كتبــت: آلاء حسـن

«لا للحجاب القســري»

خرجت ملايين النساء الإيرانيات في احتجاجات عارمة على مدار الأيام الماضية، بعد أن استعر الغضب داخلهن على خلفية وفاة الشابة الإيرانية مهسا أميني في الـ16 من سبتمبر، عقب إصابتها بغيبوبة أثناء احتجازها داخل أحد المراكز الشرطية، بتهمة «الحجاب السيء» التي توجهها دوريات الإرشاد (أو شرطة الأخلاق) إلى النساء اللاتي يُظهِرن رقبتهن وجزءًا من شعرهن، بالمخالفة لقواعد «الحجاب الإلزامي» المفروض بقوة القانون الجنائي الإيراني، وبموجب خطة حماية خصوصية العفة والحجاب المعتمدة من قبل مجلس شورى الملالي.

بالطبع، هذا ليس أول احتجاج نسوي في إيران ضد الحجاب الإجباري، المُشرعن بقوانين الجمهورية الإسلامية منذ العام 1983، إلا أنه الاحتجاج الأوسع انتشارًا والأكثر شمولًا وتنوعًا في ظل مشاركة نساء من مختلف الطبقات والفئات العمرية وشتى المدن والمناطق، وهو أيضًا الأضخم بفضل انضمام قطاعات عريضة من الإيرانيات والإيرانيين إلى الاحتجاجات، وخروج مسيرات داعمة في العديد من المدن حول العالم مثل: فانكوفر في كندا، وبرلين وفرانكفورت في ألمانيا، وملبورن في أستراليا، وإسطنبول في تركيا، ونيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية.

كسرت النساء الإيرانيات في هذه الانتفاضة حاجز الخوف كما لم يحدث من قبل، وتجاوز احتجاجهن المطالبة بإلغاء الحجاب الإجباري، إذ أضحى الهدف هو إسقاط النظام الأبوي الديني الذي ترزح تحت وطأته البلاد منذ أكثر من أربعة عقود.

خريف الغضب النسوي

شهدت الانتفاضة الأخيرة مظاهر احتجاج شديدة الجسارة، فقد خرجت حشود من النساء فيما يزيد عن 50 مدينة إيرانية من دون أن يغطين شعرهن، متحديات القوات الشرطية المتربصة بهن، وأقدمت كثير من المحتجات على حرق أغطية الرأس على مرأى ومسمع من قوات الأمن.

وتعبيرًا عن السخط أيضًا، عمدت بعض النساء إلى قص شعرهن وسط تهليلٍ وتصفيقٍ من المتجمعات والمتجمعين حولهن، ومنهن من أحرقت خصلات الشعر المقصوصة أمام الملأ، وسرعان ما تحول هذا الفعل إلى تقليد احتجاجي، تمارسه العديد من النساء الإيرانيات اللاتي يعشن خارج البلاد أمام عدسات هواتفهن النقالة، ليواكب النضال الواقعي نضالًا افتراضيًا لا يقل زخمًا ووهجًا.

تواصُل الاحتجاجات أردفه زيادة في وتيرة القمع، فسقط عشرات القتلى برصاص قوات الأمن ومن بينهن حديث نجفي التي تخلت عن غطاء الرأس بعد مقتل مهسا وسارعت بالانضمام إلى المحتجات والمحتجين، وقد عزمت على ألا يخفت صوتها الغاضب حتى يسقط نظام الملالي، إلا أن من بيده السلاح أسكت صوتها قبل أن يتحقق مرادها، إذ قضت حديث يوم الـ26 من سبتمبر بعد أن اخترق رصاص الشرطة جسدها، أثناء مشاركتها في إحدى التظاهرات بمدينة كرج، غرب العاصمة طهران.

وبعد أن كان اسم مهسا أميني هو المؤجج الرئيس للاحتجاجات، التحق به اسم حديث نجفي الذي قد لا يكون الأخير في هذا الصدد، طالما أن النظام الإيراني يعوّل على البطش والوحشية للنجاة من هذه الانتفاضة.

جمرات غضـب أقضت مضجع نظام ولاية الفقيه

ثمة معارك خاضتها النساء الإيرانيات في السابق ضد تقييد مظهرهن بنمط بعينه، على غير رغبتهنّ ومن دون أن يكون لهن حق الاختيار، كان أبرزها الحملة الإلكترونية التي انطلقت في مايو من العام 2017، تحت عنوان «أيام الأربعاء البيضاء»، احتجاجًا على إلزامهن بارتداء الحجاب بمجرد أن يبلغن سن التاسعة.

