«لقد صرت حرةً منذ ما يزيد عن العام، وما زلت لا أستطيع النوم ليلًا. أستيقظ وأنا أشعر بتلك الطريقة المثيرة للاشمئزاز التي كانوا يلمسونني بها.»

جاءت هذه العبارة ضمن تصريحات أدلت بها الناشطة الأوكرانية يودميلا حسينوفا لجريدة الجارديان البريطانية (The Guardian)، وقد تحدثت خلالها عن التبعات طويلة المدى للعنف الجنسي الذي تعرضت له على أيدي القوات الموالية لروسيا في منطقة الدونيتسك شرق أوكرانيا.

يودميلا حسينوفا واحدة من 108 أسيرة أوكرانية جرى تحريرهن في عملية تبادل للأسيرات بين أوكرانيا وروسيا في أكتوبر من العام 2022، بعد مرور ثمانية أشهر على اندلاع الحرب، وقد انضمت يودميلا على إثر هذه التجربة إلى فريق الصندوق الدولي للناجيات/الناجين (Global Survivors Fund)، الذي وجدت فيه فرصـة للمشاركة في دعم ومساعدة الناجيات من العنف الجنسي المتصل بالنزاعات والحروب العسكرية، خاصةً أولئك اللاتي يواجهن هذا العنف في بلادها.

تأسس الصندوق الدولي للناجيات/الناجين قبل أقل من خمس أعوام، بمبادرة من الناشطة العراقية نادية مراد والطبيب الكونغولي دنيس مكويغي، الذين حصلا على جائزة نوبل للسلام في العام 2018 اعترافًا وتقديرًا لجهودهما في سبيل منع استخدام العنف الجنسي كسلاح في أثناء الحروب والنزاعات، ونشاطهما الرامي إلى دعم الناجيات من هذه الجرائم. ويضم الصندوق تحت مظلته مجموعة من برامج الدعم، في مقدمتها برنامج التعويضات المؤقتة للناجيات في الدول التي تعاني من صراعات مسلحة أو تحاول التعافي من تبعاتها، ولكن في فبراير من العام 2022 قرر الصندوق تخصيص برنامج مستقل للناجيات في أوكرانيا، لتقديم تعويضات عاجلة لـ «النساء اللاتي تعرضن للعنف الجنسي على أيدي القوات الروسية» بعد أن دارت رحى الحرب، وفي منتصف العام التالي بعث الصندوق برسالة رسمية إلى الرئاسة الأوكرانية يطالب فيها بتسريع عملية إصدار تشريع وطني يختص بتنظيم مسألة التعويضات العاجلة للناجيات؛ حتى يبدأ تنفيذ برنامج مشترك مع الحكومة.

وتجدر الإشارة إلى أن الصندوق الدولي للناجيات/الناجين لم يعلن عن خطة مماثلة لتدشين برنامج تعويضات عاجلة للنساء اللاتي تعرضن لجرائم عنف جنسي تتصل بنزاعات عسكرية أخرى، اندلعت خلال السنوات الأخيرة ولا تزال مستمرة كما هو الحال في أوكرانيا مثل النزاع في السودان، والنزاع الدائر في هايتي في أمريكا الشمالية.

المناسبة التي تحدثت على خلفيتها الناشطة الأوكرانية يودميلا حسينوفا مع صحيفة الجارديان قبل أيام، كانت إعلان حكومة بلادها والصندوق الدولي للناجيات/الناجين عن تخصيص تعويضات مؤقتة لـ 500 امرأة ممن نجون من جرائم العنف الجنسي التي يرتكبها تحديدًا أفراد تابعين للقوات الروسية منذ بداية الهجوم على الأراضي الأوكرانية في العام 2022، وقد كشفت الحكومة أن التعويضات ستشمل، إلى جانب الدعم المالي، خدمات الدعم الصحي النفسي والجسدي.

تُقدّر هيئة الأمم المتحدة عدد الناجيات من العنف الجنسي ذي الصلة بالحرب الروسية بالآلاف، إلا أن ربط الحق في جبر الضرر بمسار التعويض الإداري التابع للسلطة التنفيذية، يجعل النساء اللاتي سيستفدن من برنامج التعويضات هن فقط من يسجل الادعاء العام الأوكراني شهاداتهن.

يعتبر المسار الإداري لتعويض الناجيات بديلًا مؤقتًا للمسار القضائي التقليدي، وعادةً ما يكون اللجوء إليه بسبب هشاشة النظام القضائي في أوقات الأزمات، أو بهدف تمكين الناجيات من الحصول على تعويض مادي ومعنوي من دون اضطرار إلى تحمل طول إجراءات التقاضي والصعوبات المرتبطة بها.

