قراءة في الكتاب النادر «المرأة المصرية.. من الفراعنة إلى اليوم» لــ «درية شفيق» – الحلقة (2)
* الدور السري للمصريات في ثورة عرابي.. ما يجهله كثيرون
* محمد عبده وقاسم أمين.. المعارك الأولى دفاعًا عن النساء
* مصطفى كامل وخطب تبدأ بـ”سيداتي “..التسلل إلى عالم السياسة عبر بوابة الحزب الوطني
*اختلاف بين درية شفيق وهدى شعراوي في توثيق مشاهد من ثورة 1919
نواصل ما بدأناه من قراءة في كتاب “المرأة المصرية من الفراعنة إلى اليوم” لـلدكتورة “درية شفيق”، وفي هذه الحلقة نتناول الفصول التي تنتقل فيها إلى مراحل تفتق حركة تحرير المرأة في مصر، وتكشف الدور الخفي الذي لعبته النساء في الثورة العرابية، وأغفله المؤرخون، ومن ثم نقطة التحول التي مثلتها ثورة 1919، في تاريخ مصر والمرأة.
في السطور التالية، نستعرض هذه المرحلة من تاريخ الوطن والنساء المصريات، من خلال رؤية وقراءة “درية شفيق” التي سجلتها بقلمها.
السيدات في حركة “عرابي”
تشدد “شفيق” على أن المؤرخين ظلموا المرأة فيما كتبوه وسجلوه عن الثورة العرابية، وفي الوقت نفسه ترى أن إغفال دورها كان غالبًا لصعوبة الحصول على مصادر توثق هذا الدور، وهي نفسها تعبت كثيرًا – على حد قولها – في تتبع الدور النسائي في هذه الحركة، الذي وصفته بالدور السري المهم، وكان بمثابة عماد الثورة.
بالتزامن مع هذه الوقائع، ظهرت جماعتان ثوريتان سريتان هما؛ جمعية حلوان، وجمعية مصر الفتاة، وكانت الأولى قد أذاعت بيانًا في نوفمبر 1879 ضد طغيان رئيس الحكومة وقتذاك “مصطفى رياض” باشا، وبلغ عدد النسخ التي وزعت منه 20 ألف نسخة – وهو عدد كبير بمقاييس ذلك الزمن- دون أن تتمكن الحكومة من ضبط أحد موزعيه، لأن من كان له الفضل في توزيعه سيدتان، الأولى هي زوجة “إسماعيل راغب” باشا وهو سياسي معروف تولى فيما بعض منصب رئيس الوزراء، وزوجة “شاهين” باشا كنج، الذي كان يعمل مفتشًا على الأقاليم حينذاك، ومن خلالهما، جُنِد عدد من النساء للقيام بمهمة التوزيع، وفي ذلك الوقت كان من الصعب الشك في أن تقوم النساء بهذا، ولا يجرؤ أحد على تفتيشهن، أما حركة “مصر الفتاة” بالإسكندرية، فقد لعبت فيها المرأة دورًا مهمًا من وراء الستار، فقد تولت مهمة نقل الأنباء دون أن ينتبه إليها أحد.
وتقول “شفيق” أن المرأة المصرية ظهرت في وقت الخطر، عندما بدأت البوارج البريطانية تطلق مدافعها بإتجاه مدينة الإسكندرية، وعندها ظهرت النساء وأبدين حماسة وشجاعة لفتت الأنظار، فنالت منهن مدافع المستعمرين، وسقطت شهيدات.
الأفغاني والشيخ محمد عبده وقاسم أمين .. ينتصرون للمرأة
تبدأ “درية شفيق” هذا الفصل بجملة “إن الشعوب لا تموت أبدًا مهما طالت بها ليالي الظلم والجمود“، وتتناول فيه تأثير عودة الطلاب الذين تم إيفادهم في بعثات خارجية، وكيف كانت عودتهم صيحة الإصلاح والتجديد، مهدت لثورة فكرية، ومنهم؛ جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، وقاسم أمين.
تعتبر “شفيق” أن “عبده” و”أمين” هما من خاضا المعركة الأولى دفاعًا عن نساء مصر وحقهن في الحرية والكرامة، وعن الإمام “محمد عبده”، توغل في الحديث عن موقفه المعادي لتعدد الزوجات، وفوضى حق الرجل في الطلاق، مؤكدة أنه ما رفع دفاعه عن المرأة إلى أسمى مكانة أنه كان يستمد حججه وبراهينه من اَيات الله ومن نصوص التشريع الإسلامي.
أكثر من ذلك، أشارت إلى أن مقالات الشيخ “محمد عبده” وتفسيره لموقف الإسلام من الطلاق وتعدد الزوجات، كان له أثر كبير في إيمانها بحقوق النساء في الحرية والمساواة والعيش الكريم.
