لم يتراجع بل استفحل وتفاقم.. إذًا لماذا انحصرت جهود مكافحة التحرش الجنسي؟
صباح يوم الجمعة الماضي، فوجئ مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي بتداول مقطع مصور، لواقعة تحرش جماعي طالت فتاة في منطقة القومية بمدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية. التفاصيل المعلومة حتى الاَن أنها كانت في طريقها عائدة من حفل زفاف إلى منزلها، وفوجئت بمجرد نزولها من السيارة الأجرة التي وصلت بها إلى حي القومية، بتجمع العشرات حولها، ومن ثم الاعتداء عليها جنسيًا ومحاولة تمزيق ملابسها، ولم ينقذها من بين براثنهم سوى صاحب أحد المقاهي، الذي أقدم وخلصها من بين أيديهم، ودخل بها إلى المقهى لتحتمي منهم، حتى جاءت سيارات الشرطة، وخرجت الفتاة في حماية أفراد من الأمن بعد أن اضطروا لاستخدام الطلقات النارية لتفريق المتحرشين.
هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، لكن هذه المرة الواقعة الموثقة بالتصوير، جرت خارج العاصمة وهذا أيضًا ليس لأول مرة، لكن اعتاد كثيرون إنكار وقوع حوادث التحرش الجنسي في المحافظات المصرية الأخرى، خاصة أن وقائع التحرش الجنسي الجماعي التي عرفت طريقها إلى الإعلام، كانت في القاهرة، منذ عام 2006 خلال الأعياد التي أصبحت مواسم للتحرش، والمظاهرات التي أعقبت انطلاق ثورة يناير 2011.
على الرغم من أن اَخر واقعة تحرش جنسي جماعي وثقتها الكاميرا – قبل هذه – كانت في يونيو من العام 2014، خلال الاحتفالات التي شهدها ميدان التحرير بمناسبة تنصيب رئيس الجمهورية، إلا أن شيئًا لم يتغير حتى الاَن في ردود الأفعال على مختلف المستويات، وأبرزها الإعلام، الذي تبين مع الواقعة الأخيرة أن جانب منه يصر على استخدام مصطلحات تحمل الفتاة مسؤولية ما وقع عليها من اعتداء وانتهاك، مثل تعمد استعمال عبارة “الفتاة ترتدي فستانًا قصيرًا يظهر أنوثتها”.
ما يسترعي الانتباه هو أنه رغم مرور أكثر من يومين منذ تداول المقطع المصور للحادثة، لم نسمع عن تحرك من المنظمات الحقوقية والنسوية ولا حتى بيانات إدانة إلا فيما ندر.
كل ما يحيط بهذه الواقعة يدفع باتجاه ضرورة طرح سؤال، نعتقد في وجوب توجيهه، حتى قبل وقوع الحادث، بعد أن مر شهر المرأة (مارس) وانصبت فعالياته وحملاته – المحدودة – بإتجاه قضايا تمكين المرأة الاقتصادي، ومناهضة ختان الإناث، وحظر الطلاق الشفهي والعنف الأسري، لكن قضية ملحة مثل التحرش الجنسي اختفت من قائمة الأولويات، على الرغم من أنه لم يظهر حتى الاَن أي إحصائيات تكشف تراجعًا في نسب انتشاره.
لماذا تحول الإنتباه بعيدًا عن التحرش الجنسي رغم أن الواقع لا يعكس تراجعًا ولا إحصائيات تثبت انحصارًا؟
هذا ما يتعين مناقشته خاصة بعد أن عادت حالة الإنكار أو التعايش مع الظاهرة تسود من جديد، ولم يعد التحرش الجنسي على رأس قائمة الأزمات التي تفرض نفسها كأولوية للمناهضة، واختفت المبادرات والمجموعات التي كانت تعمل على التوعية بالظاهرة في الشوارع، منذ ثورة يناير 2011 وحتى عام 2014.
