اعتاد محبو السينما أن يستند تصنيف الأفلام وتحديد مدى صلاحيتها لعموم المشاهدين أو لفئة بعينها، إلى مجموعة مؤثرات كمشاهد العنف الجسدي أو الجنسي، أو المشاهد الجنسية، أو الألفاظ النابية، وقد يضاف إليها في بعض الأحيان الأفكار الفلسفية التي يطرحها الفيلم، ولكن منذ عدة سنوات أدرجت مؤسسات سينمائية بدولة السويد عاملًا آخر في القائمة، وهو التحيز الجندري أو التحيز على أساس النوع.

في أكتوبر من العام 2013، أعلنت أربع من دور العرض السينمائي في السويد أن أي فيلم من شأنه الحصول على تصنيف أ (A Rating)، يتعين أن تتوافر فيه ثلاثة شروط، أولها أن تضم شخصياته الرئيسة شخصيتين نسائيتين معرفتين باسميهما، وثانيها أن تتحدث كلا الشخصيتين إلى بعضهما إلى البعض في حوار مباشر، وثالث شرط هو أن يكون الحديث بينهما عن شيء آخر غير الرجل.

بمرور الوقت زاد عدد دور العرض السويدية التي عزمت على تطبيق المبادرة التي يدعمها المعهد السويدي للأفلام المموَل من قبل الحكومة، كما قررت قناة فياسات فيلم التلفزيونية السويدية (Viasat Film)، التي تُبّث عبر الدول الاسكندنافية أن تلحق بالركب، ومن ثم شرعت في مراجعة تصنيف الأفلام التي تعرضها عبر شاشتها وفقًا للشروط الثلاثة، وجاء التطبيق الأول للنهج الجديد، يوم الـ17 من نوفمبر من العام 2013، الذي خصصته القناة لعرض مجموعة من الأفلام التي كشفت المراجعة أهليتها لنيل التصنيف أ (A Rating)، ومنها فيلمي «ألعاب الجوع – The Hunger Games»، و«المرأة الحديدية – The Iron Lady».

كان النجاح حليفًا للمبادرة بشكل لافت، فقد استجاب لها 27 دار عرض سينمائي خلال عامين بعد انطلاقها، ليصل عدد دور العرض التي أضافت إلى قائمة تصنيفاتها للأفلام، التصنيف أ (ِA Rating) المتعلق بالتحيز الجندري، إلى 30 دارًا مع بداية العام 2016.

إضافة إلى ذلك، دفع الزخم الذي أحاط بالمبادرة والاستقبال الشعبي الإيجابي لها، صانعات وصناع الأفلام إلى تطبيق الشروط الثلاثة في أفلامهم، وبعد أن كانت نسبة الأفلام الروائية السويدية التي استقبلتها دور العرض السينمائي في العام 2013 وحصدت التنصيف أ (A Rating) هي 30 في المئة فقط، وصلت النسبة إلى 80 في المئة في العام 2015.

لكن هذه المبادرة أو بالأحرى القاعدة لم تصاغ داخل السويد على يد صانعة أو صانع أفلام، أو أحد الباحثات أو الباحثين السويديين، فالشروط الثلاثة التي صارت الصناعة السينمائية في السويد تحتكم إليها كمعيار لمدى تحيز الفيلم من عدمه ضد النساء، وضعتها لأول مرة فنانة الكاريكاتير والقصص المصورة الأمريكية أليسون بيكدل في منتصف الثمانينيات، من خلال قصة مصورة رسمتها تحت اسم «القاعدة – The Rule»، لتعبّر فيها عن رؤيتها ورؤية صديقتها ليز ووالس للفيلم الذي يستحق أن يحظى بالمشاهدة خاصةً من النساء.

