المفترض أن تحقق التغطية الصحافية لوقائع العنف ضد النساء مجموعة من الأهداف، كشحذ  أذهان القراء لإعادة النظر في تعاملهم مع هذه الوقائع بما يصب في اتجاه تغيير الثقافة المتقبلة للعنف ضد المرأة، إلى جانب خلق عملية استقطاب لصناع القرار بغية دعم الناجيات من العنف من خلال إجراءات قانونية وتدابير وقائية. لكن هذا يظل مجرد تطلعات نظرية إذا ما لم تلتزم التغطية الصحافية بمعايير ومبادئ تضمن حقوق الناجيات في الخصوصية والسلامة والأمن والحماية، وإن لم تتخلص التغطية من نقل الحدث من الزاوية الذكورية المرضية للمجتمع، إعمالًا لمبدأ “قدم للجمهور ما يريد وليس ما يحتاج”. وللاَسف فإن الالتزام بهذه المبادئ الجوهرية  قلما يظهر في التناول الإخباري  لحوادث العنف ضد النساء، مما يجعل التغطية الصحافية موضع انتقاد شديد من جانب المدافعات والمدافعين عن حقوق النساء والناجيات من العنف أنفسهن.

يحدث ذلك على الرغم من أن المبادئ الإرشادية والتدريبات على تغطية إعلامية اَمنة ومهنية فيما يتعلق بوقائع العنف الجنسي، أضحت متاحة بشكل أوسع من ذي قبل خاصةً في ظل توفر كتيبات إلكترونية تحتوي على هذه المعلومات. ومع ذلك فإن التغيير في الشكل العام لهذا النوع من التغطيات على الأقل في مصر يظل محدودًا وبطيئًا وعادةً ما يقتصر على منصات إعلامية معلومة بتوجهاتها الحقوقية والنسوية.

بمراجعة التناول الإخباري لعدد من وقائع العنف ضد النساء في مصر خاصةً المتعلقة بالعنف الجنسي، يمكن استجلاء سقوط الكثير من العاملين بالمجال الإعلامي في هوة مخالفة معايير التغطية الاَمنة فيما أشبه بنهج مُتبع ومُتفق على الامتثال إليه.

التسييس نهجًا

يسترعي الانتباه أن شيئًا كتسييس وقائع العنف الجنسي يظل عصيًا على التحجيم وقد رافق التغطية الإعلامية لكثير من هذه الوقائع، وإن كانت بالفعل بعض حوادث الاعتداء الجنسي التي طالت النساء كانت مدفوعة بأغراض سياسية كما هو الحال في وقائع الأربعاء الأسود (25 مايو من العام 2005) التي ارتُكبت بحق عدد من الصحافيات والناشطات من قبل رجالات تابعين للحزب الحاكم حينذاك أثناء مشاركتهن في الاحتجاجات المناهضة للاستفتاء على تعديلات دستور 1971، وقد جاءت هذه الاعتداءات بهدف إرهاب المنتميات إلى التيار المعارض بكل أطيافه، لكن الإعلام لم ينظر إلى انتهاك أجساد النساء بقدر ما نظر إلى الحرب السياسية بين الطرفين وصار التناول الإعلامي إما يدافع عن النظام ويتهم النساء أنفسهن بإشاعة أكاذيب ومزاعم في إطار تنفيذ أجندة أجنبية، أو يهاجم النظام متهمًا إياه باستخدام التحرش الجنسي لكسر شوكة المعارضة، لتصبح أجساد النساء سلاحًا بين متنازعين وفّر الإعلام لهما ساحة للتعارك دون أي اعتبار لسلامة الناجيات النفسية أو خصوصيتهن بل على العكس فقد أخلت أغلب القنوات الإعلامية بكل هذا.

الصحافية نوال علي – إحدى الناجيات من وقائع العنف الجنسي – الأربعاء الأسود

لم يتوقف دور الإعلام عند حد إفساح المجال لتنازع أطراف سياسية بشأن وقائع العنف الجنسي، بل تعمد تسييس وقائع تحرش فردية لإشاعة تصور عام أن مثل هذه الحوادث مُختلَقة لتشويه سمعة البلاد، ويمكن الاستدلال على ذلك بما صاحب واقعة التحرش الجنسي بمخرجة الأفلام الوثائقية نهى رشدي في يونيو من العام 2008 التي اتهمها كُتّاب مقالات في الصحف واَخرون عبر الشاشات التلفزيونية بحمل جواز سفر إسرائيلي زاعمين أنها نسجت تفاصيل هذه الواقعة، في محاولة لوضع جمهور القراء والمشاهدين أمام مؤامرة تقودها أجهزة استخباراتية للنيل من سمعة مصر وكأن التحرش أمر غريب على المجتمع، وهو ما يتنافى مع ما أبانته دراسة للمركز المصري لحقوق المرأة صدرت في العام 2008 (قبل الحادثة بنحو سنة) عن أن 83 من النساء في مصر يتعرضن لشكل من أشكال التحرش الجنسي، وتعاني نحو 46 في المئة من هؤلاء من التحرش بشكل يومي.

