كيف يصبح المدافعون عن المعتدين الجنسيين شركاءً في جرائمهم؟
يعترف السواد الأعظم من الدول –ولو صوريــًا – بأن العنف الجنسي بمختلف صوره وتمثلاته، جريمة تتباين العقوبات ضدها تبعًا لدرجتها، من خلال نصوص الدساتير والتشريعات، وعبر الالتزام تجاه الاتفاقيات الدولية المُوقع عليها، واستنادًا إلى المواثيق والمعاهدات الدولية التي يتعين على حكومات الدول العمل من أجل تنفيذ بنودها.
وينص إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن العنف ضد المرأة، المعتمد في الـ20 من ديسمبــر في العام 1993، في الفقرتين (ب) و(ج) من مادته رقم (2) على: يجب أن يُفهَم العنف ضد المرأة على أنه شامل ولكن لا يقتصر على: حدوث العنف البدني والجنسي والنفسي في إطار المجتمع العام، بما في ذلك الاغتصاب، والاعتداء الجنسي، والمضايقة الجنسية، والتخويف في مكان العمل وفي المؤسسات التعليمية وفي أي مكان آخر، والاتجار بالنساء والبغاء القسري، بالإضافة إلى تغاضي الدولة أو ارتكابها للعنف البدني والجنسي والنفسي أينما وقع.
وتُعرّف منظمة الصحة العالمية (WHO) العنف الجنسي بأنه «أي علاقة جنسية، أو محاولة للحصول على علاقة جنسية، أو أية تعليقات أو تمهيدات جنسية، أو أية أعمال ترمي إلى الاتجار بجنس الشخص، أو أعمال موّجهة ضد جنسه باستخدام الإكراه، يقترفها شخص آخر مهما كانت العلاقة القائمة بينهما وفي أي مكان. ويشمل العنف الجنسي الاغتصاب الذي يُعرّف بأنه إدخال القضيب، أو أي جزء من الجسد أو أداة خارجية أخرى في الفرج أو الشرج بالإجبار أو الإكراه.»
وبالعودة إلى تجريم «العنف الجنســي»، فوفق القاعدة القانونية العامة، يعتبر المُحرّض والمتواطئ في أي جريمة مشتركًا فيها، حتى وإن كانت العقوبة ضده أقل درجة من المتورط بشكل فعلي. لكن التحريض على العنف الجنسي وتسهيل ممارسته لا يتم التعامل معهما قانونيًا ومجتمعيًا وفق هذه القاعدة، إذ لا يجد المشرّعون أو الأفراد غضاضة في التساهل مع التحريض والحض على العنف الجنسي ضد النساء، الذي قد يحدث عن طريق تبرير وقوعه، أو المطالبة العلنية بالتسامح مع مرتكبيه، أو إرهاب الناجيات وتكذيب شهاداتهن بما يُمّكن المعتدي من الإفلات من العقاب، وارتكاب جرائم أخرى.
التحريـض والتواطؤ في جرائم العنف الجنسي لا يقعان فقط بالدعوة الصريحة لممارسة الاعتداء، ولا يتوقفان عند محاولات إبعاد النظر عن المعتدي أو توفير الحماية المادية له، فالدفاع عن المعتدين يعد شكلًا من أشكال التحريض والتواطؤ، وكل الأصوات التي تبرر وقوع الجرائم وتُحمّل الناجيات مسؤولية حدوثها، أو تخرج إلى العلن لتشكك في شهاداتهن، أو تزعم باستحالة ارتكاب المتهمين لهذه الجرائم، إما بداعي المعرفة الطويلة بهم، وإما اتكالًا على تفوقهم المهني، وإما تذرعـًا بمكانتهم الاجتماعية، هي أصوات تحض على العنف الجنسي وتتآمر مع المعتدين بطريقة ما، لأنها تساهم في الحفاظ على أمنهم، وتبث الطمأنينة في نفوسهم، فتمنحهم القوة التي تشجعهم على الاستمرار في جرائمهم، خاصة أنها تمثل في الوقت ذاته مصدر تهديد وإرهاب للناجيات اللائي خرجن عن دائرة الصمت، وترسل تحذيرًا مضمرًا إلى هؤلاء اللاتي لم يخرجن عن صمتهن.
في أعقاب انفضاح كل معتدٍ، تخرج حملات الدفاع عنه والتشكيك في الشهادة أو الشهادات المنشورة ضده، ولا يصدر الدفاع عن دوائر أصدقائه أو معارفه فقط، بل تكون مصادره أوسع من ذلك، إذ تشمــل المعتدين الذين يخشون السقوط مثله، وأفراد المجتمع الذين تشبعوا بالأفكار الذكورية.