مكمن الازدواجية: أيؤلِمُ بعض الأنين المجتمع الدولي وبعضه لا يعبأ له؟

يعد إعلان أوكرانيا بدء العمل على تعويض الناجيات من العنف الجنسي المرتبط بالحرب الجارية مع روسيا خطوةً لم يسبق أن اتخذتها دولةُ لا تزال في قلب الحرب أو النزاع، إذ أن القرارات السابقة فيما يتعلق بتعويض الناجيات، لا سيما التعويض المادي، لم تكن تأتي إلا بعد انكفاء الصراع بفترة طويلة نسبيًا، يملؤها نضال النساء من أجل انتزاع رد اعتبار وتعويض للناجيات اللائي طالتهن جرائم الخطف والاغتصاب والاستعباد الجنسي، تمامًا مثل نضال مجموعة ليلا بليبينا (Lila Pilipina) في دولة الفليبين التي تكافح عضواتها منذ عشرين عامًا، كي تنال آلاف النساء – وهن من بينهن- تعويضات معنوية ومادية عن الأضرار التي لحقت بهن، بعد أن اختطفتهن قوات الجيش الياباني الإمبراطوري في أثناء الحرب العالمية الثانية، واحتجزتهن داخل أماكن عُرِفَت وقتها باسم «محطات المتعة»، وأجبرتهن بعد ذلك وإلى أن حطت الحرب أوزارها على تقديم خدمات جنسية للجنود في ظروف تندرج تحت توصيف «الاستبعاد الجنسي.»

معظم هؤلاء النساء لم يحصلن حتى وفاتهن على تعويضات من اليابان بوصفها الدولة صاحبة المسؤولية أو من حكومات بلادهن المتعاقبة، غير أن بعضهن قضين اضطراريًا ما  تبقى في حيواتهن بعد أن انفضت الحرب بعيدًا عن وطنهن بسبب النبذ الاجتماعي، والغياب الطويل لأي إقرار وطني ودولي بحقهن في جبر الضرر، وحينما استحدثت الحكومة اليابانية صندوق النساء الآسيويات (The Asian Women’s Fund) لتقدم من خلاله تعويضات مالية للنساء اللاتي نجون من جرائم الاستعباد الجنسي التي ارتكبها جيشها الإمبراطوري، لم يصحب هذه الخطوة اعتراف صريح بالمسؤولية أو اعتذار واضح وحاسم.

زيادة على ذلك، غضت الفلبين، دولتهن، الطرف عن معاناتهن ولم تتخذ إجراءات لإعادة دمجهن في المجتمع أو حمايتهن من التمييز الذي يلاحقهن. أما على المستوى الدولي، فلم يخرج اعتراف بحقوقهن إلا في العام الماضي، عندما استجابت الأمم المتحدة إلى بلاغ تقدمت به مجموعة ليلا بليبينا في العام 2019، للاحتجاج على موقف الحكومة الفلبينية منهن ومن آلاف النساء اللاتي يمثلنهن. وقد أصدرت اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة التابعة للأمم المتحدة في مارس من العام 2023 مجموعة من التوصيات، شددت فيها على أحقية الناجيات في اعتراف واعتذار رسميين من حكومة بلادهن، بالإضافة إلى تعويض مادي ومعنوي يتناسب مع حجم الأضرار التي لحقت بهن وجسامة الانتهاكات التي تعرضن لها، بما في ذلك استعادة كرامتهن وسمعتهن، إلا أن التوصيات تظل غير ملزمة، و«المجتمع الدولي الغربي» لم يحتشد حولها، ولم تتحرك صناديق تمويل أو منظمات دعم لتضغط على الحكومة الفلبينية أو تتشاور معها بشأن الآليات المتاحة والسبل الممكنة لتقديم الدعم والتعويض للناجيات، ولهذا فما من شيء تغير في واقع هؤلاء النساء حتى يومنا هذا.

وفي حالة دول البلقان التي أقرت بالفعل برامج شاملة لتعويض الناجيات من العنف الجنسي إبان الحروب والنزاعات العسكرية التي شهدتها المنطقة خلال التسعينيات، فلم تشرع كل من صربيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو في اتخاذ خطوات في هذا المنحى تشمل إلزام الحكومات بدفع تعويضات مالية لهن/لهم، وتيسير استفادتهن من مختلف الخدمات الاجتماعية إلا في العام 2015، ولا يزال الحصول على التعويضات محفوفًا بالمشاق والمتاعب المعنوية والمادية.