مع زيادة وقائع الاعتداء الجنسي الجماعي أو بالأحرى الإرهاب الجنسي عقب ثورة 2011، تصاعدت الاتهامات الموجهة إلى الأطراف السياسية شتى باستخدام سلاح العنف الجنسي  وكان الإعلام أرضًا خصبة لاستغلال هذه الوقائع سياسيًا وتوظيفها لصالح الهجوم على الفصائل السياسية بمختلف توجهاتها، فتحولت أداة إدانة المتحرش (سواء كان فردًا أو تيارًا) إلى وسيلة لدفع الاتهام عنه ومن ثم الإفلات من العقوبة بدعوى وجود مؤامرة ضده.

أخذ التسييس منحًا اَخر بعد أن لاقت حملة #MeToo التي انطلقت في أكتوبر من العام 2017، أصداء واسعة في المنطقة العربية وتحديدًا مصر، فبعد أن فتحت الحملة الباب أمام كثيرات لسرد وقائع التحرش الجنسي التي تعرضن لها، زادت حدة التخوف لدى مرتكبي العنف من انفضاح جرائمهن خاصةً أن كثيرًا منهم كان على أمل أن تحميه للنهاية سلطته سواء كانت أسرية أو مهنية، إلا أن الحكي ومشاركة التجارب فيما أشبه بصرخة موحدة ضد العنف الجنسي أودى بهذه الاَمال.

وبالنظر إلى واقعتي التحرش الجنسي المتعلقتين بالصحافية مي الشامي والعاملات بمؤسسة دويتشه فيله الألمانية، وقد تناولهما الإعلام المصري بكثافة خلال الشهر الجاري، يبرز تسييسهما منذ اللحظة الأولى بعد أن أصبحت موالاة النظام ومعارضته محورًا رئيسًا في بناء الأخبار، لتصبح النساء اللاتي اتخذن إجراءات لمعاقبة المتحرش واسترداد حقوقهن محل اتهام بأنهن مدفوعات من جهات وأجهزة أو تيار سياسي بأكمله حتى ينشرن افتراءات للنيل من سمعة المدعى عليهم، واللافت أيضًا أن السواد الأعظم من التغطيات الإخبارية للواقعتين لم يعني بقراءتهما في سياق الواقع والأرقام التي تكشف تفشي ظاهرة التحرش الجنسي في أماكن العمل وغياب الحماية القانونية للنساء وانعكاسات ذلك في إيثار الصمت لدى الناجيات سواء داخل مصر أو خارجها، وأحدثها ما جاء في تقرير البنك الدولي الذي صدر خلال العام الجاري (2018) ضمن سلسلة تقاريره عن المرأة وأنشطة الأعمال والقانون، ويفيد بأن المرأة لا تحظى بحماية قانونية من التحرش الجنسي في أماكن العمل في 59 بلدًا، وتعاني النساء من نقص هذه الحماية في 70 في المئة من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

الملابس سببًا

في أغلب المتابعات الإخبارية لوقائع التحرش الجنسي، ستلتقط عيون القراء جملة توصف ملابس الناجية وكأن المحرر أو المراسل ملتزم بتقديم مبررات للمتحرش وللفعل نفسه، فعلى سبيل المثال يبدأ الخبر المنشور بتاريخ 31  مارس من العام 2017 على موقع اليوم السابع عن واقعة التحرش الجماعي بفتاة في مدينة الزقازيق في محافظة الشرقية، بجملة: تداول رواد موقع التواصل الاجتماعى “فيس بوك” فيديو لفتاة حى القومية بمدينة الزقازيق بالشرقية، والتى تعرضت لتحرش جماعى أثناء سيرها فى أحد الشوارع، وهى ترتدى فستانا قصيرًا.

وفي مستهل خبر منشور بتاريخ 26 نوفمبر من العام 2016 في موقع جريدة المصري اليوم، تأتي جملة: أثارت فتاة بكلية الحقوق جامعة القاهرة، والتي تعرضت لواقعة تحرش العام الماضي، حالة من الهرج والمرج داخل الحرم الجامعي، بسبب ارتدائها «ملابس مثيرة».

في هذه النماذج يقدم الخبر الملابس باعتبارها مسوّغًا لارتكاب جريمة التحرش الجنسي بحق الأنثى، ويصدر الصحافي أحكامه في إطار القناعة الذكورية بأن التحرش مسؤولية مشتركة إن لم يكن مسؤولية المرأة بالكامل. علاوة على ذلك فإن كاتب الخبر عادة ما يضع توصيف الملابس التي كانت ترتديها الناجية وقت تعرضها للتحرش في السطور الأولى، وكأنه قرر أن إجابة سؤال «لماذا؟» في أخبار جرائم التحرش تتمثل في تحديد شكل وطول ملابس الناجية.