ويتجسـد الدفاع عن المعتدي في حملات مناصرة له تتبنى قيمًا ذكوريةً، وتلجأ إلى تنميط المعتدي والناجية، بهدف إبعاد الشبهة عن المتهم وإثارة الشكوك حول مصداقية من تتهمه. يجعل هذا التنميط المكانة الاجتماعية أداة من أدوات التشكيك في الاتهام الموّجه للمعتدي، ونمط الحياة وسيلة لتكذيب الناجية، ويترجم ذلك قائمة من الجمل المكررة التي تنطق بها ألسنة المدافعين، كلما دوّت أصداء جريمة اعتداء جنسي.
ومع تطور الحِراك ونجاح النساء في دحض مزيد من الأكاذيب الذكورية، يضيف المدافعون جملًا أخرى إلى القائمة، تبدو جديدة في ظاهرها إلا أنها تُعبّر عن القناعات نفسها، وجميعها يرمي إلى كبح الاتهامات ووضع الناجيات في واحدة من هذه الخانات: الباحثات عن الشهرة، سيئات السير والسلوك، المأجورات، المختلات.
فيما يلي، نتعرض إلى بعض من الجمل التي يستخدمها المدافعون والمدافعات عن المعتدين، للتشكيك في شهادات الناجيات والتحريض ضدهن، في محاولة لتفنيدها وإثبات ضعفها:
أصله متحرش بيا .. أصله ما عملش معايا كده
تصدر هاتان الجملتان عن المدافعات عن معتدٍ تربطهن به علاقة، سواء كانت معرفة محدودة أو علاقة عمل أو صداقة أو صلة عائلية، ويلجأن إليهما عند تتابع الشهادات ضد هذا الشخص بهدف دفع الاتهامات عنه، إلا أن مثل هذه الجمل تنطلق من فرضية غير منطقية، وهي أن المعتدي يعتدي على كل من يمر بجانبها أو يلتقي بها.
عند مراجعة الشهادات التي انتشــرت مؤخرًا في مصر ضد معتدين، يتضح أن المعتدي جنسيـًا على نساء تجمعه بهن معرفة في إطار العمل أو التعليم أو الأنشطة المشتركة، غالبًا ما يستهدف نمطًا محددًا من النساء، حيث يشتركن في شيء ما في المظهر الخارجي، أو في المرحلة العمرية، أو في الحالة الاجتماعية، إلى جانب تقديره للعوامل التي من شأنها أن توفر له الحماية بعد اعتدائه، كالحالة النفسية للناجية، وعلاقاتها في محيطها، ووضعها الاجتماعي والطبقي.
ولأن الحقيقة التي يرفض كثيرون الاعتراف بها هي أن المعتدي مجرم، فكل مجرم متمرس يخطط لجريمته ويحدد المُستهدَف، ويعين أدواته المعنوية والمادية لتنفيذ جريمته، ويبحث في السبل التي تحول دون انفضاح أمره.
إضافة إلى ذلك، يعكس استخدام هاتين الجملتين من قبل نساء التقين بالمعتدي مرة أو مرات معدودة وعابرة، تغاضيًا وغض طرف عن ما أثبتته الدراسات على مدار سنوات طويلة، بشأن جرائم الاعتداء الجنسي وتحديدًا الاغتصاب، والتي تكشف أن النسبة الأكبر من الجناة يكونون أشخاصًا معروفين للناجيات ويتعاملون معهن في سياق ما، وهو ما يعرف باسم «اغتصــاب المعارف –Acquaintance Rape» الذي ظهر لأول مرة في العام 1978، عندما استخدمته الكاتبة النسوية ديانا راسيل، لتعبر به عن جرائم الاغتصاب التي يرتكبها أشخاص تعرفهم الناجيات معرفة شخصية، كزملاء العمل والدراسة، أو المديرين في العمل، أو الأصدقاء، أو الشركاء، أو الأزواج، أو أفراد الأسرة والعائلة، أو المعالجين والأطباء، أو رجال الدين، ويُعرف أيضًا باسم «اغتصاب الثقة – Confidence Rape»، وهو مصطلح جرى استخدامه لأول مرة في العام 1990، في دراسة بعنوان «الاغتصاب المفاجئ واغتصاب الثقة: الآثار المترتبة للتدخل السريري»، ويشير إلى الاغتصاب الذي يرتكبه شخص تجمعه بالمٌعتدَى عليه أو عليها علاقة سواء سطحية أو عميقة، إلا أنها تكون كافية لكسب ثقته أو ثقتها، ليقع الاستدراج ثم الجريمة.
