صدر العدد الخامس من مجلة «الأدب والفن» والأول في سنة الصدور الثانية، بتاريخ 1 يناير من العام 1944، وهي مجلة فصلية كانت تنشر مقالات متخصصة في الأدب والشعر والفن والعمارة باللغة العربية، وتصدرها واحدة من أعرق دور النشر في انجلترا وهي «هودر وستوكتون»، وترتكز في محتواها على المقالات التي يرسلها القراء أو الكتاب العرب عبر البريد. ويضم هذا العدد بين مقالاته، مقالًا للصحافية والناشطة النسوية الدكتورة درية شفيق عنونتها بــــ «مذهب الفن للفن لدى القدماء المصريين».

ونشرت شفيق المقال قبل أن تتولى رئاسة تحرير مجلة «المرأة الجديدة – La Femme Nouvelle » التي كانت تصدر باللغة الفرنسية عن جمعية بالاسم نفسه، تحت رعاية الأميرة شويكار (الزوجة الأولى للملك فؤاد)، وتأتي المقالة أيضًا قبل إصدار شفيق لمجلة «بنت النيل» التي صدر عددها الأول في نوفمبر من العام 1945.

وبمطالعة المقال يتبين غلبة الأسلوب الأكاديمي في كتابة المقال الذي وصفته شفيق نفسها في المتن بــ «البحث الموجز»، ومن خلاله تفند مزاعم بعض العلماء التي تروج إلى أن الفن المصري القديم كان نفعيًا يرمي إلى تحقيق منفعة دينية ليس إلا خلال جميع مراحل تطوره.

اللافت في المقال أنه يبرز تشعب اهتمامات درية شفيق، فكما انشغلت بالشأن النسوي وأضحت في مقدمة المدافعات عن حقوق النساء، وخاضت غمار السياسة مطالبةً بتطبيق مبادئ الديمقراطية، يكشف المقال اهتمامها بالإطلاع على الدراسات الفنية والتاريخية وتقديم رؤية نقدية لها.

درية شفيق

نص المقال:

قد يبدو لأول وهلة من المتناقضات أن نحاول تطبيق مذهب الفن للفن على الفن المصري القديم، إذ كيف نحاول تطبيق مذهب من أحدث المذاهب الفنية على فن عفت اَثاره منذ اَلاف السنين؟

على أنه بإعمال العقل يتضح أن هذه المحاولة ليست من المستحيلات، فأسس التفكير البشري، رغم تباعد العهود واختلاف المظهر الخارجي، يمكن القول بأنها ثابتة لم يعتورها تطور كبير. فمن المتصور إذن أن يصل العقل البشري منذ اَلاف السنين إلى نفس النتائج التي نعتبرها من أحدث ما وصل إليه التفكير الإنساني الحديث. بل إنه  ليس من الضروري لكي يقال بأن الفن المصري القديم قد أخذ في بعض مظاهره بمذهب «الفن للفن» أن نثبت أن الفنانيين المصريين قد قصدوا الأخذ بأحكام هذا المذهب.

ففي المجال الفني قد يجري الفنان المطبوع على أحكام مذهب من المذاهب الفنية دون أن ينصرف ذهنه، إلى تطبيق هذه الأحكام.

وقد نشأ مذهب «الفن للفن » في مبدأ الأمر في مجال الفن الأدبي فنادى به بودلير وفلوبير وليوكنت دي ليل، إلخ … ثم امتد  تطبيقه إلى بقية الفنون. ومجمل هذا المذهب أن يكون للفن قيمة مطلقة  في ذاته بغض النظر عن أي باعث نفعي  وبذلك يكون الفن وحدة مطلقة توجد لذاتها.

ولقد اتهم فن قدماء المصريين دائمًا بأنه استند في كل مراحل تطوره إلى منفعة معينة، قصد أصحاب هذا الفن تحقيقها من ورائه  بمعنى أن الفن المصري القديم لم يكن مقصودًا في ذاته بل كان معتبرًا مجرد وسيلة لتحقيق منفعة معينة.

وسنحاول في هذا البحث الموجز أن نتبين أن الفن المصري القديم قد وصل في بعض مراحل تطوره الطويل، وعلى الخصوص في المراحل الأخيرة  لهذا التطور، أن يكون فنًا مجردًا عن أي باعث من بواعث النفعة الدينية أو غيرها، وبذلك كانت له قيمة مطلقة في ذاته  – وسنتعرض في بحثنا لموضوعين: أثر الباعث الديني في الفن المصري القديم  والريالزم Realisme  في هذا الفن.