وسؤال لماذا؟ هو واحد من الأسئلة الخمسة (من ومتى وأين وماذا ولماذا؟) التي من المفترض أن يجيب عنها الخبر الصحافي وتسمى بالإنجليزية 5Ws.

إثارة الجدل هدفًا

تؤكد الكثير من التغطيات والمتابعات الإخبارية لوقائع التحرش الجنسي أن الخصوصية والسلامة النفسية للناجيات ليست على أجندة غالبية الصحافيين، وإذا ما نظرنا إلى حادثة التحرش الجنسي التي وقعت في منطقة  التجمع الخامس خلال الشهر الماضي (أغسطس 2018) وذاعت أخبارها، سنجد أن جانبًا من المواقع الإخبارية اختار أن تكون الصورة الرئيسية للمواد المنشورة واحدة من الصور الشخصية للناجية على حسابها الشخصي على موقع فيسبوك، وقد خول الصحافيون لأنفسهم الحق في انتهاك خصوصيتها ونشر صورها دون أذن منها بذلك.

أما الانتهاك الأبرز لخصوصية الناجيات فقد تعرضت له سمية عبيد التي عُرِفت باسم «فتاة المول» إثر تعرضها للتحرش والاعتداء الجسدي داخل أحد المولات في القاهرة في شهر أكتوبر من العام 2015، وكانت مقدمة برنامج صبايا الخير الذي كان يعرض اّنئذ على شاشة النهار الفضائية قد نشرت في إحدى حلقات البرنامج صورًا شخصية للناجية بهدف إثارة الرأي العام ضدها وضد قضيتها.

ضمان السلامة النفسية للناجيات لا يتوقف عند نص الخبر وإنما يمتد إلى تعليقات القراء عليه سواء على الموقع المنشور فيه الخبر أو على منشور الخبر على الصفحات الاجتماعية للموقع، وعلى الرغم من أن جل المواقع لديها إدارة لمراجعة التعليقات سواء على المواقع نفسها أو على الصفحات الاجتماعية الخاصة بها، فإنها لا تكترث لضرورة حذف التعليقات المسيئة للناجيات.

الأسوأ من ذلك هو استغلال الواقعة في إجراء استطلاعات رأي على الصفحات الاجتماعية لهذه المواقع، وقد تكون هذه الأسئلة من عينة «هل ترى أن ما حدث لــ(…) تحرش أم لا؟» بما يجعل حق الناجية موضع تأييد أو معارضة بينما المفترض أن يكون مقطوعًا به، وأحيانًا يكون السؤال المطروح للتصويت «هل تعتقد أن ملابس الفتاة هي السبب في التحرش؟»، بينما الإعلام منوط بدحر هذا السؤال من الأساس.

التضليل عمدًا

كانت الواقعة الخاصة بنهى رشدي الأولى التي تتناولها جل الصحف والمواقع الإخبارية وحتى البرامج التلفزيونية مستخدمة وصف التحرش الجنسي بدلًا من المعاكسة، وبعد ثورة 2011  أضحى مصطلح التحرش دارجًا في التغطيات الصحافية لوقائعه إبان الاحتجاجات في ميدان التحرير وحتى في تلك التي تعرض لها الإعلام خلال الأعياد، وبعد إصدار تعديلات قانون العقوبات فيما عُرف إعلاميًا بقانون التحرش الجنسي في يونيو من العام 2014، لم تعد كلمة المعاكسة تتصدر الأخبار إلا فيما ندر.

لكن البعض يريد البعض العودة بنا إلى نقطة الصفر، فيقرر بين الحين والاَخر الرجوع إلى استخدام مصطلح «المعاكسة» في تغطية ومتابعة وقائع التحرش، كما هو الحال في واقعة مقتل رجل على خلفية تصديه لاَخرين تحرشوا بزوجته على شاطئ الإسكندرية خلال عيد الأضحى الماضي، وقد برزت كلمة معاكسة في عناوين الأخبار المنشورة عن الواقعة في عدد من المواقع الإخبارية، وهو ما يطرح سؤالًا بشأن السبب وراء عودة البعض إلى استخدام لفظ يضفي صبغة تصالح مع الفعل بعد حرب طويلة خاضتها المؤسسات والمجموعات النسوية من أجل تسمية الجرم باسمه بوضوح ودون مواربة؟

أما السؤال الأهم الذي لا بد أن يسأله لنفسه كل شخص كتب وما زال إلى منصات إعلامية عن وقائع العنف الجنسي بحق النساء سواء كان ناقلًا أو محللًا: كم من مرة كان ما كتبته سببًا في إثناء ناجيات من العنف عن الحديث عن تجاربهن والإفصاح عما مررن به خوفًا من أن أكتب عنهن وكأننى أسطر محضر ضبط وإحضار؟