في سياق متصل، كشف تقرير المركز المصري لحقوق المرأة عن وضع المرأة في 2016، أنه على الرغم من ارتفاع معدلات العنف بين السيدات، مع ذلك هناك ضعف واضح في لجوء المرأة إلى مؤسسات المجتمع المحلي أو مؤسسات الشرطة، فلم يتعد عدد النساء المستعينات بالشرطة 75 ألف سيدة مما يمثل 1 في المئة من إجمالي السيدات اللاتي عانين من العنف في العام الواحد، وعدد السيدات المستعينات بخدمة المجتمع المحلي لا يتعدى 7 اَلاف سيدة، وهو أمر اَخر باعث للقلق، ولابد من التوقف أمام هذا الحالة من الإنكار العام وتراجع النشاط واستفحال الظاهرة في ظل «غياب التحرك».
جانيت عبد العليم: الوضع السياسي والضغط المجتمعي هما السبب
منسقة مبادرة “أمان” لمناهضة التحرش الجنسي “جانيت عبد العليم” لم تنكر حالة التراجع التي تكتنف تعامل المنظمات والمجموعات النسوية مع قضية التحرش الجنسي، لكنها تبررها بــ”الوضع السياسي” القائم بعد إصدار قانون التظاهر في عهد الرئيس الأسبق عدلي منصور، فبموجب هذا القانون يتعين على أي شخص يريد تنظيم مبادرات أو حملات توعوية أن يحصل على إخطار أو ترخيص وإلا سيواجه عقوبات، لافتةً إلى أن التوعية انتقلت إلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي سواء “فيسبوك” أو “تويتر” كحل بديل للفعاليات التي تقام في الشوارع أو داخل المترو كما كان معهودًا في وقت سابق.
وبشأن تراجع القضايا أو سكوت الناجيات، تكشف “عبد العليم” في تصريحات لـ”ولها وجوه أخرى” أن السبب هو الضغط المجتمعي الذي ُيمارس على البنت في حالة تعرضها للتحرش، سواء من أهل الجاني أو من أهلها، مستشهدة بحالة ” هند عبد الستار” الناجية من التحرش، ومن المقرر أن يصدر حكم في قضيتها في إبريل الجاري، وقد استطاعت أن تصمد في وجه مثل هذه الضغوط، بعد أن تهجم أهل المتحرش عليها وعلى أسرتها بالمنزل لإجبارها على التنازل عن القضية حرصًا على مستقبل ابنهم دون أي اعتبار لما تدفعه المرأة التي تتعرض للتحرش الجنسي.
هانيا مهيب: كثيرون محبطون وخروج من العمل العام بسبب التضييق
أما الإعلامية والناشطة النسوية “هانيا مهيب” تؤكد أن ثورة يناير 2011 ساهمت في كسر العديد من التابوهات، وساهمت في رفع درجة الجرأة في التعبير عن الكثير من القضايا مثل التحرش الجنسي.
وتستطرد “التراجع من جانب منظمات المجتمع المدني في مواجهة التحرش الجنسي في الوقت الحالي، يعود إلى التراجع في مجال الحريات بشكل عام، فالشخصيات التي كانت تقود الحراك الثوري والتغيير أصاب الإحباط عددًا كبيرًا منهم، والبعض الآخر لم يعد منخرطًا في العمل العام أو يتم التضييق عليه.”
وتتابع “صدور قانون التحرش الجنسي يعود الفضل الأول فيه إلى منظمات المجتمع المدني، ولكن هناك أمرين، فيما يخص اَلية تنفيذ القانون، والإبلاغ عن التحرش، لأن الناجية تواجه صعوبة شديدة فيهما، حيث يُشترط توافر شهود”، مشيرة إلى أن ضمان تنفيذ القانون بشكل جيد يستدعي أن يكون هناك دور فعال للشرطة في الشارع المصري، وأن يمتلك الشرطي صلاحيات لإتخاذ إجراء ضد المتحرش، وتؤكد “بطء الإجراءات يمثل أيضًا سببًا في عزوف الفتيات عن اللجوء إلى المساندة القانونية.”
وبشكل عام ترى “مهيب” أن الإعلام بمفهومه الواسع يلعب دورًا سلبيًا في مواجهة الأزمة حيث يتم من خلاله تصدير صورة سيئة عن النساء المعتدى عليهن فضلًا عن الاستهزاء بهن.