ثم تنتقل للحديث عن “قاسم أمين” فتصفه بنصير المرأة الأكبر، ورغم الهجوم والمعارضة الشديدة له، لم تخمد حماسته وإيمانه بالقضية، وتستشهد في معرض حديثها عنه بكلامه عن الحجاب “كيف يمكن لامرأة محجوبة أن تتخذ صناعة أو تجارة للتعيش منها إن كانت فقيرة، وكيف يمكن لخادمة محجوبة أن تقوم بخدمة منزل فيه رجال، كيف يتسنى لزارعة محجوبة أن تباشر عملها إذا أجرت نفسها للعمل في بناء بيت أو غيره من الأعمال؟”
وتبدي احترامها لما أثاره عن ضرورة المساواة في تعليم البنات والأبناء في كتابه المرأة الجديدة، واعتبرت “شفيق” أن ما يرتفع بعقلية “أمين” إلى أعلى درجات الرقي والوعي، هو أنه أراد معالجة قضية المرأة من أساسها عندما جعل عمل المرأة هو محور تحررها، مستشهدةً بقوله “فلأن النساء في كل بلد يقدرن بنصف سكانه على الأقل، فبقاؤهن في الجهل، حرمان الانتفاع بأعمال نصف عدد الأمة، وفيه من الضرر الجسيم ما لا يخفى، ولا شيء يمنع المرأة المصرية من أن تشتغل مثل الغربية بالعلوم والفنون والاَداب والتجارة والصناعة سوى جهلها وإهمال تربيتها، ولو أُخِذ بيدها إلى مجتمع الأحياء ووجهت عزيمتها إلى محاولتهم في الأعمال الحيوية، واستعملت مداركها وقواها العقلية والجسمية لصارت نفسًا حية فعالة تنتج بقدر ما تستهلك، لا كما هي اليوم عالة لا تعيش إلا بعمل غيرها. ”
المرأة المصرية تدخل الحزب الوطني
ترصد “شفيق” في هذا الفصل التحول الذي طرأ على الحياة السياسية في مصر، وكيف بدأت النساء تخطو خطواتها الأولى نحو الحياة العامة وتلعب دورًا معلنًا في هذا السياق، وتتخلى تدريجيًا عن الدور السري، وهذا في فترة تولي “مصطفى كامل” القيادة الوطنية ومن بعده “محمد فريد”.
وتقول “لأول مرة في تاريخ نضالنا الوطني، كان الزعيم يبدأ خطبه “سيداتي .. سادتي” فلم تكن المرأة من قبل تظهر في الاجتماعات السياسية ولكنها ظهرت في هذه المرة لتستمع بل لتخطب في مؤتمرات الحزب الوطني نفسه.”
وتستعيد مشهدًا يوثق ذلك في 7 ديسمبر 1907، عندما حضرت السيدات يرتدين اليشامك والحبر (جمع حبرة: وهي ملاءة من الحرير كانت ترتديها النساء عندما يخرجن) إلى دار اللواء حيث انعقد أحد الاجتماعات، لــ”مصطفى كامل”.
وتفرد “شفيق” مساحة للحديث عن احترام “كامل” لدور المرأة المصرية في الحياة العامة، والذي أرجعته إلى سيدتين في حياته هما؛ أمه “حفيظة محمد الألفي” والمناضلة الفرنسية “جولييت اَدم” التي تعد أمه الروحية.
في السياق نفسه، تكشف أن التقاليد لم تكن تسمح بعد بالخطوة الجريئة المتمثلة في الاعتراف رسميًا بعضوية النساء في الحزب الوطني، لكنهن بقين يشاركن بشكل شرفي إلى حد ما.
في حفل أربعين الذي نظمه الحزب بعد رحيل “مصطفى كامل”، كان مشهد وقوف إحدى سيدات الحزب الوطني تخطب عن النساء بالنسبة لــ”شفيق” معجزةً للمرأة المصرية و”كامل” نفسه.
التحرر والانحياز للمرأة، سمة اتسم بها خليفة ” كامل”، وهو “محمد فريد”، وتتناول الكاتبة كما فعلت مع سابقه، دور المرأة في حياته وتأثيرها الذي جعله منحازًا لها.
وعن فتح مساحات أرحب للنساء، تكشف “شفيق” أن المرأة المصرية ظلت تتسلل إلى الحياة السياسية، من خلال صفوف الحزب الوطني، حتى ظهرت لأول مرة في المظاهرة التي نظمها الحزب سنة 1914، يوم افتتاح الجمعية التشريعية في 22 يناير للهتاف بالدستور والحياة النيابية الصحيحة.
وتختتم الكاتبة هذا الفصل قائلة “وهكذا دخلت المرأة المصرية الحزب الوطني، ولكن من الباب الخلفي، باب الحريم، ولكنها دخلت على أي حال، ومهما بدا لها إذ ذاك من ذهول المجتمع لهذه المفاجأة الكبرى!!”
