العودة 13 عامًا إلى الوراء

وبالتحديد في أحد أيام العام 2005، ذلك العام الذي شهد محاولات آل مبارك لتمرير حكم مصر من مبارك إلى ابنه جمال، فيما عُرِفَ وقتها بمشروع التوريث الذي كان مُحاطًا بدعم قوي من الحزب الوطني وأعضائه وتوابعه وأياديه؛ أياديه التي امتدت دون مُسَاءلة لتعبث بجسد صحافية كانت تريد المرور إلى مبنى النقابة، وسط تظاهرة لأعضاء حركة كفاية اعتراضًا على التعديلات الدستورية الرامية إلى مشروع التوريث، وحينها أسرع الحزب الوطني إلى إرسال مجموعات بشرية ذات صلاحيات عبثية، لتخريب المظاهرة وتشتيت أهدافها، ولا مانع من التحرش والاعتداء على صحافية أمام أو داخل النقابة وتجريدها من ملابسها، لأن الصلاحيات الملقاة في أيديهم تتضمن كل أنواع الانتهاك والاعتداء، إذا اتفق هذا مع مصلحة الحزب الحاكم، اعتمادًا على أن الإهانة تبدأ من الجسد لا سيما إذا كان يخص سيدة، ولكبح رغبة النظام بإلقاء جحيم أفعاله في أجساد وأرواح مواطنيه.

ما بعد المشهد

الصحافية التي تلّقت صفعة أيادي نظام مبارك على جسدها هي الراحلة نوال علي، التي ماتت أكثر من مرة، أولًا عبر اعتداء جنسي، ثم تلفيق وطلاق وفصل عن العمل، ثم موت نتيجة المرض، لكنها أحيت ما كان مسكوتًا عنه عمدًا وهو الاعتداء الجنسي ضد النساء في مصر، لا سيما في المجال العام خاصةً إن كان به خيط سياسي.
حتى وقت قريب، قبل أن تتمكن بعض الدول من التخلص من هذه السياسيات، كانت أجساد النساء هي الحلقة التي يلتف حولها رهان الدولة من أجل تحقيق مكاسب أعلى كُلَّمَا تزايدت مؤشرات إهانة النساء في أجسادهن، أي أن إهانة النساء في أجسادهن هي النقطة التي يبدأ منها الموت المعنوي لأي سيدة، استنادًا إلى الموروث المجتمعي حول ارتباط الجسد بالمهانة.
ظهر هذا على السطح بشكل فج في «الأربعاء الأسود»، يوم 25 مايو من العام 2005 أمام نقابة الصحافيين؛ ذلك اليوم الذي قال فيه النظام الحاكم في وجه النقابات والمعارضة والنساء «نعم، الانتهاك يبدأ من الاعتداء على سيدة داخل نقابتها»، وهو الكيان الذي من المفترض أن يحتج على أي اعتداء يطول النساء العضوات فيه، لكن أين يحتج؟ ولمن؟ للنظام الحاكم الذي أطلق أذرعه البشرية ذات الشرر على أجساد النساء؟ أين يحتج ويَدَّعِي ويقدم شكوى ضد من اعتدوا على سيدة داخل النقابة نفسها؟
هل هذا ما قصده النظام الحاكم وقتها؟ هل كان مقصده أن يمرر رسالة إلى نقابة الصحافيين بأنها ليست ساحة للتظاهر ولا لاصطفاف المعارضة أمام رصيفها وإلا فإن العقاب هو الاعتداء على الصحافيات داخل المبنى نفسه، ولا تستطيع النقابة حينها الاحتجاج لأن سياسات الانتهاك المُسيّس لم تترك لها هذا الخيار.
تغير الزمن.. وما زالت أجساد النساء رهانًا!