اختبار بيكدل .. الإجابات صحيحة ومع ذلك النتيجة سلبية

أطلقت رسامة القصص المصورة أليسون بيكدل في العام 1983 سلسلة قصص مصورة بعنوان «Dykes to watch out for»، لتناقش من خلالها قضايا حياتية مختلفة، من منظور شخصيات نسائية ينتمي أغلبها إلى المجتمع الكويري، وقد استمرت في إصدار هذه السلسلة لما يزيد عن عشرين عامًا، إلا أن أبرز ما قدمته أليسون من خلال هذه السلسلة هو القصة التي نشرتها في العام 1985، وكانت تصور فيها اثنتين من شخصيات السلسلة الرئيسة، وإحداهما تقترح على الأخرى الذهاب إلى السينما، فتجيبها الأخيرة بأنها لا تذهب لمشاهدة فيلم إلا إذا توافرت فيه ثلاثة شروط، تتمثل في أن يضم بين شخصياته امرأتين، تتحدثان إلى بعضهما البعض، عن شيء آخر غير الرجل، فتنتهي القصة بتفضيل الفتاتين للبقاء في المنزل وعدم الذهاب إلى السينما، لأن هذه الشروط غير متحققة في أي من الأفلام المعروضة.

جذبت قاعدة أليسون بيكدل اهتمامًا واسعًا، وفي غضون سنوات غدت القاعدة اختبارًا لتقييم الأفلام يُعرَف بأسماء عديدة، أكثرها شهرة «اختبار بيكدل – Bechdel Test» و«اختبار بيكدل- ووالس – Bechdel-Wallace Test» في إشارة إلى دور صديقتها ليز ووالس في بلورة الفكرة، وبات أداة يعتمد عليها باحثات وباحثون، وناقدات ونقاد، ومؤسسات ومراكز، كمؤشر على مدى تحقق المساواة الجندرية في الفيلم السينمائي، بل إن بعض الأفراد والهيئات تعاملوا مع اجتياز الأفلام للاختبار، باعتباره دليلًا على انطلاق هذه الأعمال من قناعات نسوية أو تبنيها لأفكار نسوية.

ومع تنامي اتجاه كثير من الحكومات الوطنية، نحو اتخاذ خطوات تساهم في تعزيز المساواة الجندرية داخل القطاعات المختلفة، ومنها القطاع الثقافي، أعلنت مؤسسات سينمائية تمولها حكومات بعض الدول الاسكندنافية، مثل المعهد السويدي للأفلام، ومركز الفيلم الآيسلندي، عن تبنيها لاستراتيجيات ترمي إلى تحقيق المساواة الجندرية في المجال السينمائي.

ولتحقيق هذا الهدف، قررت المؤسستان الاعتماد على «اختبار بيكدل- Bechdel Test» الذي طبقت شهرته الآفاق خلال السنوات العشر الأخيرة، فاستخدمه المعهد السويدي للأفلام كما أوضحنا سلفًا لتصنيف الأفلام عند عرضها في قاعات العرض، بينما عزم مركز الفيلم الآيسلندي، الذي يأتي بين مهامه تقديم منح مالية لإنتاج الأفلام، على تقييد الحصول على المنحة باجتياز مشروع الفيلم للاختبار، التزامًا بما نصت عليه وتهدف إليه سياسة السينما الآيسلندية (2020 -2030)، التي أعلنتها وزارة التعليم والثقافة والعلوم.

لكن زيادة الاتكال على «اختبار بيكدل-ووالس – Bechdel-Wallace Test»، كآلية لتخليص الأفلام من الوسم بالتحيز الجندري أو لتحديد مدى استحقاق مشروعات الأفلام للاكتمال، تقابله معارضة متصاعدة داخل الأوساط النسوية، لما يعكسه هذا النسق من اختزال وتسطيح لإشكالية التحيز القائم على النوع في الأعمال السينمائية والدرامية عمومًا.

