هدى شعراوي تنجح في استقطاب منتقدي المرأة .. التونسي وخيري دليلًا

كيف نجحت المصريات في انتزاع الأسلحة الثلاثة اللازمة لتحريرهن؟

بالأسماء نساء حققن معجزات في التعليم والعمل

في الحلقة السابقة من قرائتنا لكتاب «المرأة المصرية.. من الفراعنة إلى اليوم» للدكتورة درية شفيق، وصلنا إلى قيام ثورة 1919، ومررنا على مشاركة النساء فيها وفق توثيق الكاتبة، لكن ما تلى الثورة، من إنجازات على صعيد التحرك النسوي الذي قادته “هدى شعراوي” رائدة الحركة النسائية في مصر، هو محور هذه الحلقة.

هدى شعراوي تمزق الحجاب

تبدأ “شفيق” هذا الفصل برصد التحول الذي حل بالمجتمع المصري بعد ثورة 1919 في تعامله مع المرأة، وحالة الاعتراف بها بعد عقود من الإنكار، وتستشهد بما قاله “سعد زغلول” عقب عودته من المنفى (1921م) “لقد أظهرت السيدات في النهضة الحاضرة من الشجاعة ومن الإقدام، ما أعجب به كل واحد منا وكل ناظر إلينا، وكن في كل موقف موضع إعجاب الجميع، وكن أيضًا يملين على الرجال من الثبات والإقدام ما رأينا اَثاره الاَن.”

واعتبرت “شفيق” أن كلمات الزعيم الراحل أول مظهر من مظاهر الاعتراف بالمرأة، أما المظهر الثاني، فهو قبولها عضوة بشكل رسمي في الأحزاب وإفساح المجال أمامها لتشكل لجنة هي الأكبر في حزب الوفد المصري، بعد أن كان حضورها شرفي في الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، وفي الوقت نفسه، تكشف أن المكتسب جاء منقوصًا، فلم تُنتخب النساء في الهيئة الوفدية أو اللجنة العليا للوفد.

وتشير الكاتبة إلى اعتراف اَخر بحقوق المرأة، جاء في دستور 1923، الذي رأت أنه لم يفرق بين الرجل والمرأة في أي حق من الحقوق السياسية، ولم يحدد أن حق الانتخاب والترشيح مثلًا امتياز يتمتع به الرجل دون النساء، فالنص كان “المصريين جميعًا”، وفي الوقت نفسه تعرب في ثنايا كلامها عن غضب من قانون الانتخاب الذي جاء ليسلب المرأة هذا المكسب.

انتصار اَخر تورده “درية شفيق” ضمن انتصارات المرأة بعد ثورة 1919، هو تشكيل الإتحاد النسائي على يد “هدى شعراوي”، الذي حقق مطلبين من أهم مطالب حركة تحرير المرأة، وهما تحديد سن أدنى لزواج الفتاة وهو 16 عامًا، والمساواة بين الفتاة والفتى في التعليم بالمدارس.

المكسب الأكبر للنساء فيما أعقب الانتفاضة الشعبية الكبرى، يتمثل في الحدث الضخم الذي تم على يد “شعراوي” بحسب “شفيق”، وهو ظهورها بوجهها مكشوفًا أمام الجموع، عندما عادت في عام 1923 من المؤتمر النسائي العالمي في روما، وشاركتها في ذلك سيزا نبراوي،  وتنقل الكاتبة عن “شعراوي” قولها “ورفعنا النقاب أنا وسكرتيرتي سيزا نبراوي وقرأنا الفاتحة، ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتي الوجه، وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذي يبدو سافرًا لأول مرة بين الجموع، فلم نجد له تأثيرًا أبدًا، لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو سعد (في إشارة إلى سعد زغلول)، متشوقين إلى طلعته!”

ومع ذلك تشدد مؤسسة مجلة “بنت النيل” على أن “شعراوي” دفعت ثمن شجاعتها وجرأتها تلك، وتحملت الكثير من التعليقات السمجة والعبارات النابية التي ظلت تلاحقها.

في ختام هذا الفصل تخصص “شفيق” مساحة للتعريف بأبرز المحطات في مسيرة “هدى شعراوي” الثائرة الجريئة كما تصفها.