المرأة المصرية في ثورة سنة 1919
في هذا الفصل، تحاول “درية شفيق” توثيق الثورة وفق ما توفر أمامها من مصادر، لكن هناك من التفاصيل الواردة ما يختلف مع ما أوردته “هدى شعراوي” في مذكراتها، وهي التي تقدمت الصفوف خلال الثورة، فعلى سبيل المثال تقول شفيق “ثم كانت المعجزة التاريخية عندما سجلت الشهيدة السيدة حميدة خليل من كفر الزغاري بالجمالية، عندما سجلت بدمها الطاهر في يوم 14 مارس أن المراة المصرية، كانت في القائمة الأولى لشهداء الثورة .. نعم كانت الشهيدة حميدة خليل في أول قائمة نشرتها الصحف وأذاعتها وكالات الأنباء إذ ذاك عن الذين سقطوا صرعى في الجهاد.”
بينما كشفت “هدى شعراوي” في مذكراتها أن أول شهيدة مصرية سقطت في ثورة 1919، هي “شفيقة محمد” وقالت نصًا “وإن أنس فلن أنسى الأثر المحزن الذي أحدثه ضرب أول شهيدة مصرية وهي السيدة شفيقة بنت محمد، في نفوس الشعب عامة، وقد تجلى ذلك في تشييع جنازاتها التي اشتركت فيها كل طبقات الأمة، حتى صارت جنازتها مظهرًا من مظاهر الوطنية المشتعلة”، بينما كانت “حميدة خليل” إحدى أخريات لحقن بـ”شفيقة”، على حد قول “شعراوي”.
بحسب “شفيق” فإن المظاهرة النسائية التي نظمتها السيدات في 20 مارس من العام 1919، لم تكن أول مظاهرة نسائية، إذ تقول “وفي يوم 20 مارس، قررت السيدات المصريات تأليف مظاهرة نسائية جديدة..”
وهو نفسه الحدث الذي تقول عنه “شعراوي” أنه أول مظاهرة نسائية خلال الثورة، في إشارة إلى أن السابق عليها كان مشاركة إلى جانب الرجال، لكن التحرك النسائي الخالص والقوي بدأ في 20 مارس.
تلفت “درية شفيق” إلى أن المعاصرين لثورة 1919، أكدوا أن الخطب النارية التي كانت تلقيها بعض طالبات المدارس في الشوارع، كان لها أعظم الأثر في إلهاب الجماهير تأجيج مشاعرها، كما تنوه باسم “صفية زغلول” في هذا الفصل، مشددةً على دورها في رعاية الثورة في صمت وتواضع، وهو ما كان دافعًا لأن يمنحها عموم الناس لقب “أم المصريين”.
في هذا الفصل، يتكرر استخدام الكاتبة للقب “حرم فلان” في أكثر من وضع في إطار توثيق مشاهد مشاركة النساء في الثورة، ثم يتبين لاحقًا أنه ليس عن عمد أو قصد منها، لكن ذلك الزمن، قلما كانت تُذكر فيه أسماء النساء على الملإ، وتدلل على ذلك بالتوقيعات النسائية على أي عريضة أو احتجاج، التي قلما حملت أسماء صاحباتها وإنما “حرم فلان” أو “كريمة فلان”، مع استثناءات معدودة مثل “هدى شعراوي” التي كانت تكتب اسمها ولم تلجأ إلى “حرم علي شعراوي”.
تحت عنوان فرعي “بعض الذكريات عن لجنة الوفد للسيدات”، تنقل “شفيق” عن إحدى السيدات اللاتي شاركن في ثورة 1919، كيف حملت النساء على عاتقهن مهمة الدفاع عن الثورة التي كاد المستمعر أن يخمدها في نهاية عام 1919.
وتسرد رواية عن محاولة عدد من النساء أن يخدعن الجنود الإنجليز، حتى يتمكن من تنظيم مظاهرة نسائية، إلا أن قواتهم سرعان ما حاصرتهن وأجبرتهن على التوجه إلى قسم العتبة الخضراء “الموسكي”، واحتجزوهن بالقسم لبعض الوقت، وعند إنصرافهن فوجئن بسياراتهن قد أتلفت إطاراتها برصاص بنادق الإنجليز، ومع ذلك لم يثبط ذلك من عزيمتهن، وتوجهن إلى بيت الأمة (بيت سعد زغلول) سيرًا على الأقدام في مظاهرة حاشدة.
من أبرز مكتسبات ثورة 1919، تشكيل لجنة للسيدات الوفديات، وقد جاءت بعد أن أشار بتشكيلها “سعد زغلول”، وذلك بغرض أن تعمل النساء جنبًا إلى جنب مع الرجال في سبيل مقاومة الاستعمار، ومن ناحية أخرى حتى يواسين الجرحى الذين يطالهم بطش قوات الاحتلال الإنجليزي.
وجرى تأليف أول لجنة برئاسة “شريفة هانم رياض”، ومن بين أبرز عضواتها الرائدة “هدى شعراوي”، وكانت “صفية زغلول” الرئيسة الشرفية لهذه اللجنة.
للإطلاع على الحلقة الأولى
قراءة في الكتاب النادر «المرأة المصرية.. من الفراعنة إلى اليوم» لــ «درية شفيق» – الحلقة (1)