بقلــم: طــارق مصطفى

أعترف بأنني لم أنجذب لمسلسل «أحلام سعيدة» عند عرض حلقته الأولى، لوهلة تخوفت من أن تقع مؤلفة العمل هالة خليل في الكليشيهات الدرامية التي أعتدنا عليها عندما يتناول العمل الفني من يمكن وصفهم بالطبقات الأعلى اجتماعيًا وماديًا، إلا أن فضولي كمشاهد يعرف كتابة هالة خليل عن ظهر قلب منذ اللقاء الأول في «أحلى الأوقات» الذي شاركتها كتابته السيناريست وسام سليمان جعلني أعود إلى متابعة المسلسل، وفي الحقيقة بعد هذه العودة، لم تخذلني هالة خليل والمخرج عمرو عرفة على الإطلاق، بل على العكس، يمكنني القول أن «أحلام سعيدة» تخلّص من لعنة الدراما التليفزيونية الرمضانية الأزلية، ألا وهي قدرة المشاهد على توقّع أحداث المسلسل، فنحن أمام شخصيات تنبض بالحياة وتتحرك حولنا، شخصيات لها تاريخ وقصة وأبعاد، وبالتالي تحمل كل حلقة لنا كمشاهدات ومشاهدين ما لذ وطاب من أحداث درامية صادقة، وهذا الصدق هو ما يجعلنا ننتظر كل حلقة بفارغ الصبر، ولا أبالغ عندما أقول أن «أحلام سعيدة» من المسلسلات القليلة التي ظهرت في السنوات الأخيرة التي لا يمكنك فيها فصل جماليات الكتابة عن حساسية الأداء ونعومة الإخراج ورقته.

عندما تتحدث «صدفة» عن الطبقية

في «أحلام سعيدة» تختار هالة خليل بشكل واعٍ البعد عن الحروب الدرامية التقليدية بين الفقراء والأغنياء، فهي تدرك جيدًا أن سؤال الطبقية في مصر تغير مثلما تغير المجتمع، وأن السياق صار أكثر تعقيدًا من أن يتم اختزاله في صراع عبثي بين الفقراء الشرفاء والأغنياء التعساء. هذا لا يعني على الإطلاق أن المسلسل يستهين بالفروق الطبقية أو أنه مشغول بالطبقة الأرستقراطية التي تمثلها فريدة (تؤدي دورها يسـرا) على حساب الطبقات الأكثر تهميشًا وفقرًا.

بل على النقيض من ذلك، تتسم كتابة «أحلام سعيدة» بالوعي ليس فقط بالتحولات الطبقية في مصر، وإنما بتأثيرها على النساء باختلاف طبقاتهن، فعلى سبيل المثال، في المشهد الذي تدعو فيه عاملة المنزل صدفة (تؤدي دورها شيماء سيف) أمين الشرطة متولي (يؤدي دوره حمدي الميرغني) وحارس العقار رجب (يؤدي دوره محمد أوتاكا)، لتناول الكشري على سفرة فريدة التي تستشيط غضبًا عندما تكتشف ما فعلته صدفة، استطاعت هالة خليل أن تصيغ حوارًا بين صدفة والرجلين عن عدم زواجها بمنطق يسترعي الانتباه، فبينما يتنبأ البواب بأن سنها هو ما يعلق عليه الرجال، ويتوقع أمين الشرطة أن وزنها هو السبب، تفاجئهما بأن السبب هو طمع الرجال في راتبها كعاملة منزل، وتظل جملة «هو أنت ناوي تشغلني أما أتجوز؟ أمال أنا متجوزاك ليه!» التي تجيب بها صدفة على الرجال، دليلاً على أن التحليل الطبقي للمجتمع من منظور النساء ليس صعبًا ولا في حاجة لخطب عصماء.

بجملة واحدة تروي لنا صدفة معاناتها، وفي الوقت ذاته تتحدى تصوراتنا النمطية عن العاملات بالمنازل، اللائي أصبحن بمرور الوقت طبقة مستقلة بذاتها يطمع فيها الرجال المستغلين الذين لا يجدون غضاضة في سرقة لقمة العيش من يد أولئك النساء.

أحلام سعيدة.. من لحم ودم

في مسلسل «أحلام سعيدة»، نشاهد نساءً شخصياتهن الدرامية تبدو وكأننا رأيناها من قبل؛ فريدة الأم الأرستقراطية الوحيدة الساخطة على كل شيء، صعبة الطباع التي هجرها الجميع حتى ابنها، وشيرين الطموحة التي شارفت على الأربعين ولم تتزوج بعد، وليلى التي لا تتمنى شيئًا من الدنيا سوى أن تُرزَق بطفلٍ، وهي الأمنية التي تجعلها تتمسك بزوج تشاركها فيه امرأة أخرى.

نعم، للوهلة الأولى نتصور أننا شاهدنا تلك الشخصيات من قبل ولكن كتابة هالة خليل وإخراج عمرو عرفة، ومباراة التمثيل التي تعيد فيها يسرا وغادة عادل ومي كساب اكتشاف أنفسهن (وياله من اكتشاف ممتع وعذب)، وأيضًا الموسيقى التصويرية التي وضعها المؤلف الموسيقي التركي فاهير أتاكوغلو، كل هذه العناصر  أخذت شخصيات المسلسل إلى مساحات درامية جديدة غير مستهلكة، فوعي يسرا بالتاريخ النفسي لشخصية فريدة التي حاولت أمها الانتحار وتم إيداعها بمصحة نفسية، إلا أنها تبدو في حالة نكران لهذا التاريخ، ساهم في ألا تكون شخصية فريدة كارتونية أو هزلية. هذا التاريخ لا نسمعه كثيرًا في الحوار بين الشخصيات، وإنما نقرأه من بين سطور كتابة هالة خليل الواعية.