هدى شعراوي تؤسس الاتحاد النسائي

تعتبر “شفيق” أن تأسيس الاتحاد النسائي المصري على يد “هدى شعراوي” هو الحلقة الرابعة في سلسلة المحاولات التي قامت بها المرأة المصرية في سبيل توحيد صفوفها، فالحلقة الأولى كانت في عام 1904، عندما دعت الأميرة “عين الحياة” – زوجة السلطان حسين كامل- لتأليف جماعة من السيدات المصريات لإقامة مستوصف، وهو ما عرف لاحقًا باسم “مبرة محمد علي”.

والحلقة الثانية تتمثل في إنشاء “شعراوي” لمعلب رياضي خاص للنساء ليزاولن فيه مختلف الألعاب الرياضية، الذي لم يكن بهدف إصلاح قوام المصريات وحسب، لكنها كانت تتوسل بهذا الطريق  إلى تكتيلهن في سبيل نهضتهن بصفة عامة، وتوضح الكاتبة أن التقاليد حالت دون ارتياد الكثيرات لهذا المكان رغم أنها حرصت على إحاطته بالأسوار العالية لحماية النساء من التلصص.

المحاولة الثالثة وفق “شفيق”، هي إنشاء جمعية المرأة الجديدة في سنة 1909، وتشير في هذا الصدد إلى دور “شعراوي” في دعم الجمعية، معنويًا وماديًا وهو ما دفع مؤسسات الجمعية إلى انتخابها رئيسة شرفية لها.

ثم تتحدث “درية شفيق” عن تأسيس الإتحاد النسائي المصري باستفاضة، فتكشف أن الرائدات الأوليات اللاتي شاركن “شعراوي” في تدشينه، هن؛ استر فهمي ويصا، وسيزا نبراوي، وعنايات سلطان، وجميلة عطية، وعزيزة هيكل، ونفيسة علوبه، وماري كحيل، وبهيجة رشيد، وإحسان القوصي، وحفيظة الألفية، وحواء إدريس وهي ابنة خالة هدى شعراوي.

بحسب الكاتبة، الهدف الرئيس من تأسيس الاتحاد، كان المطالبة بحقوق المرأة السياسية، وفي مقدمتها الترشح والتصويت، بعد أن سلبها إياه قانون الانتخاب، إلا أنه اصطدم بمعارك أخرى، تعين عليه أن يخوضها قبل أن يشن حربه في هذا الإتجاه، فركز على قضية التعليم، ففتحت المدارس الثانوية أبوابها للنساء، وأنشأ الاتحاد – على عاتقه – عددًا من المدارس لتعليم الفتيات، كما عمل الكيان النسائي على ربط كفاح المرأة المصرية بالعربية، وأخلص في مسألة تحديد سن الزواج للفتيات، حتى نجح في سنة 1924، في إقناع الحكومة بسن تشريع يرفع سن الزواج للفتاة إلى 16 عامًا، إلى جانب سعيه إلى وقف عادة الزواج بالأجنبيات التي انتشرت وقتذاك بين الشبان المتعلمين الذين يسافرون إلى أوروبا طلبًا للعلم.

وتستطرد “شفيق”، لافتةً إلى تحول نبرة الهجوم لدى بعض المفكرين والشعراء والزجالين، من انتقاد المرأة إلى الاعتدال ثم الدفاع عنها، وذلك بفضل جهود “شعراوي”، فكتب بيرم التونسي قائلًا:

غلبت أقول للرجال .. خلوا المرأة حرة

تخش رخرة المجال .. تفهم .. وتتدره

العاقلة بنت الحلال .. ما يضرهاش بره

لكن بتنصح في مين .. روس جامدة سنطاوي

وأيضًا الزجال “بديع خيري” حين كتب:

ده بأف مين اللي يألس .. على بنت مصر بأنهي وش!

والنبي يجري ويتليس .. ما طلع كلامه طظ  وفش!

دي المصرية كتر خيرها .. في التربية سبقت غيرها

يا جدع اعقل!

