قصص مبعثرة خلقت رابطًا وثيقًا بين روزا باركس وساروجينى نايدو ونينا سيمون
هناك أشخاص لم يجمعهم زمن واحد، وعاشوا في بلدان يفصل بينها آلاف الأميال، وتفاعلوا مع ظروف متباينة، ورغم ذلك ثمة أشياء تربط بقوة بينهم، كأنها خيط غير مرئي يمتد عبر الأزمنة والأمكنة ليصل بين قصصهم.
في كثير من الأحيان، تكون المشاهد المبعثرة هي السبيل المؤدي إلى التقاط هذا الخيط الدقيق وفك شفرته، ولذلك استندنا إلى بعض الحكايات المتناثرة في سير ثلاث نساء، حتى نضع أيدينا على ذلك الرابط متعدد الطبقات الذي يجمع بينهن، وهن: روزا باركس الناشطة الحقوقية الأمريكية وأحد أبرز المدافعين عن حقوق الأمريكيين ذوي البشرة السوداء، وساروجيني نايدو المناضلة السياسية والناشطة النسوية الهندية، ونينا سيمون الفنانة الأمريكية التي تعد رمزًا من رموز موسيقى الجاز.
الميلاد في فبراير
يجمع بين الثلاث ميلادهن في الشهر ذاته وهو شهر فبراير، فقد ولدت ساروجينى نايدو في الـ13 من فبراير في العام 1879، في مدينة حيدر آباد عاصمة ولاية تيلانغانا الهندية أثناء حقبة الاحتلال الإنجليزي للهند، وقد نشأت بين أسرة تناهض الاستعمار بالقول والفعل، فسارت على الدرب وانخرطت مبكرًا في الحِراك الساعي إلى تحرير الهند من قبضته.
وبينما كان نضال ساروجيني ضد الاحتلال الإنجليزي في أوجه، ولدت المناضلة الأمريكية والمدافعة الحقوقية روزا باركس في الـ4 من فبراير في العام 1913 بمدينة توسكيجي في ولاية ألاباما الأمريكية، وهي إحدى الولايات الجنوبية وواحدة من أكثر الولايات التي يقطن بها أمريكيون من أصول أفريقية.
بعد سنوات عديدة، بالتحديد في الـ21 من فبراير في العام 1933، ولدت في ولاية كارولينا الشمالية الموجودة بالقرب من ولاية ألاباما، يونيس كاثلين وايمون، التي عرفت لاحقًا باسم نينا سيمون، وصار اسمها من العلامات المحفورة في تاريخ حركة الحقوق المدنية مثلما كان كذلك اسم روزا باركس، إلا أن سلاحها في مقاومة التمييز العنصـري كان مختلفًا، إذ اتخذت من صوّتها وموسيقاها وسيلةً للاحتجاج.
معايشة الاضطهاد العنصري منذ الطفولة
انفصلت والدة روزا باركس عن والدها بعد عامين من مولدها، فقررت أن تنتقل ومعها روزا وشقيقها من مدينة توسكيجي إلى بلدة بين ليفل الموجودة في مقاطعة أوتوغا بولاية ألاباما، ليعيشوا في مزرعة صغيرة يمتلكها الجد والجدة المحرران من العبودية.
أدركت روزا في طفولتها أن حياتها وحياة من تحبهم تحت تهديد مستمر، وقد تنتهي في أي لحظة على أيدي جماعة الإرهاب العنصري كو كلوكس كلان (Ku Klux Klan)، التي كانت تؤمن بتفوق العرق الأبيض وترتكب مجازر وحشية بحق ذوي البشرة السوداء من دون محاسبة، وهو ما جعل جدها يحر على إبقاء بندقيته بالقرب منه، ليتمكن من الدفاع عن العائلة إذا هاجمهم أفراد من هذه الجماعة.
فضلًا عن غياب الشعور بالأمان، لم تختبر روزا في طفولتها الشعور بالعدل، فقد عانت من قوانين الفصل العنصري التي عُرِفت باسم «قوانين جيم كرو»، وكانت قائمة في الولايات الجنوبية من ثمانينيات القرن التاسع عشر وحتى منتصف ستينيات القرن العشرين، فلم يكن يحق لها وغيرها من الأطفال ذوي البشرة السوداء استقلال حافلات مدرسية مثل الأطفال ذوي البشرة البيضاء، وإنما كانت تضطر إلى السير على قدميها يوميًا من وإلى المدرسة، كما عرفت أنه من المُحرّم أن يجاور الملوّنون ذوي البشرة البيضاء في أحيائهم السكنية.