أثر الباعث الديني في فن قدماء المصريين:

يرى العلامة جورج ماسبيرو أن الفن المصري القديم كان فنًا نفعيًا محضًا  بمعنى أنه لم يكن مقصودًا لذاته بل كان الغرض منه تحقيق بعض المنافع الدينية، فقدماء المصريين  لم يشغل بالهم مطلقًا  بحسب رأي ماسبيرو الوصول إلى الجمال le beau بالمعني  الاستيتيكي الحديث،  فلم يكن للفن ذاته أي قيمة بالنسبة إليهم فيما عدا كونه وسيلة تسخر لخدمة الديانة وتحقيق منفعة معينة.

وفي هذا المجال يقول ماسبيرو:  «»لم يحاول الفن المصري أن يخلق أو أن يصل  إلى الجمال le beau ، لذاته، بل كان هذا الفن إحدى الوسائل التي استخدمتها الديانة بفكرة ضمان حياة أبدية سعيدة لسكان هذا العالم.»

وبذلك فقد الجمال من قيمته المطلقة وأصبح دوره ثانويًا بالنسبة للغرض الرئيسي؟، ونفعية الفن المصري القديم تشمل بحسب هذا الرأي أشكاله المختلفة وهي العمارة والنحت والرسم.

ويدعم الأستاذ ماسبيرو رأيه بالاستناد إلى الفكرة التي كانت تسود الديانة المصرية القديمة فيما يتعلق بالروح وعلاقتها بالجسد فيقول «إن الرسوم  التي كانت تنحت على الجدران والتماثيل  كان الغرض منها مجرد أن تكون مأوى لا يعتريه البلى لأرواح الاَلهة والأموات.»

ولكي يستوفي تمثال معين الشروط التي تستلزمها الفكرة السابقة كان من الضروري أن يكون مطابقًا لأقصى حد للأصل الذي يجب أن يحل محله. ومن هنا وجد ريالزم فن النحت المصري القديم كما سنرى بالتفصيل.

ففكرة المنفعة الدينية أدت بحسب رأي ماسبيرو إلى تعطيل تطور  وإزدهار فن النحت المصري القديم، لأنها أدت إلى وضع قواعد ضيقة لهذا الفن حدت كثيرًا من حرية تصرف المثّالين المصريين.

ونعتقد أن الرأي السابق ليس صحيحًا على إطلاقه، ففكرة المنفعة إن كانت قد ضيقت من حدود فن النحت المصري القديم، فإن تأثيرها  لم يشمل مضمون هذا الفن فالقواعد المحددة التي وضعتها الديانة لفن النحت قد حدت بلا شك من نطاق نشاطه، ولكننا نعتقد  أنها لم تؤثر  في قيمته المطلقة لأن هذه  القيمة ترجع إلى عبقرية المثّال نفسه. وهذه العبقرية تبدو حتمًا أيًا أن كانت القيود التي تحد من حرية الفنان في التصرف.

بل ويرى ماسبيرو أن أثر الباعث الديني كان أكثر ظهورًا  في فن الرسم عنه في فن النحت. فالسعي وراء المنفعة الدينية أدى بحسب  رأيه إلى إيقاف تطور وتقدم فن الرسم المصري القديم إيقافًا تامًا. ويستند هذا الرأي إلى أن فن الرسم كانت له أهمية كبيرة في العصور الأولى من التاريخ المصري القديم، ثم اضمحل شأنه منذ بدء الامبراطورية القديمة ويرجع ذلك إلى وصول العقائد الدينية السابق بيانها إلى أوجها  في بدء الامبراطورية القديمة مما أدى إلى ازدهار فن النحت واضمحلال فن  الرسم، نظرًا لأن التماثيل أكثر تحملًا  لمر الزمان من الرسوم وبالتالي تكون أكثر تحقيقًا  للمنفعة الدينية التي قصدها  قدماء المصريين من فنهم.

ونعتقد أن هذا الرأي أيضًا ليس صحيحًا على إطلاقه  ويكفي لإثبات ذلك أن نشاهد بعض الرسوم الثابت نسبتها إلى الامبراطوية الوسطى (كرسوم ونقوش بني حسن مثلًا)، فالوسائل التي لجأ إليها بعض الرساميين المصريين فيما يتعلق ببيان الضوء وبالتظليل إلخ، تبين بجلاء أنهم قد استطاعوا التحرر إلى حد بعيد من القواعد التقليدية الضيقة.

فالخلاصة أننا نوافق جورج  ماسبيرو على رأيه فيما يتعلق بأثر الباعث الديني في الفن  المصري القديم  في بدء تطوره. فمن المؤكد أن فن النحت المصري قد تأثر في بدء نشأته بفكرة المنفعة الدينية التي قصدها قدماء المصريين من وراء هذا الفن،  وهي أن تكون  تماثيلهم مأوى لروح الميت بعد وفاته مما جعل  لتماثيلهم صبغة خاصة. ومن المؤكد أيضًا أن أثر هذا الباعث الديني  قد امتد إلى فن العمارة  والرسم إلخ.

