أنا آسفة أنا السبب.. آسفة أني عليت صوتي.. آسفة أني بتكلم كتير.. آسفة أني حساسة زيادة.. آسفة أني قولت كده.. آسفة أني معملتش ده.. آسفة أني لبست اللبس ده.. آسفة أني بشتكي.. آسفة لو سؤالي غبي، آسفة هي غلطتي أنا.

في أكثـر الأحيان، تعتاد النساء والفتيات على تقديم هذه الاعتذارات بعفوية، وغالبًا ما تتكرر كلمة «آسفة» على ألسنتهن عشـرات المرات خلال اليوم، يعتذرن بها عن أشياء لم تكن أبدًا أخطاءهن أو عن أمور لا يشوبها الخطأ، بينما الرجال قد تمر عليهم أيام وأيام ولا تتفوه ألسنتهم بكلمات الاعتذار، وهذه ليست مجرد افتراضات أو تصوّرات نمطية فقد توّصل الباحثان الأمريكيان كارينا شومان ومايكل روس إلى ما يثبت صحة ذلك، وأثبتا أن الأمر يعود في الأصل إلى التمييز القائم على النوع الاجتماعي.

نشــرت مجلة «العلوم النفسية– Psychological Science» في العام 2010، ورقة بحثية أعدها الباحثان كارينا شومان ومايكل روس، بعنوان «لماذا تعتذر النساء أكثر من الرجال: الفروق بين الجنسين في مستوى إدراك السلوك البغيض»، ومن خلالها استعرض الباحثان نتائج دراستين قاما بهما لاستكشاف إشكالية إكثـار النساء من الاعتذار والأسباب التي تقف وراء ذيوع هذه الصورة النمطية.

كشفت إحدى الدراستين أن النسـاء اللاتي تم استطلاع آرائهن يقدمن اعتذارات أكثر من الرجال الذين شملتهم العينة، وقد بررن ذلك بارتكابهن أخطاء أكثـر. لكن شهادات هؤلاء النساء والرجال بينت أن ما تجده المرأة أفعالًا قبيحة أو مسيئة تستوجب الاعتذار، يرتكبها الرجل أيضًا إلا أنه لا يجد هذه الأفعال تستحق الاعتذار عنها، ويرجع هذا بشكل رئيس إلى الاختلاف في تقدير المجتمع لما هو مرفوض ومستهجن من الرجل وما هو كذلك من المرأة، ونظرًا لتشدد المجتمع مع النساء، فكثيـر من الأقوال والأفعال يحسبها المجتمع عليهن أخطاء، بينما يمررها للرجال ويقبلها منهم.

ناردين (24 عامــًا) تعوّدت منذ طفولتها أن تسبق كل طلب بكلمة «أنا آسفة» وكان ذلك مقبولًا، وفي كثير من الأوقات كان مطلوبًا منها حتى إن لم يكن هناك داعٍ للاعتذار. تقول ناردين «عندما كنت أطلب من أبي المصروف اليومي أقول «أنا آسفة يا بابا ممكن مصروف النهارده؟»، وعندما أطلب من أمي الموافقة على الخروج للتنزه مع صديقاتي أبدأ كلامي بـ«أنا آسفة يا ماما بس ممكن أخرج مع أصحابي؟»، وإذا ذهبت إلى المتجر أقول للبائع «أنا آسفة ممكن تجيبلي كذا؟»، وقد لاحظت مؤخرًا أنني عندما أهاتف خدمة العملاء الخاصة بأي شركة لتساعدني في حل مشكلة ما، يكون أول ما أنطق به هو «معلش أنا آسفة محتاجة مساعدتكوا في كذا.»

تربت ناردين على أن كثرة الاعتذار تعكس حجم الأدب الذي تتمتع به الفتاة، وهذا لم تقله لها أمها فقط بل كانت تمارسه في حياتها اليومية، «كانت أمي تكثـر من الاعتذار لأبي، وتفعل ذلك بشكل تلقائي من دون أن تفكر فيما إذا كان ما تعتذر عنه يستدعي ذلك أم لا. على النقيض من هذا، لم يكن أبي يعتذر لها، حتى بعدما ينهرها ويصرخ في وجهها لعدم رضاه عن نظافة المنزل مثلًا، أو لانزعاجه من تأخرها في إعداد الطعام، أو لأن فاتورة الكهرباء جاءت قيمتها أعلى من المعتاد. كان أبي يخطئ بحقها ولا يعتذر نهائيًا.»

تتابع نادرين «أنا وأمي وملايين النسـاء أضحى الاعتذار ركنًا أساسيًا في كلامنا، لأننا جميعًا نخشى الخطأ ونتوقعه من أنفسنا دائمًا، ولأننا تعوّدنا أن نكترث لشأن الآخرين ولا نلقي بالًا لمشاعرنا، فضلًا عن أننا نخاف من الغضب والعقاب الذين يستهدفان النساء بشكل متواصل في مجتمعنا. هذه الأشياء تدفعنا إلى الاعتذار بشكل مسبق حتى نحمي أنفسنا، ولذلك قد نبدأ حديثنا باعتذار، ونفصل بين الفقرة والأخرى باعتذار، ولا مانع من أن ننهي الكلام باعتذار أيضًا.»

نهال (37 عامـًا) تجاوزت المشكلة نوعًا ما، فهي الآن قلما تنطق بكلمة «آسفة» التي كانت حتى وقت قريب من الكلمات الأساسية في قاموسها، إذ كانت تذيل معظم الجمل التي تخرج على لسانها باعتذار.

