تغيير الثقافة المجتمعية وتعديل القانون، هما محور الحديث عن سبل مواجهة وتحجيم التحرش الجنسي، في كل وقت وربما في كل مكان. لكن الأمرين يعطلهما أشياء عديدة، فعلى صعيد المزاج المجتمعي يبدو الأفراد والمؤسسات على اختلافها متقبلين للتحرش وإن كانوا يخرجون إلى العلن بكلام يجافي هذه الحقيقة. فالتحرش الجنسي أحد نتاجات القهر الواقع على المرأة، في ظل قناعات ذكورية متغلغلة في البناء الثقافي تعتقد في أن المرأة مسؤولة بدرجة ما عن الفعل. أما على صعيد القانون، فإن الخوض في إشكالياته والرغبة في تعديل بنوده والإضافة إليه هو أمر يأخذ أيامًا وشهورًا وأحيانًا سنوات، فضلًا عن أزمة إنفاذ القوانين وما يعتريها من معوقات قد تطيح بأي منجز يقره القانون على الأوراق، وهي المشكلة الأبرز في بلد مثل مصر حيث تظل الانجازات التشريعية التي تتحقق للنساء، معلقة في الهواء في انتظار إجراءات تنفيذية منصفة وناجعة.

وفي محاولة لشق طريق جديد في مواجهة هذا النوع من الجرائم، الذي تتعرض له النساء في شتى بقاع العالم بدرجات متفاوتة، اتخذت بعض الدول إجراءات عقابية سريعة وناجزة بما يعالج القصور الذي قد يظهر في عملية إنفاذ القانون والتقاضي، ومن ناحية أخرى يساهم على المدى البعيد في ترسيخ ثقافة غير متقبلة للتحرش الجنسي.

هذه الإجراءات تتمثل في فرض غرامات فورية على المتحرش في الشارع، وهو ما أقدمت عليه الأرجنتين والبرتغال ولحقت بهما في أغسطس الماضي فرنسا. وكانت الأرجنتين قد أقرت هذه العقوبات في العام 2014، بغرامات تصل إلى ما يعادل 775 دولار أمريكي، وقد اتبع المشرع في صياغة القانون نهجًا يسهل على النساء الإبلاغ وييسر معاقبة المتحرش وفي الوقت ذاته يدعم تغيير الثقافة، وهذا من خلال الجمع بين الغرامات والخدمات العامة التي تقرها المحكمة، فضلًا عن إلزام الوزارات المعنية بالصحة والتعليم والنقل بتنظيم حملات توعوية لمناهضة التحرش الجنسي في الشوارع والمواصلات.

من ناحية أخرى، فقد قرر مسؤولون بوزارة الداخلية في فنلندا تمكين ضباط الشرطة من فرض غرامات فورية على المتحرشين في الشوارع، وذلك استنادًا لاستنتاج تولد لديهم يرجح  سهولة إثبات الواقعة في حال حدوثها في الشارع، بما لا يستدعي انتظار تحقيقات مطولة ومعقدة، خاصة إن كان الضابط قد راَها بالفعل.

في فرنسا كان انتشار مقطع مصور يوثق لحظة اعتداء متحرش بالضرب على فتاة تحرش بها في يوليو الماضي، هو السبب في حالة غضب واسعة سيطرت على الشبكات الاجتماعية، مما دفع مارلين شيبا وزيرة الدولة للمساواة بين الجنسين في فرنسا، إلى الإعلان عن بدء تطبيق الغرامات الفورية في جرائم التحرش الجنسي في الشارع هذا الخريف.

وبالفعل ألزمت الشرطة رجلًا فرنسيًا في سبتمبر الماضي، بدفع غرامة مالية قيمتها 300 يورو، تطبيقًا للقانون الجديد على خلفية تحرشه اللفظي وضربه لامرأة على مؤخرتها في حافلة قرب العاصمة باريس، ليصبح أول متحرش هناك يواجه هذه العقوبة.

وكانت الوزيرة الفرنسية قد أعلنت في مؤتمر صحافي في مارس الماضي عن أن الدولة تدرس تطبيق الغرامات الفورية في وقائع التحرش الجنسي خاصة في الشوارع والمواصلات، على أن تتراوح قيمتها المادية بين 90 إلى 750 يورو، كما أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن هذه العقوبات تهدف إلى ضمان شعور النساء بالأمان وعدم الخوف من الخروج إلى الشوارع.

يعتقد البعض أن هذه العقوبات ستُحدِث أثرًا على المدى البعيد، وستحد من التحرش الجنسي في الشوارع والمواصلات العامة، ولذلك خرجت مؤخرًا مطالبات من بعض النشطاء لتطبيق الغرامات الفورية على المتحرشين داخل مؤسسات العمل، سواء كانت بالخصم المباشر من أجورهم  أو إيقاف رواتبهم لعدة أشهر.