وبحسب الدراسة، يزيد في جرائم اغتصاب الثقة عن الاغتصاب المفاجئ، شعور الناجيات بالذنب ولومهن لأنفسهن بشكل لاذع ومستمـر، فضلًا عن أن احتمالية إبلاغ الناجيات في جرائم اغتصاب الثقة أو المعارف أقل من تلك في جرائم اغتصاب الغرباء، مما يعزز ثقة هؤلاء المعتدين وشعورهم بالأمان.
وهي سكتت ليه.. ما تكلمتش ساعتها ليه!
من الشائع أن ينتظر الناجيات والناجون من الاعتداءات الجنسية لفترة من الوقت، قبل أن يخبروا المحيطين بهم بما فيهم الأكثـر قربًا إليهم عن هذه الاعتداءات، وقد يطول التكتم على ما حدث لسنوات أو عقود، خوفًا من ردة فعل المجتمع، والوصم، والعقاب المجتمعي.
وكثيـرًا ما يكون الصمت نتيجة الصدمة التي تصيب الناجيات وما يتبعها من كرب (يُعرَف باسم: كرب ما بعد الصدمة)، وبسبب تصديقهن للتصوّر الراسخ في ثقافة المجتمع الذكوريـة، بأن المُعتدَى عليهن هن «المتسبب الأصلي في الاعتداء» من خلال السلوك أو المظهر، ولأن الشعور بالخزي عادةً ما يدفع حامليه إلى الاختباء من الناس، فإن الناجيات اللاتي صدقن – ولو بشكل مؤقت – أنهن مسـؤولات عن ما تعرّضن له، يختبئن من المجتمع وقذائفه المادية والمعنوية خلف هذا الصمت.
كما يلعب الخوف من الانتقـام دورًا في اضطرار الناجيات إلى الصمت، خاصة عندما يكون المعتدي ذا نفوذ أو سلطة، وإذا كان يتقلد منصبًا قياديًا في مؤسسة العمل التي تعمل بها الناجية، إذ أن الغالبية العظمى من مؤسسات العمل في مصر لا تضع لوائح داخلية لحماية العاملات من التحرش والابتزاز الجنسي، ولا توفر آليات لتقديم الشكاوى تضمن سريتها، لتحقيق الحماية لهن من الضغط والإجراءات التعسفية.
طالما مقاومتوش يبقى كانت موافقة
فضلًا عن أن الناجيات قد يخشين المقاومة إذا كن تحت تهديد المغتصب لهن بالقتل، قد لا يتمكنّ من مقاومة الاعتداء أثناء وقوعه لسبب آخر تناولته المحامية لين هيخت شافران، مديرة البرنامج الوطني الأمريكي للتعليم القضائي لتعزيز المساواة بين المرأة والرجل في المحاكم، في دراسة بعنوان «عوائق أمام المصداقية: فهم أساطير الاغتصاب ومكافحتها»، وتشيـر فيها إلى أن بعض النساء قد يتعرضن لواحدة من حالتين يفرزهما الخوف الشديد هما الانفصال والخوف المُجمّد، وتؤديان إلى عدم القدرة على الحركة خلال الاعتداء.
تبيـّن الورقة أيضًا أن بعض الناجيات من الاغتصاب يؤدي بهن الضغط النفسي الهائل، إلى الشعور بانفصال تام أثناء وقوع الجريمة، ومنهن من تشبه تلك اللحظات بالحلـم الشنيع، وهناك من يصفن حالتهن حينها بـ«الانفصال عن الجسد»، كما لو كن يشاهدن الاعتداء من الخارج.
كما أجرت آنا مولر الباحثة في معهد كارولنسكا الطبي في السويد، دراسة على عينة قوامها يقترب من 300 ناجية من الاغتصاب، صدرت بعنوان «عدم القدرة على الحركة أثناء الاعتداء الجنسي – رد فعل شائع يُنبئ باضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب الحاد»، وأوضحت نتائجها أن 70 في المئة من الناجيات شعرن بعدم القدرة على الحركة أثناء الاعتداء، وأصيبت 48 في المئة منهن بشلل تام مؤقت خلاله، فلم يستطعن التحرك نهائيًا.
تُعرَف هذه الحالة باسم «Tonic Immobility» وهي حالة لا إرادية تصيب بعض البشر عند مواجهتهم لتهديد ضخم، يترتب عليها فقدان القدرة على الحركة أو الكلام لفترة من الوقت.
ماشوفتوش بيتحرش
التعليق على هذه الجملة لن يكون سوى بتوجيه سؤالين إلى مردديها: هل تشككون في رواية كل من يخبركم بأنه تعرض للسرقة، وهل كل جريمة تعلمون بأمرها وتصدقوا وقوعها، تكونوا شاهدين عليها؟
والإجابتان معلومتان وكافيتان.