لماذا يتم الزج بأجساد النساء في المعارك السياسية دائمًا؟

نوال لم تكن ضمن المتظاهرين، ولا قصدت التظاهر حينها، أرادت فقط أن تدخل النقابة، لكنها حصلت على نصيب من الاعتداء الجنسي، ربما كان هذا مُفسّرًا لما حدث في ميدان التحرير بعد هذه الواقعة بسنوات، عندما تم الاعتداء على النساء في المظاهرات بقصد إهانتهن، كانت هذه الاعتداءات تكشف عن تورط أطراف مختلفة في كل مرة، كنتيجة للثقافة التي زرعها المجتمع منذ عقود طويلة، بشأن استخدام أجساد النساء لتحقيق إهانات نفسية وجسدية، تحمل مكاسب للطرف المُنفّذ والجاني. لقد نفذت هذه السياسة زمنيًا وأيديولوجيًا إلى كل الأطراف، التي تجد في الاعتداء على أجساد النساء مكسبًا لتحقيق مساحة أوسع في المعركة.

الأربعاء الأسود.. الأربعاء الكاشف

يظل يوم «الأربعاء الأسود» الذي تحمَّلت نوال علي  قسوة تبعاته – بصحبة ثلاث زميلات لها تقدمن بشكوى بخصوص ما حدث –  يومًا كاشفًا عما ظهر فيما بعد. لقد عانت نوال من تعنت النظام ضد محاولاتها للحصول على حقها بشكل قانوني، قدمت شكوى فقام النظام بقمعها واتبع سياسة التشويه ضدها، كحلقة إضافية من حلقات الاعتداء الجنسي/ النفسي ضد النساء وتشويههن ووصمهن.

لقد طوَّقت خطة النظام وقتها رقبة نوال، ودخلت في صراع دامٍ لأربع سنوات، وتسلّمت النساء في مصر بعدها هذه الحلقة. يمثل هذا الأربعاء مرحلة فاصلة في تاريخ الإعلان عن الانتهاك المُسيّس ضد النساء بشكل علني وفج، والذي تسبب في لفت نظر النساء إلى حقيقة ما يلاقونه من عقاب جسدي وتعمُّد الاستهانة بأجسادهن من المنزل وحتى الشارع.

الأربعاء الأسود.. يوم ثابت في دورة حياة النساءّ

الانتهاك المُسيّس ضد أجساد النساء في المجال العام، كان نتيجة لموروث مجتمعي يُكرّس للاعتداء الجنسي والجسدي على النساء، يبدأ من إباحة ضرب الزوجات والفتيات والأمهات، وينتهي إلى سحل النساء في الشوارع والميادين، مارًا برحلة مكتظة بالآلام تتعرض خلالها كل سيدة في مصر لنوع واحد على الأقل من أنواع الانتهاك الجسدي، بدءًا من المنزل ثم الشارع ثم الأقسام وأمام النقابات ومساحات العمل، تحرش أوضرب أواغتصاب، أو مساومات على الأمان الجسدي في مقابل تنازلات سياسية، أمومية، وغيرها.
تاريخ النساء في مصر مع المساومة على أمان الجسد مليء بصفحات من الألم. كلنا سمعنا عن إجبار فنانات على زيجات لم يرغبن فيها، أو تلفيق قضايا تَمَسُّ الجسد لوصمهن انتقامًا منهن، أو جعل الشارع ساحة تحرش وانتهاك جنسي للنساء، أو معاقبتهن في المظاهرات بالانتهاك والاعتداء الجنسي وتعريتهن وكأن إهانة جسد المرأة هي أسرع عقاب ومأمونة العواقب، لأن الصورة الذهنية العامة تشيع تصورًا بأن التي تتعرض للانتهاك لن تقوى مرة أخرى على المواجهة أو بمعنى آخر «نكسر عينها»، لكن وعي النساء في مصر لم يسمح بمرور هذا التصور إلى قلوبهن.

لم تخف نوال وواجهت النظام، ولم تخف البنات في التحرير وخرجن على الملأ ليُعلن أن عصر الاستخفاف بانتهاك النساء ولّى ولن يعود، ربما ستستمر الانتهاكات ضد النساء في كل مكان لمزيد من الوقت، لكن النساء لا يتركن فرصة في صد هذه الانتهاكات. لن تكون المعركة محسومة الآن، لكن مقاومة النساء في مصر بدأت منذ زمن، وبدأت بوعي، وكل ما يبدأ بوعي ينتهي بوعي.

**هذا المنشور ضمن سلسلة منشورات حملة «من 19 لـ19» التي تطلقها رابطة المجموعات النسوية في مصر