كانت المدارس هي الأخرى عوالم منفصلة لا يمكن أن تمتزج أو تتساوى مزاياها، وفي مذكراتها التي صدرت بعنوان «قصتي» في العام 1992، تقول روزا «كنا نذهب إلى مدرسة مختلفة عن تلك التي يذهب إليها الأطفال ذوو البشرة البيضاء، والمدرسة التي نذهب إليها ليست جيدةً كمدرستهم.»
كان الاضطهاد العنصري يطارد الملوّنات والملوّنين صغارًا وكبارًا، وتستعيد روزا في مذكراتها تفاصيل أحد الحوادث التي تعرّضت لها، إذ فوجئت في أحد الأيـام أثناء عودتها من المدرسة، بأحد الأطفال ذوي البشرة البيضاء يدفعها في محاولة لإسقاطها، فتعمدت الرد على اعتدائه باعتداء مثله، فلم تنته القصة عند هذا الحد، حيث جاءت إليها والدة الطفل وهددتها بالزج بها داخل السجن جراء فعلتها. لكن روزا لم تخش تهديدها، وقالت لها إنها لم تكن لتفعل ذلك لولا اعتداء ابنها عليها من دون أن تفعل ما يزعجه.
ومثلما واجهت روزا العنصرية والعداء خلال الطفولة، تحدت نينا سيمون في صباها التعسف المُشرعن بقوانين الفصل العنصري في الولايات الجنوبية، فحينما شاركت كعازفة بيانو في حفل أقامته مكتبة مدينة تريون في ولاية كارولينا الشمالية، وهي في الـ11 من عمرها، وكان هذا هو الحفل الأول لها على الإطلاق، احتجت على إجبار والديها على التخلي عن مقعديهما بين الحضور في الصفوف الأمامية لصالح اثنين من ذوي البشرة البيضاء، امتثالًا لقوانين الفصل العنصري التي تجعل الصفوف الأولى في الأماكن العامة ومنها قاعات الاحتفال مخصصةً للمواطنين البيض.
رفضت نينا آنئذ أن تؤدي المعزوفة أمام الحضور قبل أن يعود والداها إلى مقعديهما، وقد نجحت بإصرارها في انتزاع حقها في رؤيتهما بالقرب منها مثل غيرها من الأطفال. لكنها تجرعت غصة الجور مضطرةً بعد ست سنوات، عندما رفض معهد كورتيس للموسيقى في ولاية فيلاديلفيا، الموافقة على طلب المنحة الدراسية الذي تقدمت به حتى تلتحق بالمعهد، وقد ظلت حتى وفاتها في العام 2003 على قناعة بأن التعصب العنصري هو السبب في حرمانها من هذه الفرصة.
«سأخبرك ما هي الحرية بالنسبة لي: لا خوف.. أنا أعنيها بالفعل: لا خوف.»
نينا سيمون – العام 1968
أما ساروجيني التي نشأت بين أسرة بنغالية ميسورة الحال في مدينة حيدر آباد الهندية، أدركت في طفولتها أن بلادها تخضع لاستعمار جائر أهلكها بممارساته وجرائمه العنصرية، وقد تعرفت إلى هذه الحقيقة عبر شواهد عديدة، لعل أبرزها هو فصل والدها من عمله بسبب نشاطه المعادي للاحتلال البريطاني وانضمامه إلى حزب «الكونغرس الهندي الوطني» الذي تأسس في العام 1885 كنواة لحركة احتجاجية واسعة ضد الاحتلال وداعمة لاستقلال الهند.
لقد سمعت ساروجيني ورأت بنفسها الانتهاكات التي يرتكبها الأوروبيون بحق الهنود تذرعًا بأوهام «تفوق العرق الأبيض»، وعاصرت الفصل العنصري الذي طال كل مناحي الحياة في الهند إبان الاستعمار، وشهدت على القوانين المجحفة التي كانت تبيح اعتقال وقتل الهنود المتمردين، فكان كل هذا الاستبداد دافعًا لها لتنضم إلى حركة الاستقلال الهندية، وتكون من أشجع الأصوات المدافعة عن حقوق المزارعين المسلوبة وحقوق العمال المهدرة بأيدي المستمعرين.
بالإضافة إلى ذلك، أبصرت ساروجيني حقيقة أن التحرر من الاستعمار لا ينفصل عن التحرر من مختلف صور الأبوية، فصارت في مقدمة المحاربات من أجل تمكين النساء من حقوقهن في التعليم، والعمل، والخروج إلى المجال العام، والمشاركة السياسية.
«ما دام لدي حياة، وما دامت الدماء تسري في ذراعي، لن أترك قضية الحرية. أنا فقط امرأة.. أنا مجرد شاعرة. ولكن كامرأة، أعطيك أسلحة الإيمان والشجاعة ودرع الصبر، وكشاعرة أرفع راية الصوت والأغنية، وأنادي بالبوق إلى المعركة.»