أما العراق الذي أصدر في العام 2021 قانونًا باسم «قانون الناجيات الإيزيديات»، لتعويض النساء والفتيات الإيزيديات اللاتي اختطفهن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العام 2014 وأخضعهن للاستعباد الجنسي، فتتلاقى تجربته مع التجربة الأوكرانية في أمرين؛ أولهما هو اهتمام العديد من الحكومات والمؤسسات الدولية بمساندة الحكومة العراقية في معالجة أزمة الناجيات من جرائم الاستعباد الجنسي التي ارتكبها تنظيم الدولة، وتأتي على رأس الجهات التي ساهمت بقوة في خروج قانون الناجيات الإيزيديات إلى النور، مبادرة نادية (Nadia’s Initiative) التي أسستها الناشطة الإيزيدية نادية مراد في الولايات المتحدة في العام 2018، بغية دعم ومساندة النساء في منطقة سنجار حيث تتركز الأقلية الإيزيدية عبر برامج التأهيل والدعم النفسي، وكذلك التعاون مع الحكومات في الدول الغربية ومؤسسات التمويل التابعة لها في وضع تصورات إجرائية تُعين العراق على تعويضهن ومنع تكرر الجرائم التي طالتهن.

الأمر الثاني المتشابه بين التجربتين هو اتخاذ المسار الإداري في تعويض الناجيات، بيد أن الحكومة العراقية قررت مؤخرًا الخروج عنه، لتزداد الشكوك حول ما إذا كانت الإدارة في العراق قد أصدرت القانون لدعم الناجيات حقًا أو للتسويق الدولي، إذ يجسد القرار عقبة أخرى في طريق الناجيات بعد أن اعترضته العقبات واحدة تلو الأخرى منذ دخول التشريع حيز التنفيذ، وبحسب القرار الحكومي الأخير فقد بات تقديم شكوى رسمية أمام القضاء شرطًا أساسيًا للحصول على التعويض، في خرق واضح لحق الناجية في حماية خصوصيتها ومراعاة احتياجاتها النفسية والاجتماعية.

ومع أن المبادرة الأوكرانية ما فتئت إعلانًا لم يبدأ تنفيذه، فإنها على غير ما سبق من تجارب سواء في العراق أو دول البلقان، تحظى باحتفاء واسع ويحيطها تفاؤل قوي تعبر عنه كبريات الهيئات والمؤسسات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، بالتوازي مع اهتمام ملحوظ في الإعلام الدولي الغربي الذي حرص على تناقل أخبار المؤتمر الذي عقدته الحكومة الأوكرانية للكشف عن برنامج التعويضات العاجلة للناجيات. وقد يكون لذلك علاقة بكون الإجراء في حد ذاته سابقة فيما يتعلق بوضع احتياجات الناجيات من العنف الجنسي المتصل بالصراع العسكري ضمن أولويات الدولة حتى في خضم الحرب، وربما أيضًا بسبب طزاجة الحدث المرتبط بالقرار سواء الجرائم أو الحرب التي أدت إلى وقوعها. لكن الأكيد هو أن ثمة صلة بين القرار الذي أعلنت عنه حكومة كييف من ناحية، وموقف الدول الكبرى في الغرب تجاه الحرب الدائرة على الأراضي الأوكرانية، وعلاقة هذه الدول بالصندوق الدولي للناجيات/الناجين من ناحية أخرى.

سيساهم الصندوق الدولي للناجيات/الناجين في الوقت الحالي بجزء كبير من التعويضات المؤقتة للناجيات من العنف الجنسي المتصل بالنزاع العسكري في أوكرانيا. وفي واقع الحال، لقد كان الصندوق مصدر ضغط رئيس على حكومة كييف خلال العامين الماضيين لتُعجّل بإطلاق هذا البرنامج، ومن غير الممكن في هذا السياق أن نتغافل عن العلاقة الوثيقة بين جهود الصندوق المضاعفة تجاه الناجيات في أوكرانيا (بالمقارنة مع عمله لصالح الناجيات في دول أو مناطق نزاع أخرى في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية)، والتمويل الذي يتلقاه من كيانات ودول بعينها مثل فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، فكل هؤلاء يدعمون الحكومة الأوكرانية ويروجون من خلال هذا الدعم إلى التزامهم بتعزيز  قيم الحرية، وحقوق الأفراد، والديمقراطية في سياساتهم الخارجية، ويستخدمونه أيضًا للتأكيد والتصديق على أنهم حريصين على إصلاح ما تخربه القوى المضادة سواء على مستوى الأفراد، أو البنى التحتية، أو الجيوش.