بدأت الحملة بدعوة من ماسيه علي نجاد الناشطة الإيرانية المقيمة بالولايات المتحدة، وجهتها إلى متابعاتها الإيرانيات على موقعي فيسبوك وتويتر، تناشدهن فيها بارتداء ملابس بيضاء في كل أربعاء كاحتجاج رمزي على الحجاب القسري، وقد قالت في دعوتها «هذه الحملة موجهة إلى النساء اللاتي يرتدين الحجاب، ولكنهن معارضات لفكرة فرضه على الآخريات، وإلى هؤلاء النساء المحجبات في إيران ويرين أن فرضه إجباريًا يشكل إهانة. هؤلاء يمكنهن عبر التقاط صور لأنفسهن يرتدين الأبيض، أن يظهرن رفضهن للإكراه على الحجاب.»

استجاب للحملة عدد كبير من النساء الإيرانيات اللاتي نشرن عبر حساباتهن على مواقع التواصل الاجتماعي، صورًا لهن يرتدين ملابس بيضاء مرفقة بوسم #أيام_الأربعاء_البيضاء، وقد ظل الاحتجاج إلكترونيًا فقط إلى أن قررت فيدا موحد البالغة من العمر 20 عامًا وقتها، أن تتوجه في أحد أيام الأربعاء خلال شهر ديسمبر من العام ذاته، إلى شارع الثورة بالعاصمة طهران، لتصعد فوق مجسـم كبير داخله وتخلع الحجاب عن رأسها، ثم تضعه على عصا وتلوح به أمام المارة، غير مكترثةً لردود أفعال المحافظين المتشددين أو عناصر دوريات الإرشاد.

رأى ملايين الإيرانيين ما فعلته فيدا، بعد أن انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع مصور يوثق احتجاجها الشجاع ورباطة جأشها، ليتبع ذلك صعودًا لوسم #أين_فتاة_شارع_الثورة، التي تبين لاحقًا أن السلطات الإيرانية قد ألقت القبض عليها.

تضامنًا مع فيدا، أقدمت نساء أخريات على محاكاة ما قامت به، واتجهت واحدة تلو الأخرى إلى شارع الثورة وصعدن على المجسم نفسه، ثم خلعن الحجاب ورفعنه على عصي مثلما فعلت، لتنتشر صورهن والمقاطع التي تسجل تضامنهن معها عبر الفضاء الإلكتروني، مصحوبة بوسم #فتيات_شارع_الثورة.

رأت السلطات الإيرانية في ذلك تهديدًا لقاعدة «الزي الموحد للنساء»، التي تمثل حجر زاوية لنظام الجمهورية الإسلامية، فأطلقت يدها الباطشة ليصل عدد المعتقلات بسبب خلع الحجاب علانية على طريقة الشابة فيدا، إلى أكثر من 30 امرأة خلال شهرين فقط. ولم تظفر أي منهن بحريتها قبل أن تدفع ثمنًا باهظًا، فبعضهن اضطر إلى دفع كفالات مالية مرتفعة القيمة، بينما حُكِم على أخريات بالسجن بين سنة إلى عشر سنوات بدعوى الترويج للفساد والفحشاء، استنادًا إلى قانون العقوبات الإسلامي المطبّق في إيران.

رغم نجاح النظام إيراني حينها في إخماد جذوة الانتفاضة، فإنه لم يستطع أن يقضي على النضال، فقد استمرت الاحتجاجات ضد الحجاب القسري ولكن بوتيرة متقطعة ومتفرقة في نطاقات محدودة، حتى لقيت مهسا أميني حتفها قبل نحو أسبوعين، ليفجّر مقتلها احتجاجات نسوية هي الأكبر والأقوى خلال أربعين عامًا.

ربما يظن المسؤولون في حكومة الملالي أن باستطاعتهم قمع النساء وتقييد أجسادهن لعقد خامس، وعلى الأرجح أنهم قد صدقوا متغطرسين أن قدرتهم على إنهاك الحراك النسوي كلما اشتد واتسع لا يضنيها شيء. لكن ميزان الحقيقة يميل نحو شيء آخر، فالتاريخ علمنا ولا يزال أن إرادة النساء لا بد أن تنتصر لا محالة.