إنما نخالف رأي هذا الكاتب عندما يقرر أن نفعية الفن المصري القديم قد استمرت بصفة مطلقة طوال مراحل تطوره.  فنحن نعتقد أن الفن المصري القديم، وقد كان فنًا نفعيًا  في بدء نشأته، استطاع في بعض مراحل تطوره وخصوصًا في المراحل الأخيرة لهذا التطور أن يتخطى الحدود الضيقة التي كانت تحد من نطاق نشاطه تبعًا لتأثير الباعث الديني.

وبالتالي توصل هذا الفن إلى أن تكون له قيمة مطلقة في ذاته بغض النظر عن أي باعث نفعي.

الريالزم Realisme في الفن المصري القديم:

لم يكن الغرض الذي يرمي إليه الفن المصري القديم من إيجاد أكبر شبه ممكن بين الصورة والأصل البشري  غرضًا فنيًا محضًا  كما هو الحال بالنسبة للفن الحديث، بل غرضا دينيًا.

فلقد كان قدماء المصريين يعتقدون بالبعث أو بمعنى أصح استمرار الحياة بعد الموت. إنما كان الشرط الأساسي لذلك هو أن يبقى جسد الميت سليمًا حتى تستطيع الروح KA  أن تتقمصه مرة أخرى.  وكان من الضروري لإمكان هذا التقمص  أن تتعرف الروح على الجسد ولم يكن هذا متعذرًا عليها لصلتها  الوثيقة به  طوال حياتها الدنيوية.

إنما رغم كل الاحتياطات التي كانت تتخذ للاحتفاظ بالمومياء سليمة أطول مدة ممكنة، كان من المتصور أن يصيبها عارض يؤدي إلى تلفها وبالتالي إلى عدم استطاعتها القيام بالدور المنتظر منها. فاحتياطيًا لمثل هذه العوارض وضمانًا لراحة الميت الأبدية فكر قدماء المصريين في وضع تماثيل وصور تطابق شكل الميت بجانب المومياء.  فإذا ما عادت الروح فوجدت المومياء قد هلكت، استطاعت أن تتقمص أحد هذه التماثيل أو الصور. ولإمكان  هذا التقمص كانوا يلجأون إلى تعاويذ سحرية تحفر على جدران القبر والتابوت يمكن بواسطتها أن تبعث الحياة إلى التمثال الصخري عندما تتقمصه الروح.

إنما حتى لا تخطئ الروح فتتقمص تمثال شخص اَخر غير الميت، كان من الضروري أن تتميز تماثيل الميت بمميز يميزها عن غيرها.  هذا المميز كان  الشبه التام بين التمثال وأصله البشري، وذلك كان أحسن وصف  يوصف به تمثال لديهم هو شبهه التام بصاحبه.

فريالزم الفن المصري القديم يرجع أصلًا  بلا شك إلى نفعية دينية. ولكن هذا الريالزم أدى بفن النحت المصري إلى نتائج تبعث حقًا على الدهشة لا يمكن تفسيرها إلا بأن الفنانين المصريين قد أهملوا -وقت انشاء روائع الفن التي تركوها لنا – الغرض الديني الذي كانوا يرمون إليه. فمن يشاهد  بعض تحف فن النحت المصري كتمثال شيخ البلد  بمتحف القاهرة أو تمثال الكاتب الجالس القرفصاء بمتحف اللوفر لا يستطيع إلا القول بأن الفنان الذي أنشأ مثل هذه البدائع كان فنانًا مطبوعًا ومن الظلم أن يتهم مثل هؤلاء الفنانين بأنهم لم يقصدوا  إلا تحقيق غرض نفعي دون تفكير في الفن للفن ذاته.

بل ويمكن أن ندعم رأينا  بأن الفن المصري القديم قد أخذ في بعض مظاهره  بمذهب الفن للفن ببيان أن قدماء المصريين تركوا تحفًا فنية  بعيدة كل البعد عن أي منفعة دينية. فالنقوش والرسوم التي وجدت في منازل السكنى  لم يكن لها أي غرض ديني بل كان الغرض منها مجرد تجميل وإرضاء الذوق الفني.

وهذا القول يصدق أيضًا بالنسبة  لبعض الحلي وأدوات الزينة التي تركها لنا قدماء المصريين، والتي تعتبر تحفًا فنية من الطراز الأول. فالمجهود الفني الذي بذله صانعو هذه التحف لم يكن بقصد تحقيق منفعة دينية، بل كان الغرض الأصلي منه مجرد التجميل وإرضاء الذوق الفني.

فخلاصة ما سبق هو أنه يمكن القول بأن الفن المصري  القديم لم يكن دائمًا وفي كل مظاهره فنًا نفعيًا محضًا بخلاف ما يقول به معظم من تعرض لبحث هذا الموضوع. بل إننا نعتقد أن هذا الفن وقد نشأ نفعيًا تطور حتى وصل إلى أن يكون على الأقل في بعض مظاهره، فنًا للفن بالمعنى الحديث لهذا المذهب.