في الواقع، تجتاز أفلام كثيرة «اختبار بيكدل- Bechdel Test» لتوافر شروطه الثلاثة فيها، بينما يحفل مضمونها وأحداثها بالتحيز على أساس النوع، مثل فيلم «الأصدقاء الجيدون – GoodFellas» للمخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي، الذي يدور حول عالم العصابات والجرائم الذي يهيمن عليه الرجال، وتتقولب معظم شخصياته النسائية في نمطين متناقضين طالما برزا في أفلام سكورسيزي، وهما المرأة الصالحة المغلوب على أمرها والمرأة البذيئة الجشعة.
على الجانب الآخر، تخفق أفلام أخرى تكاد أن تخلو من القوالب المعهودة في أن تمر بسلام من الاختبار، مثل فيلم «قبل منتصف الليل – Before Mindnight» للمخرج الأمريكي ريتشارد لينكلاتر، الذي لم تتحقق فيه شروط بيكدل، بينما تتميز الشخصية النسائية الرئيسة فيه بالحيوية والاستقلالية والثقة بالنفس، كما يقدم الفيلم إجابةً غير نمطية عن سؤال العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة، فلم تبذل البطلة تضحيةً، أو تتغاضى عن خيانةٍ، أو تتنازل عن طموحٍ، لتكلل قصة حبها بالنجاح كما هو معتاد في كثير من الأعمال الدرامية.

تحقق شروط بيكدل لا يجعل الفيلم نسويًا

لا يعني «اختبار بيكدل-ووالس- Bechdel-Wallace Test» بالتحليل الكيفي للأفلام، فهو أداة لرصد حضور النساء على الشاشة بشخصيات مُعرّفة، لا تنشغل فقط بالرجال والحديث عن ما يخصهم، ولكنه لا يساعد من يستعينون به في تحليل الشخصيات النسائية ودينامياتها وتطورها الدرامي، أو تأثيرها في تصاعد الأحداث، أو تفاعلها مع ما تتعرض له ويجري حولها من عنف وتمييز.

كما أن اشتراط بيكدل أن يكون الحوار بين الشخصيتين النسائيتين حول شيء آخر غير الرجل، ليس دليلًا على غياب النمطية عنهما، فقد يكون الحوار حول أمور أخرى تعكس خواء الشخصيتين أو تكرس لصور نمطية شائعة عن ما يشغل النساء ويتحدثنّ عنه، فكم من مرة دار حديث بين شخصيتين نسائيتين في أحد الأفلام، وكان محوره امرأة غيرهما يحقدان عليها أو يقدحان في شخصيتها، كما هو الحال في فيلم «المرأة الأخرى –The Other Woman» الذي جاء في قائمة الأفلام الأمريكية التي اجتازت الاختبار في العام 2014، مع أن النمطية تخيم على قصته وشخصياته، إذ تدور أحداثه حول ثلاث نساء يكتشفن أنهن يتعرضن للخداع والخيانة من الرجل ذاته، فتتأجج الكراهية والعداوة بينهن، ثم يتوافقن على توجيه الضغينة نحوه ويتعاون سويًا للانتقام منه.

أحد مواطن القصور أيضًا في «اختبار بيكدل – Bechdel Test»، هو تعاطيه مع النساء بتعميم وتجاهل للاختلافات فيما بينهن كما لو كنّ كتلة متجانسة، فلا تأخذ شروط بيكدل بعين الاعتبار التقاطع بين النوع والهويات الأخرى كالعرق، والطبقة، والقدرة الجسدية، والميول الجنسية، رغم أهمية ذلك في استبيان مدى نمطية الشخصيات، وضمان تنوعها، واستكشاف خصوصية الصراعات التي تمر بها كل منها.

المشكلة ليست في «اختبار بيكدل – Bechdel Test» في حد ذاته، بل فيما أراد آخرون أن يحمّلونه إياه، فقد تكون شروط الاختبار مهمة إذا كان الغرض هو قياس حضور النساء بين الشخصيات الأساسية بالفيلم، إلا أنها لا يمكن أن تكون برهانًا على أن الفيلم ينطلق من منظور نسوي للقضية التي يتناولها، أو أن رسائله المعلنة أو المضمرة مثقلة بأي نزعات نسوية، لأن التحقق من أمور كتلك يحتاج إلى تحليل متعمّق للفيلم بكل تفاصيله، بدءًا من القصة والأحداث والحوار ثم الشخصيات، وصولًا إلى الإضاءة والأزياء والموسيقى التصويرية.