ساروجيني نايدو
نضـال قض مضجع دعاة «تفوق العرق الأبيض»
كانت موسيقى الجاز والبلوز وسيلة نينا سيمون للتعبير عن تمردها واحتجاجها على الظلم الذي يتعرض له المواطنون الأمريكيون ذوو البشرة السوداء، فغدت أغانيها تجسيدًا إبداعيًا للانتفاضة التي شهدتها الولايات المتحدة إبان الخمسينيات والستينيات ضد العنصرية البيضاء، وينظر كثيرون إلى أغنيتها «مسيسيبي عليكِ اللعنة – Mississippi Goddam» التي صدرت في سبتمبر من العام 1963، بوصفها واحدة من أعظم تمثلات «موسيقى الاحتجاج» في القرن العشرين.
تطويع الموهبة للدفاع عن الحرية والعدالة أمر يجمع نينا وساروجيني، فقد وجهت الأخيرة موهبتها في الكتابة والشعر إلى مناهضة الاستعمار الإنجليزي وكذلك الدفاع عن حقوق النساء، إذ شاركت في إطلاق مجلة «Stri Dharma – دارما النساء» في العام 1918، وهي مطبوعة نسوية شهرية كانت تصدر عن جمعية المرأة الهندية، التي كان لساروجيني ضلع في تأسيسها قبل عام من صدور المجلة.
ويأتي مصطلح دارما من الديانات الهندية القديمة كالهندوسية، والبوذية، والسيخية، والجاينية. ووفقًا للديانة السيخية يعني «دارما» طريق الاستقامة، الذي يقود إليه الإيمان بالمساواة بين جميع البشر، والالتزام بالمشاركة وخدمة الآخرين.
من خلال هذه المجلة، حاولت ساروجيني وشريكاتها تقديم قراءات للوضع السياسي والاجتماعي في الهند من وجهة نظر نسوية، ووجهن أقلامهن إلى الكتابة عن ضرورة تمثيل النساء الهنديات داخل الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار البريطاني.
لم تكن الكتابة والصحافة والشعر هي فقط أدوات النضال التي ركنت إليها ساروجيني، فقد كانت عضوةً فاعلة في المقاومة الشعبية، وتعرضت للاعتقال على أيدي الحكومة الاستعمارية في أغسطس من العام 1942، على خلفية مشاركتها في حركة العصيان المدني التي حملت اسم «اتركوا الهند – Quit India»، وكانت تهدف إلى إجبار المستوطنين الإنجليز على الرحيل عن البلاد.
بعد نحو 13 عامًا من اعتقال ساروجيني، واجهت روزا باركس تجربة مشابهة، إذ ألقت شرطة مدينة مونتغمري بولاية ألاباما القبض عليها في الـأول من ديسمبر في العام 1955، بعد أن أصرّت على أن لا تتخلى عن المقعد الذي جلست عليه في حافلة نقل مشترك، ليحل محلها راكب أبيض كما جرت العادة وينص القانون.
اتهمت الشرطة روزا برفض الانصياع إلى أوامر السائق بالتخلي عن الكرسي التزامًا بقوانين الولاية – العنصريــة – التي تفرض على المواطنات والمواطنين الملوّنين إخلاء المقاعد الأمامية للمواطنات والمواطنين ذوي البشرة البيضاء.
أشعل القبض على روزا غضبًا عاصفًا بين المواطنات والمواطنين الملوّنين، وأعطى الحدث قوة الدفع لحملة مقاطعة واسعة لحافلات النقل العام، أطلقها الأمريكيون ذوي البشرة السوداء في مدينة مونتغمري واستمرت لـ381 يومًا.
تمخض هذا الحِراك عن صعود القس مارتن لوثر كينج كقائد لحركة الحقوق المدنية التي ظفرت باعتراف قانوني بحقوق الأمريكيين ذوي البشـرة السوداء، مع صدور قانون الحقوق المدنية للعام 1964 الذي حظر الفصل العنصري والتمييز المؤسسي في البلاد.
«أعتقد أننا هنا على كوكب الأرض لنعيش ونكبر ونفعل ما في وسعنا، لجعل هذا العالم مكانًا أفضل لجميع الناس حتى يتمتعوا بالحريـــة.»
روزا باركس
التمرد والخروج عن الأطر التقليدية، ومقاومة العنصرية البيضاء، والسعي لتحقيق العدالة، والإيمان الصادق بالمساواة، وطرق كل الأبواب المتاحة لاستعادة الحقوق المسلوبة؛ كلها أشياء مشتركة بين ساروجيني نايدو وروزا باركس ونينا سيمون، إلا أن أقوى ما يجمعهن هو الرفض العتيد للتسليم بالأمر الواقع، واستحضار القوة وقتل اليأس كلما راودتهن لحظات الانتكاس.