ولا يمكن أيضًا التغاضي عن البنود التي تفردها هذه الدول للنساء والفتيات في خطط المساعدات الإنسانية الموجهة إلى أوكرانيا، ومنها ما يختص باحتياجات الصحة الجنسية والإنجابية والصحة النفسية، وهناك ما يتناول مسألة التعويض عن الأضرار المادية.

وتحدد المديرية العامة للحماية المدنية الأوروبية وعمليات المساعدة الإنسانية التابعة للاتحاد الأوروبي (DG ECHO) في الوثيقة التفصيلية للمساعدات الأوكرانية، النساء والفتيات بوصفهن من أكثر الفئات المعرضة للمخاطر في ظل الحرب الجارية، وتشير الوثيقة إلى أن جزءًا من المساعدات من شأنه أن يغطي احتياجات الأفراد -المقدرة أعدادهم بـ 25 مليونًا، معظمهم من النساء والفتيات – لخدمات الوقاية والاستجابة للعنف القائم على النوع الاجتماعي.

حكومة «القائد البطل» تتعهد باستعادة حقوق نساء «الوطن»

يوضح الصندوق الدولي للناجيات/الناجين في أكثر من منشور على موقعه الخاص، أن الحكومة الأوكرانية ممثلةً في نائبة رئيس الوزراء لشؤون التكامل الأوروبي والأوروبي الأطلسي والمفوضة الحكومية لسياسة المساواة الجندرية، كانت خير معاون له في العمل على برنامج التعويضات العاجلة، مما يشير إلى وجود إرادة سياسية لتنفيذ المبادرة، إلا أن ذلك ليس دليلًا على وجود قناعة تامة لدى هذه الحكومة بشأن أولوية تنفيذ البرنامج وعدم تأجيله، ووجوب استهداف أكبر عدد من الناجيات بالدعم في هذه المرحلة، خاصةً أن إعلان الحكومة الأوكرانية البدء في تقديم تعويضات للناجيات من العنف الجنسي على أيدي القوات الروسية -في مؤتمر دولي كبير أقامته بالعاصمة كييف وسط حضور ممثلات وممثلين لحكومات العديد من الدول الأوروبية- يبدو كجملة اعتراضية خارجة عن النسق الذي تتبعه في خطابها وسياستها والطريقة التي تسوق بها إلى نفسها وقيادتها منذ اندلاع الحرب، فهذه الحكومة يقودها رجل يتقولب في دور «القائد الشجاع وبطل المرحلة الاستثنائية» على النحو المطبوع في المخيلة الذكورية، ويهيمن على تشكيلتها الرجال بينما النساء مستبعدات عن الوزارات المحورية في مواجهة ظروف الحرب كالدفاع، والأمن الداخلي، والعلاقات الخارجية، والمالية، والإنشاء والبنية التحتية.

علاوة على ذلك، كان القرار الذي سارعت إدارة البلاد بإعلانه عقب الهجوم الروسي في فبراير من العام 2022، هو منع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عامًا من مغادرة البلاد واستدعاؤهم للخدمة العسكرية الإلزامية. في المقابل صار الأمر في هذا النطاق اختياريًا بالنسبة للنساء بما فيهن أولئك الملتحقات بالجيش فعليًا، وعندما قررت الحكومة في الربع الأخير من العام الماضي استدعاء النساء للخدمة، قصرت قرارها على العاملات أو الحاصلات على شهادات في الطب والتمريض كي يساعدن في تطبيب الجنود. أما الإعلام التابع للدولة، فغالبًا ما كان يتناول تجارب النساء في خلال الشهور الأولى للحرب من موقع الزوجات والأمهات والبنات اللاتي أبعدهن القتال عن أحبائهم من الرجال.

وعطفًا على ذلك، فإن الخطوة التي اتخذتها الحكومة الأوكرانية سيكون من الممكن رؤيتها باعتبارها فعلًا متسقًا مع الفلسفة التي تتبناها منذ بداية الحرب، عند استجلاء الثيمة التي هيمنت على كلمات عضوات وأعضاء الحكومة والبرلمان الذين تحدثوا في مؤتمر الإعلان عن برنامج التعويضات العاجلة للناجيات، وهي ثنائية «حماية الوطن» و «اعتداء المحتل» التي تخامرها النظرة الذكورية التقليدية للنساء في أوقات الحروب، حيث تكون أجسادهن كالأرض، واغتصابها كالسيطرة على الأرض غصبًا، وبهذا يغدو الإعلان الأوكراني عن البدء في تأهيل الناجيات وتعويضهن عن الضرر إرهاصة ورمزية لإصلاح الوطن وإزالة ندوب الحرب عنه.