التعليم أول الأسلحة في معركة الحرية

في هذا الفصل، تؤكد الكاتبة أنه لا سبيل لتحرير المرأة إلا بثلاثة أسلحة هي؛ العلم، والعمل، والخدمة العامة، وتحت عنوان فرعي “الزمن لا ينحني للرجعية”، تتحدث عن نهضة المرأة التعليمية، في أواخر عشرينيات القرن الماضي وبداية الثلاثينيات، فلم يتوقف الأمر عند حد دخول الفتيات المدارس الثانوية، لكنهن دخلن إلى الجامعة، وحينها انبرى للدفاع عن حق المرأة في التعليم الجامعي اثنان هما؛ عميد الأدب العربي “طه حسين” والمفكر “أحمد لطفي السيد”، لكن عاصفة الرجعية طالتهما، فتمكنت من إقالة “حسين” من منصبه كعميد لكلية الاَداب، ومن ثم قدم “لطفي السيد” استقالته من منصبه كمدير للجامعة احتجاجًا على محاولات الرجعية التي عصفت بالجامعة وحقوق الفتيات، ومع ذلك، تمكنت المرأة من التسلل إلى حرم الجامعة وأن تنتشر في أكثر من كلية، وأثبتت تفوقها.

الرعيل الأول من الفتيات في الجامعة، وعددهن 13 طالبة، التحقن بثلاثة كليات، هي؛ الطب والحقوق والاَداب، نجح جميعهن، فتخرجت “كوكب حفني ناصف” لتصبح أول طبية مصرية تدير مستشفى، وتخرجت الدفعة الأولى من الفتيات بكلية الاَداب وفي مقدمتهن سهير القلماوي، فيما تخرجت بكلية الحقوق “نعيمة الأيوبي” لتصبح أول محامية مصرية.

“ولم تستح العناصر الرجعية من هزيمتها أمام التطور، فانطلقت الألسنة تحارب التحاق البنات بالجامعة بأساليب أخرى، كالزعم بأن من تلتحق بالجامعة هي واحدة من اثنتين، إما فقيرة محتاجة تريد أن تتوظف لتعول عائلتها، أو قبيحة دميمة تريد أن تعوض نقصها الأنثوي بالعلم” تقول “شفيق”، مؤكدةً أنه على الرغم من تلك المحاولات لإثناء الفتيات عن مواصلة مسيرتهن للحصول على أول أسلحتهن في نضالهن في معركتهن الكبرى، إلا أنهن أقبلن على الجامعة ومختلف المعاهد بحماسة وأثبتن جدارة وتميز.

المصرية تحقق المعجزات في ميادين العمل

عن السلاح الثاني وفق “شفيق” في سبيل تحرير المرأة، وهو العمل توثق “شفيق” في هذا الفصل بالأسماء، نجاح النساء في ميدان العمل، واعتراف الجميع بأن المرأة المصرية لم تعرف الفشل مطلقًا في أي ميدان من الميادين التي نزلت إليها.

ومن أبرز الأسماء التي توردها، المحامية “مفيدة عبد الرحمن”، التي أضحت في الخمسينيات تدير مكتبًا من أكبر مكاتب المحاماة في القاهرة، وتلقي الكاتبة الضوء على “كريمة حسين” التي كانت أول امرأة تتقدم بطلب الحصول على وظيفة وكيل النائب العام بعد تخرجها من كلية الحقوق، ومن بعدها “عائشة راتب” التي رفعت دعوى قضائية في مجلس الدولة لمطالبة وزير العدل بهذه الوظيفة التي تستحقها بما حصلت على من درجات.

في الطب، تتذكر “كوكب حفني ناصف” وتشير إلى نبوغها، وفي الوقت نفسه تنتقد حرمان خريجات الطب  – حتى وقت كتابتها للكتاب-  من أن يكن طبيبات امتياز في المستشفيات الجامعية، حتى يمضين في طريق التدرج ويصبحن نائبات ثم مساعدات ثم أساتذة بكليات الطب.

وفي ميدان التربية والتعليم، تستشهد بــ”نبوية موسى”، بوصفها الرائدة الأولى في مجال تعليم الفتيات، وومن بعدها “أسماء فهمي”، و”إنصاف سري”، و”منيرة صبري”، و”كريمة السعيد”، و”نظلة الحكيم”، و”سهير القلماوي”، و”عائشة عبد الرحمن”، و”نفيسة الغمراوي”.