سالي ذهني : الضغط على البرلمانيات لإصدار تشريعات جديدة والتضييق على الحريات
“هناك عدة أسباب في عدم تصدر قضية التحرش الجنسي قائمة القضايا التي تعمل عليها المنظمات والمجموعات النسوية حاليًا، ومنها وجود برلمان به نسبة جيدة من البرلمانيات، فعددهن الكبير يعد مسؤولية تقع على عاتقهن لمعالجة قضايا المرأة من خلال إصدار قوانين وتشريعات جديدة، ومن ثم فالدور الواقع على النسويات هو الضغط على النائبات لتبني تلك القضايا، خاصة أن بعضهن ليس لديه خبرة أو باع طويل في العمل السياسي والعام.” تقول سالي ذهني
“ذهني” ناشطة حقوقية ومدافعة عن حقوق النساء، انضمت لعدد من المجموعات النسوية بعد ثورة يناير 2011، مثل “بهية يا مصر” ومشروع “بصي”، فضلًا عن عملها لدى عدد من المنظمات الحقوقية النسوية الدولية.
وتشير “ذهني” إلى عامل آخر أكثر أهمية وراء حالة التراجع التي حلت بالمجتمع المدني في حربه ضد التحرش الجنسي، وهو أن من كانوا يقومون بحملات التوعية في الشارع المصري سواء خلال الثورة أو فيما تلاها، غير موجودين في الوقت الحالي على الساحة، بسبب التضييق على الحريات والمجتمع المدني سواء بالأموال أو بالقبض عليهم.”
من ناحية أخرى، تقول “ذهني” أن لكل فتاة طريقة مختلفة في مواجهة التحرش الجنسي، ومن الصعب وضع مقياس واحد لمواجهته، فبعض الفتيات قد يرين أن مواقع التواصل الاجتماعي مجالًا جيدًا للإفصاح عن ما وقع، وأخريات قد يحررن محاضر، ويبقى الأهم هو معاقبة الشخص الذي ارتكب الجريمة، لافتةً إلى دور مواقع التواصل الاجتماعي في فضح عدد كبير من المتحرشين في ظل صعوبة الحلول القانونية والأعراف المجتمعية.
انتصار السعيد: العرف أقوى من القانون وتعقيد إجراءات الحصول على تصاريح
من ناحية أخرى، تقول المحامية “انتصار السعيد” مدير مركز القاهرة للتنمية والقانون، أن المركز قدم توصيات منذ شهرين بخصوص قضايا العنف الجنسي ضد النساء، كما وثق شهادات خاصة بفتيات ناجيات من التحرش والاغتصاب.
وفيما يخص التواجد الميداني، تقول “السعيد” إن تراجعًا كبيرًا تشهده عملية مناهضة التحرش الجنسي من جانب المنظمات والمجموعات الحقوقية، يأتي بعد الزخم الثوري الذي حدث عقب ثورة يناير 2011، وعلى إثره ظهر العديد من المبادرات والحركات، كرد فعل على مشاركة النساء في الميادين وفي المجال العام، وقد ساهمت هذه المبادرات بشكل كبير في التوعية بخطورة المشكلة لكن التراجع الحالي سببه الظروف السياسية التي يمر بها البلد، وتعقيد الإجراءات الخاصة بالحصول على التصاريح، فضلًا عن مدى تقبل المجتمع المصري لتواجد المبادرات حتى بعد حصولها على الترخيص.
وعند هذه النقطة، تشير “السعيد” إلى أن إحدى المبادرات نظمت فعالية في أحد الأحياء الشعبية فاشتبك معها الأهالي.
وعن تراجع الفتيات الأقرب للعزوف في مسألة تحرير المحاضر حال تعرضهن للتحرش الجنسي، ترجعه إلى أنه العادات والتقاليد تشكل العرف المجتمعي وهي أقوى من القانون، مشيرة إلى دور مواقع التواصل الاجتماعي كمتنفس للفتيات حتى يستعدن حقوقهن بطرق بديلة، مؤكدة أن هذه الشهادات تعتبر جزءًا من توعية المجتمع بخطورة المشكلة.