سطوة الرجال على مجال صناعة الأفلام عمومًا والإخراج السينمائي خصوصًا أزمة طويلة العمر، تثبت الحقائق والأرقام رسوخها حتى يومنا هذا، وحسب موقع women and Hollywood  فإن 92 في المئة من الـ250 فيلمًا التي حصدت أعلى الإيرادات خلال العام 2018، كانت لمخرجين ذكور.

وبالطبع تعاني السينما العربية من الأزمة نفسها، إذ تغيب النساء عن الأدوار الرئيسة خلف الشاشة غيابًا محبِطًا، ويزداد الأمر سوءًا لأن المجتمع الحاضن لهذه السينما ما زال ينظر إلى النساء العاملات في هذا المجال بتشكك وريبة واحتقار في بعض الأحيان، مما يزيد من عزوف المرأة عن الدخول إلى عالم السينما سواء بالعمل أمام الكاميرا أو خلفها، مخافة استهدافهن بصور نمطية تعشش في أذهان كثيرين.

تُعرِّفنا المهرجانات السينمائية  إلى هؤلاء اللاتي لا يعبأن بنظرة المجتمع، ويتحدين التصورات العبثية المنتشرة حول عمل المرأة في السينما، وتُقرّبنا هذه الفعاليات الفنية من تجارب هؤلاء النسوة اللاتي يقاومن السيطرة الذكورية على صناعة الأفلام، وتمنحنا فرصة مشاهدة أعمالهن التي تمثل مساحة للتعبير عن شواغل المرأة وقضاياها من زاوية غير تلك السائدة في مجتمعاتنا. من هؤلاء المخرجة الجزائرية ياسمين شويخ التي فاز فيلمها «إلى اَخر الزمان» بجائزة الفبريسي في النسخة الثامنة لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، التي انعقدت في الفترة من 15 مارس وحتى 21 من الشهر نفسه، في مدينة الأقصر أعرق مدن العالم وأكثرها احتضانًا للاَثار.

في أول فيلم روائي طويل لها، تحوّل ياسمين شويخ المقبرة إلى أرض يولد فيها الحب وينمو، وتغمر السعادة جنباته، ويضيء الأمل ظلمته حتى إن كانت رائحة الموت تفوح في أرجائه.

«إلى آخر الزمان» تدور أحداثه في مدينة جزائرية مُتخيّلة تسمى «سيدي بولقبور»، حيث تنشأ علاقة حب بين حفار قبور يدعى علي وسيدة عجوز تدعى جوهر. تبدأ علاقتهما عندما تقصد جوهر المقبرة لزيارة قبر شقيقتها التي عاشت وحيدة في هذه المدينة قبل وفاتها، بعد أن فضلّت الوحدة على البقاء في كنف زوج يمارس العنف ضدها بشكل اعتيادي. تقرر جوهر الاستعداد للموت القادم في الطريق، فتطلب من علي أن يعد لجنازتها قبل أن تموت، وبموافقته على الأمر تبدأ علاقتهما في التطور والتعمق، إلا أن المجتمع بأفكاره حاضر في الخلفية وجوهر أرملة في مجتمع تحكمه القيم الذكورية.

الفيلم من تأليف ياسمين شويخ ومن إنتاج العام 2017، وقد أدى دوري البطولة؛ الممثلة الجزائرية جميلة عراس، والممثل المسرحي جيلالي بوجمعة، إلى جانب إيمان نويل، ومهدي مولاي، ومحمد تكيريت.

فضلًا عن الفبريسي، حصد الفيلم جوائز عربية ودولية أخرى، وهي: الوهر الذهبي من مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي في الجزائر، وجائزة أفلام الجنوب في الدورة السابعة لمهرجان بروكسل في بلجيكا، كما حاز بطل الفيلم جيلالي بوجمعة على جائزة أحسن أداء رجالي في الدورة الـ12 للمهرجان الدولي لسينما المرأة في مدينة سلا المغربية، كما تُوج مؤخرًا بجائزة العناب الذهبي في مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي في الجزائر.