هذا الجدل الدائر يفرض علينا طرح سؤال لم يثيره الإعلام أو الجمعيات الأهلية في مصر حتى الاَن، بشأن ما إن كان المضي قدمًا بهذا الاتجاه سيساهم في الحد من تفشي الظاهرة في بلد تعاني فيه نحو 99.3 بالمئة من النساء من التحرش الجنسي بمختلف أشكاله، بحسب نتائج دراسة نشرتها الأمم المتحدة  في إبريل من العام 2013،  ولم تشهد الظاهرة المتفشية تراجعًا «موثقًا» حتى بعد تعديل قانون العقوبات المصري في يونيو من العام 2014، عندما أصدر الرئيس السابق عدلي منصور قرارًا بقانون يقضي بتعديل بعض أحكام مواد قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937، ليدخل مصطلح «التحرش الجنسي» لأول مرة في نصوص القوانين المصرية كجريمة تستوجب العقاب.

صورة أرشيفية

المحامي رضا الدنبوقي  مدير مركز المرأة للإرشاد القانوني، يقول إن مثل هذه الحلول قد تكون فعالة في الحد من ظاهرة العنف الجنسي ضد النساء، بالنظر إلى أن تغليظ العقوبة في المادة 306 أ مكرر من قانون العقوبات والمتعلقة بجريمة التحرش الجنسي، لم يحقق نتائج محسوسة في مجال مكافحة الظاهرة التي ما زالت تسجل نسبًا مرتفعة.

وتنص المادة 306 أ مكرر من قانون العقوبات على «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من تعرض للغير فى مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية، سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأى وسيلة بما فى ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية. وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا تكرر الفعل من الجاني من خلال الملاحقة والتتبع للمجني عليه. “وفي حالة العودة تُضاعف عقوبتا الحبس والغرامة في حديهما الأدنى والأقصى.»

وفي هذا الصدد، يستشهد الدنبوقي  بواقعة التحرش التي رصدها شخص ما بعدسة هاتفه النقّال ونشرها عبر موقع فيسبوك، حيث يظهر بالمقطع المصور شاب يتحرش جسديًا بالنساء  في الشارع أثناء انتظارهن واستقلالهن لإحدى وسائل لمواصلات العامة، ويضيف الدنبوقي «ولذلك فإن تطبيق الغرامة الفورية على المتحرش، في حالة واضحة مثل هذه سيكون رادعًا.»

ويشبه الدنبوقي الغرامة الفورية كعقاب على التحرش الجنسي، بإرشادات مترو الأنفاق والتعليمات الخاصة بالمرور وكذلك لافتات منع التدخين في أماكن معينة،  لافتًا إلى أن هذه الأمور كلها ساهمت في مواجهة ظواهر سلبية في المجتمع، ومن ثم فإن هذه الغرامة وإن لم تقض على الظاهرة من جذورها، فإنه ستجعل الفرد واعيًا تمامًا بأن  هذه الممارسات مجرمة وممنوعة، وسيخشى ارتكابها.

ويتابع الدنبوقي قائلًا إن هذا المسار – فرض الغرامة الفورية – لابد أن يتوازى معه مسار توعوي من جانب الدولة، التي تضع على أجندتها التوعية بالتحرش الجنسي وأضراره ليست المعنوية فقط بل والنفسية أيضًا، مشددًا على أن هذه التوعية يجب أن تكون في المراحل الأولى من تلقي الأطفال للتعليم المدرسي، ليتشكل لديهم الوعي بالقضايا الجندرية والمساواة بين الإناث والذكور إلى جانب ترسيخ قيم المواطنة والتعايش.

ثمة تخوفات بالتأكيد ستصاحب هذا الطرح، خاصة في ظل تشكك بشأن إمكانية توقيف المتحرشين وتوقيع هذه الغرامات عليهم، وهو ما لا ينفيه الدنبوقي لكنه في الوقت نفسه يؤكد أن حركات الرصد وانتشار الكاميرات ستساهم في إثبات الوقائع.

على الجانب الاَخر، تقول المحامية جواهر الطاهر، العضوة بمؤسسة قضايا المرأة المصرية إن الأولى هو تفعيل اَليات تطبيق العقوبة الخاصة بالتحرش الجنسي المقررة في قانون العقوبات، إذ ترى أن الغرامة الفورية لن تكون كافية ورادعة، خاصة إن كان المبلغ زهيدًا حسب قولها. وتؤكد أن حبس المتحرشين أمر حتمي وأقوى في أثره من الغرامات المالية، حيث تُدرَج العقوبة في سجل المتحرش الجنائي ومن ثم تشكل وصمة عار له.

علاوة على ذلك، ترى الطاهر أن فرض غرامات فورية على المتحرشين أمر غير قابل للتنفيذ في مصر، خاصة في ضوء عدم توافر كاميرات كافية للمراقبة في الأماكن العامة ومع انتشار وتفشي الفساد في جميع القطاعات حسب قولها.

وعن إمكانية أن يدفع هذا النوع من العقوبات الفورية في تقليص القبول المجتمعي للتحرش، تعتقد الطاهر أن تغيير الثقافة  المجتمعية يستغرق وقتًا طويلًا ويكون من  خلال آليات مختلفة، مشيرةً إلى أن قطاعات واسعة ما زالت حتى الاَن لا تعلم بوجود مواد في القانون المصري تجرم التحرش الجنسي.