هكذا كانت تبدأ شهرزاد حكاياتها لشهريار القابع فوق عرش ذكورته، محاولةً مراوغته وترويضه بأقاصيصها التى تخلق لديه شغفًا تارة لتسلى أوقاته المملوءة بالضجر، وبأنوثتها تارة أخرى، لتفلت من حكمه عليها بالإعدام على يد السياف، الذي لا يبرح كيانه، ولا تفارق صورته خياله، بيده الباطشة التى يلوح بها بالسيف فوق رقبة كل من يعارضه أو تسول له نفسه الحيد عن سلطانه.

ظلت شهرزاد تحكى لشهريار حكاياتها لألف ليلة وليلة، والشعور بالخضوع لسطوته يملأ كيانها، وتحكمه فى مصير حياتها يكبل جوارحها، وتلك النظرة المتوسلة المليئة بالرعب من قبضة السياف الذى يسكنه ترضي فى شهريار تسلطه؛ حتى تكرم وتعطف، وأصدر حكمه بالعفو عنها، بعدما عشق فيها خضوعها وخوفها الذى نمى فيها، وهكذا يظن البعض أن القصة انتهت نهاية سعيدة، وأن شهرزاد كسبت حياتها، لكنهم لا يدركون أن شهريار أصدر عليها حكمًا أقسى من الموت، بأن تظل حبيسة جدرانه، قانعة بسلطته، واصمةً نفسها بالضعف والنقصان، منتظرةً لأوامر معاليه التي تثبت خطاها، وترشد ضالتها.

ولأعود لنقطة البدء، هل شهريار كان سعيدًا فعلًا، وذا رأي رشيد، كما كانت تنعته شهرزاد؟ أم أنها كانت تتملقه لتُرضي غروره، فأين هي تلك السعادة التى كان يجدها شهريار فى حياة بعيدة عن نسائم المودة والرحمة، وآليات المشاركة والاحترام والتعاون التي تبني بيتًا سعيدًا، وأين ذاك الرأي الرشيد، وهو لا سند له فى تدعيم آرائه سوى القوة الباطشة؟!

اليوم لم يعد شهريار فقط ملكًا ذا سلطة ونفوذ، لكنه أصبح موظفًا أعيته ضغوط الحياة، أو شابًا متخبطًا فى دروب حياته، لا يرى أمامه هدفًا أو غاية، أو شيخًا أصابه الهرم، وأنهك قواه الزمن، لكنه مازال يشحذ قواه المتهالكة التى أضنيت بين مراتع القهر المجتمعي، ويحيى بداخله سيفه وسيافه، ليسلطه فوق رقبة شهرزاد ليضمن خضوعها وتابعيتها له.

شهريار اليوم يرتدى أفخر الأزياء الأوروبية، ليذهب إلى مقاهى المثقفين، ينثر زهور كلماته على صديقاته الجميلات، يحدثهن على أن الأرض أنثى، والأنثى هى أصل الحياة، وأن الحياة رونقها الحرية، وأن الحرية لم تخلق إلا للأنثى، وأن صوت الأنثى ثورة، يسقط عروش الطغيان، ثم يذهب إلى بيته ليلقي بقيوده العتيدة على شهرزاد الحبيسة فى قفصه.

شهريار اليوم يلبس عمامته، ويعتلى المنابر، ليقول أن صوت المرأة عورة، وعينيها عورة، ونفسها خارج البيت عورة، وعقلها ناقص، ودينها ناقص، وخروجها حرام، وتعليمها حرام، وعلى قلبه تجثم أنثى، وفوق ناظريه لا يرى سوى أنثى، وفى عقله المكبوت لا تصور له غرائزه فى الأشياء سوى صورة أنثى، يختلس النظر إليها.

شهريار اليوم ضحل فى تفكيره، تافه فى رؤيته، يهرول كحيوانٍ جامح وراء غرائزه المتدنية، لا تعنيه كرامته، ولا سمو إنسانيته، حتى لو ملأ الشيب مفرق رأسه، ويمد رأسه من سيارته، أو من فوق دراجته ليلقي كلماته المتحرشة على مسمع فتاة، غير عابئ بدنائة صورته، أو حقها في شارع اَمن.

شهريار اليوم مهزوز فى شخصيته، يغار إذا رأى فى شهرزاد نبوغًا، أو ثقة فى نفسها، فيعمل على إطفاء توهجها، والتقليل من شأنها، ليستمد قوته من ضعفها، ويرضي نقائص شخصيته، شهريار اليوم ينتهك الذمة المالية لشهرزاد، فيسلبها ميراثها، ويسلبها أموالها التى طالما أصابها الوهن، وأعياها التعب فى عملها لتجنيهم.

عفوًا شهريار (أيها الجاسم فوق أنفاس وعيني شهرزاد) حان الوقت لكي تتوارى، لتسمح للمجتمع أن يتنسم نسيمًا أكثر إبداعًا وجمالًا وتقدمًا، ولتفتح للحياة آفاقًا أكثر رحابة، آن الأوان لشهرزاد أن تتحرر من قيودك، وتستقل عن تابعيتك، وتترك بصماتها جلية على الحياة.