علاوة على ذلك، رشح المركز الجزائري لتطوير السينما «إلى اَخر الزمان» ليكون مرشح دولة الجزائر في منافسات الأوسكار عن فئة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية، في نسختها الـ91 التي انعقد حفل توزيع جوائزها في الـ24 من فبراير الماضي على مسرح دولبي في هوليوود.

كان لنا هذا الحوار مع المخرجة الجزائرية الشابة، نناقش فيه تجربتها السينمائية ونستفيض في الحديث معها عن العلاقة بين السينما الجزائرية والمرأة، سواء على مستوى الموضوعات المطروحة على الشاشة أو التمكين في الصناعة.

كيف وُلِدَت في ذهنك فكرة تحويل المقابر كرمز للموت إلى مكان يكمن فيه الحب والحياة؟

الفكرة بدأت بكتابة عفوية عن بعض الشخصيات وتفكيرها في الحياة، ثم تحوّلت إلى سيناريو قصير، ولم يكن في ذهني قصة المقبرة في البداية، حتى تطور النص والشخصيات تباعًا، وأصبح الفيلم يناقش أفكارًا متشابكة عن الحب والحياة والموت. وأنا أفُضل أن يخرج كل مشاهد بقراءة مختلفة للفيلم نابعة من إحساسه وثقافته وظروفه.

توّلد لدي شعور بأن المكان يحمل رمزية لمجتمعاتنا العربية التي تحوّلت إلى مقابر مفتوحة بسبب النزاعات والحروب ومع ذلك ما زالت تنبض بالأمل، إلى أي مدى تتفق هذه القراءة مع رؤيتك؟

بالتأكيد أتفق مع هذه القراءة، لأن كل شخص له ماضي مرتبط بقصص إنسانية مختلفة، وأظن أنني رأيت هذه المقبرة تعبر عن وطني، فقد ولدت في بلد أشبه بمقبرة مفتوحة للموت والحزن؛ مليون شهيد، وأكثر من 15 سنة دموية استنزف الإرهاب خلالها الجزائر، وما زال تأثيرها حاضرًا إلى الاَن، وعندما تقدمت في السن صارت المشكلة أكبر، فلم يعد الإرهاب يضرب الجزائر وحدها بل انتقل إلى البلدان العربية والأوروبية، وهيمنت أخبار الموت على نشرات الأخبار والراديو وشبكات التواصل الاجتماعي، وكأن الموت أكثر شيء نستثمر فيه.

ولكن رغم الموت هناك قصة حب تُولد؟

لقد كان هدفي من الفيلم أن يكون دعوة إلى الحياة والأمل. الفيلم لا يروي قصة حب أو عشق بين شخصين بشكلها المباشر، وإنما قصة الحب فيه هي حجتي لكي أحكي للمشاهد قصة الحياة في مجتمعاتنا التي ماتت فيها العاطفة وتجمّدت المشاعر. أردت أن أؤكد أن الإنسان الذي يعيش وسط الموت والخراب والدم ما برح يتمسك بالحياة، وإن كان هناك رسالة فمفادها أن الحياة لا بد أن تستمر إلى ما لا نهاية، وهذا ما قصدته بعنوان الفيلم «إلى آخر الزمان».

«جوهر» بطلة فيلمك ترفض الزواج من الرجل الذي تحبه تحسبًا للمجتمع، هل قصدتِ تجسيد معاناة المرأة الجزائرية تحت وطأة العادات والتقاليد؟

حاولت ألا أفرض وجهة نظري على المشاهد، لقد عرضت الواقع وجعلته يرى الظلم بعينه دون شعارات طنانة، وتركته يتعاطف ويتفهم قصة حب جوهر وعلي، ويطرح تساؤلات في ذهنه مثل: هل ضغط المجتمع مبرر أم لا؟ وأليس من حق الأرملة أن تحب وتتزوج؟، بما يجعله ينتقد هذه التقاليد ويرفضها بنفسه ويُدرك إنها تعيق حياة الفرد. وما يعنيني هو قيام المشاهد بذلك وهو حر دون توجيه أو إجبار.