وعن الفن، تعبر “شفيق” عن فخرها لكون المرأة في مجال السينما تحديدًا لم تساهم وحسب، بل كانت من وضع حجر أساسه، متحدثةً عن  “عزيزة أمير” التي تعد مؤسسة هذه الصناعة في مصر، ولم تنس الكاتبة أن تشير إلى قوة أم كلثوم وانتزاعها رئاسة نقابة الموسيقيين لعدة سنوات.

على صعيد اَخر، تبرز “شفيق” أن الصناعة في مصر بدأت نهضتها في سنة 1930، وبدأ الغزو النسائي على حد تعبيرها للمصانع بعد أن اعترف القانون رقم 48 لسنة 1933، بتوظيف المرأة في المصانع، ثم عدل بالقانون رقم 22 لسنة 1936، طبقًا لازدياد عدد المشتغلات بالمؤسسات الصناعية والتجارية.

تنتقل مؤسسة ورئيسة تحرير مجلة “بنت النيل”، إلى الريف المصري، لتؤكد على حقيقة أن الفلاحة لا تعمل كالفلاح فقط، وإنما أكثر منه، فهي تعمل في الحقل، تجمع القطن وتنظفه وتنقي البذرة، وترعى الماشية وتربي الدواجن، وتحلب الألبان وتصنع منها الجبن والزبدة والقشدة، وتعجن العيش، بالإضافة إلى غزل الصوف، ومنهن من ينشطن في صناعة السجاد والكليم، والمقاطف والسلال.

المرأة المصرية في الحقل الاجتماعي

تذكر الكاتبة أن من حملوا راية الخدمة الاجتماعية في مصر، كانوا غالبًا من النساء، وتستعرض نشاط عدد من الجمعيات النسائية التي تأسست في أعقاب ثورة 1919، مثل  “جمعية المرأة الجديدة”، وكان الغرض من إنشائها رفع مستوى المرأة المصرية عن طريق التعليم والثقافة، لذا كانت تحتضن البنات من سن 8 وحتى 12 سنةً، لتزويدهن بالتعليم والثقافة مع إتقان التطريز والتريكو.

السيدة “هدية بركات” التي كانت تترأس وقتذاك هذه الجمعية، كانت تترأس أيضًا”مبرة محمد علي” التي لعبت دورًا كبيرًا في معالجة المرضى والفقراء، ثم تُعرف “شفيق” بلجنة سيدات الهلال الأحمر، التي واجهت خطر الملاريا في عام 1944، الذي ضرب أقاصي الصعيد، وبذلت نساء اللجنة جهودًا جبارة لإنقاذ المرضى غير عابئات بتعرضهن للمرض أو إقامتهن وسط منطقة موبوءة ببعوضة الجامبيا المسببة للملاريا.

تتحول الكاتبة إلى الحديث عن بعض من نشاط “الجمعية  النسائية لتحسين الصحة” التي عملت على مكافحة مرض السل، و”مبرة التحرير” التي أسستها سنية عنان التي أضحت فيما بعد وكيلة اتحاد بنت النيل الذي أسسته “شفيق” في عام 1947، وجمعية رعاية الأحداث التي تولت رئاستها “وصفية شكري” التي اختيرت رئيسة نادي اتحاد بنت النيل، ومن بين 150 جمعية نسائية كانت موجودة في مصر اَنذاك، عددت “شفيق” 28 منها بالأسماء، أبرزها؛ الجمعية النسائية الوطنية، وجمعية رعاية المرأة والطفل، وجمعية الشابات المسيحية المصرية، وجمعية السيدات المسلمات، وإتحاد الجامعيات، ونادي سيدات القاهرة، وجمعية تحرير المرأة، وورابطة نساء الشرق والغرب، وجمعية مساعدة الضريرات، وجمعية مصر لحماية المرأة.

في الحلقة المقبلة والأخيرة نتناول الفصول التي توثق فيها “درية شفيق” مرحلة جديدة في مسيرة الحركة النسائية المصرية، تصدرتها من خلال الاتحاد الذي أسسته باسم “بنت النيل”.

قراءة في الكتاب النادر «المرأة المصرية.. من الفراعنة إلى اليوم» لــ «درية شفيق» – الحلقة 1

قراءة في الكتاب النادر «المرأة المصرية.. من الفراعنة إلى اليوم» لــ «درية شفيق» – الحلقة 2