«كنت إذا أردت السؤال عن أمر أريد فهمه في العمل أو شيء أود استيضاحه، اعتذرت قبل أن أسأل عن احتمالية أن يكون السؤال ساذجًا، وعندما كنت أعد الطعام لأسرتي كنت أعتذر بمجرد أن أضعه أمامهم، عن ما إذا لم يكن كما يتوقعونه، وحينما كان شريكي الحميم ينفعل علي بشكل مفاجئ، كنت أبادر باعتذار غير مبرر كما لو كنت بالقطع السبب في انزعاجه، وأقول له: أنا آسفة لو ضايقتك في حاجة، وإذا اختلفت معه في الرأي، أبدأ كلامي بـ: أنا آسفة بس مش مقتنعة أو مش موافقة. أما هو فيمكنني أن أؤكد أنه لم يعتذر في أي مرة عن اختلافه في الرأي معي أو حتى عن إزدرائه لرأيي في بعض الأحيان.»

اكتشفت نهال أن كثـرة الاعتذار تعكس أزمتها العميقة مع الخوف من غضب الآخرين منها وعدم تحمّلهم لما حاولوا إقناعها بأنه «إمكاناتها الضعيفة وقدراتها المحدودة» وهو ما أفقدها ثقتها بنفسها، «لا أعلم بالضبط السبب في هذه المشاعر التي لازمتني طويلًا، ربما أبي هو السبب لأنه كان يصفني بأنني أغبى أبنائه، أو قد تكون مديرتي في أول عمل التحقت به، لأنها كانت كثيرة الشكوى مني ومن قدراتي المهنية، وقد يكون فشلي في إقامة علاقات طويلة وممتدة، فالآخر هو من يقرر الرحيل دومًا.»

كثيـرًا ما كان كمال (29 عامًا) يسمع أمه وهي تعتذر وتلح في الاعتذار، إذ كانت تعيد كلمة «آسفة» أكثر من مرة خلال أي حوار تكون هي أحد أطرافه، ويعتقد أن ذلك نتيجة شعور رافقها طوال عمرها بأنها عبء على كل من حولها، وبسبب خوفها الدائم من أن يُساء فهم كلامها، «كانت أمي تعتذر حتى لهؤلاء الذين لا يعتذرون لها مطلقًا حتى إذا تعمدوا إيذاءها، بما فيهم والدي وهو أكثـر من ألحق بها الأذى.»

يحكي كمال أنه أيضًا كان يعتذر كثيـرًا بمجرد أن يخبره أحد بأنه انزعج منه، ولم يعرضه ذلك أثناء طفولته إلى إساءات، ولكن في مرحلة المراهقة باتت كثرة اعتذاراته تضعه في مهب السخرية والتنمر من بعض زملائه في المدرسة، ويتذكر أن أحدهم قال له بامتعاض ذات مرة «أنت كل كلامك آسف آسف.. ما تسترجل شوية.»

هذا المناخ أدى إلى تشكيل قناعة لديه بأنه من الخطأ أن يعتذر الذكور، فكلمة «آسف» لا تليق بـ«الراجل» لأنها تعكس ضعفًا، والضعف ليس من شيم «الرجال».

ترى الأكاديمية الأمريكية والباحثة في علم النفس أماندا روز، أن التنشئة الاجتماعية للفتاة تقنعها بأن الاعتذار لا يكلفها شيئًا بل إن فوائده المحتملة عديدة، سواء كان الاعتذار عن خطأ ارتكبته، أو عن خطأ ارتكبه الطرف الآخر، أو عن خطأ مشترك، أو حتى لو لم يكن قد وقع خطأ من الأساس، لأن هذا الاعتذار سيحمي ويحافظ على استمرار علاقاتها.

بالإضافة إلى ذلك، تتحدث أماندا روز في مقالتها المنشورة عبر الموقع الخاص بمجلة «علم النفس اليوم – Psychology Today»، تحت عنوان «هو ليس آسِفًا.. لماذا لن يعتذر الرجال؟»، عن تعليم الذكور منذ الصغر أن الاعتذار قد يعرضهم لمخاطر، وأن كلمة «آسف» تعني اعترافًا بالخطأ أو الضعف خاصة في سياق «المجموعات»، إذ يضع الاعتذار صاحبه في موضع الضعيف أمام الآخرين الذين قد يتكاتفون ضده.

وبحسـب أماندا روز، فإن قلة شيوع الاعتذار بين الذكور قد تجعله يبدو أمرًا أنثويًا، وقد تتسبب في تعريض المُعتذر إلى الوصم والوصف بـ«المخنث» الذي يفتقر إلى «الرجولة».

يقول كمال إنه بدأ مؤخرًا يعيد النظر في الأفكار الذكورية التي تراكمت في ذهنه، فأدرك أن الاعتذار ليس ضعفًا ولا يعيب كلا الجنسين، ولكنه أيضًا صار على ثقة من شيء آخر، «بات لدي شبه يقين بأن اللسان الذي يفرط في الاعتذار ويكرر كلمات الأسف بشكل لا إرادي، يخفي وراءه شخصًا يتملكه شعور بأنه المُخطئ أو الأقرب إلى الخطأ مثلما هو حال أمي، وأنا على ثقة من أن البيئة التي تعيش فيها النساء هي التي تضع بذور هذا الشعور داخلهن، ثم تأتي عوامل اجتماعية عديدة فتعمّقه وترسخه في نفوسهن.»