أما ليلى، فهذه قصة أخرى، قصة البطولة فيها للتفاصيل التي نسجت منها مي كساب رحلة ليلى، ووصف «الرحلة» هو وصف مستحق لأننا أمام شخصية نعرف جيدًا من تفاصيلها قصة صعودها هي وزوجها طبقيًا، ومشاكلها مع جسدها وشكلها، وخلفيتها التعليمية المحدودة بالمقارنة مع الزوجة الثانية.

وحتى في علاقتها بأبيها، تجعلنا مي كساب ومن خلال المفاتيح الدرامية التي منحتها إياها هالة خليل، نشعر بأن ليلى (مننا وعلينا)، ويحضرني هنا بساطة وذكاء المشهد الذي تدخن فيه الشيشة في حضور أبيها، حيث يتبدى خجلها وحياؤها من التدخين في وجوده ومزاحه معها، تفصيلة مصرية للغاية خالية من المبالغات الدرامية، مثلما يحضرني أيضًا المشهد الذي يجمعها بالزوجة الثانية في الحلقة الـ١٤، إذ يبدو أداء مي كساب في هذا المشهد مليئًا بالحيوية والصدق.

في الوقت نفسه، لا نمل من مغامرات شيرين (تؤدي دورها غادة عادل) مع أختها نيفين (تؤدي دورها انتصار) التي لن تهدأ قبل أن تجد زوجًا لأختها الصغرى، وكيف نمل ونحن أمام لوحات تمثيلية تلعب فيها مشاعر الشخصيتين دور البطولة بامتياز، وحتى شعور شيرين بالذنب وكوابيسها الناجمة عن تسببها في فقدان فريدة لبصرها، نجحت غادة عادل بجدارة في التعامل معه بميزان حساس.

نادين وآدم.. ولاد النـــاس

في «أحلام سعيدة»، لا توجد شخصيات هامشية، ومن الصعب أن تجد دراما ملفقة أو معلبة، وأبرز دليل على ذلك هو شخصيتي آدم ابن فريدة (يؤدي دوره علي السبع) ونادين (تؤدي دورها داليا شوقي) حبيبته وشريكة نجاحه كستاند آب كوميديان (Standup Comedian). نحن أمام شخصيات شابة حقيقية، بعيدة كل البعد عن كليشيهات (ولاد الناس الغنية) الذين لا يبالون بأي شيء سوى حياة العربدة، كما اعتادت الدراما التليفزيونية المصرية أن تقدمهم.

نحن أمام عمل يدرك جيدًا الصراعات الفكرية والإنسانية التي تمر بها شخصيات مثل آدم ونادين وماجي، ويستوقفني هنا ثلاثة مشاهد على وجه التحديد؛ المشهد الأول هو المشادة الكلامية التي جرت بين آدم وأمه فريدة، وفي هذه المشادة يعلن آدم سخطه على قيم الطبقة البرجوازية التي تحاول أمه إجباره على احترامها، بينما يتصور هو أنه نجح في التخلص من امتيازاتها ومسؤولياتها، وفي المشهد تستعيض هالة خليل عن الخطابية المباشرة بجملة واحدة تقولها له أمه «أنت من الطبقة دي بمزاجك أو غصب عنك»، تلك الجملة التي تعيد صياغتها بشكل آخر حبيبته نادين بعد مشهد المشاجرة مع الجار عندما تسأله عن دهشته المستمرة من رد فعل المجتمع على قراراته المتمردة، في الوقت الذي تعي هي فيه عواقب أن تكون فتاة مستقلة تعيش بمفردها، بل وتستقبل حبيبها في منزلها.

على الجانب الآخر، نجد ماجي ابنة خال آدم (تؤدي دورها ملك بدوي) التي جعلتها خيانة زوجها الذي اختارته رغمًا عن رغبة أبيها، تعيد النظر في اختياراتها وأن تعود إلى دوائرها التقليدية وتكرر خطاباتهم عن أهمية الزواج والعائلة.

وفي مشهد يجمع ماجي بآدم ونادين، تحاول الأولى إقناعهما بالزواج عبر حوار  ذكي يتحدى النمطية في رسم شخصيات الأجيال الأصغر من نساء هذه الطبقة.

ختامًا، يجب الاعتراف بأن يسرا في هذا المسلسل تقدم واحدًا من أفضل أدوارها على الإطلاق وأكثرها عذوبة وسلاسة على مستوى الأداء، ويمكن القول أن تلك السلاسة في التمثيل نجحت في إذابة الحواجز بين الأبعاد المختلفة لشخصية فريدة، ابنة الزمالك غريبة الأطوار، مهووسة الأنتيكات، الساخطة على كل من تراهم دخلاءً على الزمالك، التي تشعر وكأنها قطعة أثرية من زمن آخر، خاصةً إذا أضفنا للصورة التاريخ النفسي القاسي لأسرتها، وهو ما يجعل الشكر واجب ليسرا على أداء حساس للغاية من ممثلة مخضرمة وقديرة.

** هذا المقال يعبر عن رأي صاحبه/صاحبته ولا يعبر بالضرورة عن آراء «ولها وجوه أخرى»