ولدت ياسمين شويخ في العام 1982 لأسرة فنية، ووالدها هو المخرج الجزائري محمد شويخ الذي ظهرت في أحد أفلامه إبان طفولتها الباكرة. وقبل «إلى اَخر الزمان» قدمت للسينما فيلمين قصيرين هما «الباب» من إنتاج العام 2006 و «القلعة» من إنتاج العام 2009.

المرأة محور أفلامك، سواء أشرنا إلى أفلامك القصيرة أو فيلمك الروائي الأول؟

أنا امرأة جزائرية وأعيش في الوطن العربي، ولا إراديًا أدافع عن النساء وأصنع أفلامًا عنهن، لأنني امرأة وفنانة، وعندما تقع المرأة تحت ضغط من جانب المجتمع، فمن المؤكد أنني سأراه وأشعر به.

إلى أي مدى دعمت نشأتك في كنف أسرة فنية مشوارك السينمائي؟

من حسن حظي أنني نشأت بين أسرة فنية تتبنى أفكارًا تقدمية. لقد تربيت على حب السينما والفنون بصفة عامة ولذلك دعمت أسرتي اختياراتي. أبي وأمي مخرجان، وقد ورثت من أبي انفتاحه ومناصرته لحقوق المرأة، وهو الأمر الذي تناوله في جل أفلامه.

كيف أثرّت دراستك لعلم النفس على عملك السينمائي؟

بدأت كتابة السيناريو وأنا في الـ14 من عمري، وكنت أطمح إلى الالتحاق بمدرسة السينما، ونظرًا لافتقاد الجزائر إلى معهد لدراسة السينما، وهى أزمة ما فتئت قائمة حتى الاَن، ومع صعوبة سفري إلى الخارج آنذاك، اخترت أقرب ميدان للكتابة السينمائية وهو دراسة وتحليل النفس البشرية التي تساعدني على رسم الشخصيات وتطويرها دراميًا، وتؤهلني إلى فهم الإنسان بشكل أكثر عمقًا، وبعد حصولي على الليسانس، ألغيت فكرة سفري إلى أوروبا لدراسة السينما، وتعلمت بالممارسة العملية من خلال عملي كمساعد مخرج في عدد من الأفلام، ثم مخرجة لعدد من الأفلام الأقصيرة حتى قدمت «إلى اَخر الزمان».

«إلى اَخر الزمان» من تأليفك وإخراجك ومن إنتاج كريمة شويخ ومونتاج يمينة بشير، فهل تصنفينه فيلمًا نسويًا؟

لا أصنف نفسي نسوية وأفضل لقب مخرجة فقط، لكن تظل المخرجة في العالم العربي ملاحقة بتصنيف المخرجة النسوية، ومع ذلك فأنا أدافع في أفلامي عن حقوق المرأة والمهمشين. لكنني أحكي قصص الناس فحسب، ولا أصنع أفلامًا تعكس معارك ضد الرجال أو غيره. النسوية التي أنتمي إليها تُعلي قيمة العدل للجميع وأعمالي أصنفها أفلامًا إنسانية.

وماذا عن النساء في السينما الجزائرية ومدى انخراطهن في هذا المجال؟

عدد النساء العاملات في السينما الجزائرية قليل وغير كافٍ، وإذا ما نظرنا إلى هوليوود عاصمة السينما في العالم، سنجد أنه من بين كل 100 مخرج هناك مخرجة واحدة، وهذا يعني أن المشكلة ليست قصرًا على العالم العربي، خاصة في ظل العوائق التي تحيط بمسألة عمل المرأة بالمجال الفني عمومًا والسينما خصوصًا. فما زلنا نعاني من هذه النظرة «غير المُحتَرِمَة» للمرأة الفنانة، ومع ذلك فإنني متفائلة بأن عدد النساء في السينما سيزيد ومشاركاتهن ستتضاعف.

