي مشهد لــ”هند” أثناء مسحها للأرض في بيت يسكنه شابان، وهما يرقبانها بنظرات تتفحص جسدها، وهي لا تستطيع أن ترد بقول أو فعل، بسبب العوز وخذلان من حولها لها، وعندها لم تتفوه بشيء سوى اسم “كاميليا” التي تمثل السند الوحيد لها في هذا العالم الذي يستبيح انتهاكهما بكل الصور.