ومن وجهة نظرك، ما التحديات التي تواجه صناع السينما البديلة؟

مما لا شك فيه أن التحديات كثيرة لأن أزمتنا كصناع أفلام مستقلة هي الإنتاج، وهو أمر مرتبط بأزمتنا الأكبر في الوطن العربي لأننا لسنا منتجين للأفلام وإنما مستهلكين، كما هو حالنا في كل الميادين، وضعف الإنتاج يترك صداه على مستويات عديدة، ومنها فرصنا في المنافسة على جوائز الأوسكار رغم جودة الأفلام المستقلة خلال السنوات الأخيرة، ولكن كمخرجة بمفردي أصنع فيلمًا بتكلفة منخفضة لا يمكنني أن أتحمل ميزانية مضاعفة من أجل الترويج للفيلم، إذ نجح في الحصول على ترشيح لتمثيل بلدي في منافسات جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.

على ذكر الأوسكار، كيف تنظرين إلى ترشيح «إلى اَخر الزمان» لتمثيل الجزائر في المنافسة على جائزة أفضل فيلم أجنبي رغم ضعف الإنتاج ومحدودية الإمكانيات؟

كان الأمر باعثًا على الفخر، فهو أول أفلامي الروائية الطويلة وخروجه إلى النور هو جائزة في حد ذاته، خاصة في ظل الظروف الإنتاجية الصعبة التي تعاني منها الأفلام غير التجارية. كما اعتبر طواف الفيلم في مهرجانات عربية ودولية ومشاهدة الجمهور له جائزة أخرى. أما ترشيحه من جانب لجنة مستقلة لتمثيل الجزائر في مسابقة كالأوسكار وهي من أكبر المسابقات السينمائية في العالم، فهو تتويج لم يكن متوقعًا للجهد المضني الذي بذلناه في الفيلم وحافز قوي لمواصلة المسيرة.

سنوات العشرية السوداء في الجزائر تشير إلى النزاع المسلح بين النظام الجزائري (في مقدمته الجيش) وعدد من الفصائل التابعة للجبهة الإسلامية للإنقاذ خلال تسعينيات القرن الماضي، وتُوّصف هذه الفترة بسنوات المجازر لما شهدته من أحداث دموية حصدت مئات الاَلاف من أرواح الجزائرين، لم تتوقف إلا بعد إجراء الانتخابات الرئاسية في العام 1999 ووصول عبد العزيز بوتفليقة إلى سدة الحكم، ثم تخلص الجبهة الإسلامية من سلاحها بالكامل في العام 2000.

إلى أي مدى أثرت سنوات «العشرية السوداء» على صناعة السينما في الجزائر؟

كانت سنوات دموية، ولم تؤثر سلبًا على السينما فقط بل على الثقافة بصفة عامة، علاقة المواطن الجزائري بالثقافة تغيرت تمامًا، فلم يعد حريصًا على الذهاب إلى السينما أو المسرح أو حضور معارض الفن التشكيلي. كانت أيامًا قاسية، كانت القنابل تُزرع في القاعات، ويُقتَل المخرجون أو الممثلون أثناء التصوير، لم يكن أحد يجرؤ على تصوير فيلم، وما زال تصوير الفيلم السينمائي ليس بالأمر السهل، فالشعور بالتهديد لا يزول.

ويظل تأثير هذا المناخ الغائم قائمًا حتى الاَن، فالجزائر لا تنتج سوى فيلم أو اثنين سنويًا، ولا تعرض هذه الأفلام إلا في قاعات خاصة ومن خلال عروض محدودة العدد.

حصل فيلمك على عدد من الجوائز واَخرها جائزة الفبريسي من مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، فكيف تنظرين إلى هذا النجاح الفني اللافت؟

 جائزتي الحقيقية هي هذا الشعور الإيجابي الذي يخرج به الجمهور بعد مشاهدة الفيلم. هذا الأمل الذي ألمحه في عيونهم ومناقشاتهم بعد العرض هو ما يغمرني بالسعادة.