هكذا استقبلت السينما قانون «الخلع»: كوميديا تستهجن النيل من الامتياز الذكوري
لم يكن العام الأول من الألفية الجديدة عامًا هادئًا أو عاديًا، فقد شهد حدثًا استمر الجدل بشأنه لسنوات بل وما زال حتى يومنا هذا. اعتبر كثير من الرجال أن الألفية أتت لتصوب سهامها تجاه ما ترسخ من هيمنة لهم، وأن هذا الحدث يعمد إلى النيل من التفوق الذكوري الذي يرتكز عليه المجتمع.
لقد كان الخُلع هو الأزمة الكبرى التي اهتز لها المجتمع المصري؛ كان الرفض ضمنيًا لاتنزاع حق الرجل في تحديد مصير المرأة وقمعها الذي تشرعنه القوانين المجحفة، أما ما تذرع به المعارضون علانية واستخدموه كدعاية لتأجيج الحرب على الخُلع فقد كان «حماية الأسرة».
صدر القانون رقم (1) لسنة 2000 الذي عرف بقانون الخُلع ونُشِر في الجريدة الرسمية «الوقائع المصرية» في عددها رقم (4) مكرر بتاريخ 29 يناير من العام 2000، ثم بدأ سريانه في الأول من مارس في العام نفسه، لتلتهب المقاومة والممانعة على مستويات عدة؛ إذ خرج الأصوليون لينددوا بالقانون زاعمين مخالفته للشريعة، وبادر المحامون المخلصون للمنظومة الذكورية بتحريك الدعاوى طاعنين في دستورية المواد المستحدثة، وفتح الإعلام أبوابه لاستقبال الأصوات المناهضة للمساس بامتياز ذكوري يجعل للرجل أولًا وأخيرًا حق تطليق المرأة وقتما يريد لتبقى كالأسيرة خلف قضبانه بينما يُسيّر حياته كيفما يشاء دون قيد، فضلًا عن ذلك فقد قدمت السينما المصرية أفلامًا جعلت من الخُلع مادة للسخرية، لكنها لم تتهكم من المجتمع الذكوري وردة فعله إزاء إقرار القانون بل من تبدل الأدوار وامتلاك المرأة لقرار احتكره الرجل لزمن طويل، كما مضت تلك الأفلام في اتجاهين، أولهما هو الترويج للزعم الذكوري بأن الخُلع سيفسد منظومة الأسرة، أما الثاني فتمثل في تسفيه أسباب اتجاه النساء إلى الخُلع وقصره على النساء المنتميات إلى الطبقات العليا ومن يتمتعن بوفرة المال بما يضاعف عملية التنميط، حيث الربط بين نساء الطبقة العليا والسطحية.
الإفيه حكم: هنيدي وعلاء ولي الدين.. ما الذي يخفيه الإقحام غير المبرر؟
منذ ما عُرِف بالتحول إلى السينما الكوميدية في مصر بعد النجاح غير المسبوق لفيلم «إسماعيلية رايح جاي» الذي عرض في صيف العام 1997 وتصدر بطولته المطرب محمد فؤاد والممثل الكوميدي محمد هنيدي، أضحت القاعدة هي عرض الأفلام المتوقع لها تحقيق الإيرادات الأعلى في دور العرض السينمائي خلال الصيف، وفي العام 2000 كان الفيلمان الأبرز في الموسم الصيفي هما «بلية ودماغه العالية» لمحمد هنيدي و«الناظر» لعلاء ولي الدين، ولم يفوت بطلا العملين فرصة السخرية من الخُلع وإن كان ذلك مقحمًا ودون مبرر درامي. ومع كل عرض للفيلمين في دور العرض كانت القاعات تضج بالضحك عند إطلاق الإيفيهات المغزولة من أجل الخُلع.
في فيلم «بلية ودماغه العالية»، يظهر هنيدي في شخصية مهندس المكانيكا عماد وقد استدرجته امرأة إلى منزلها، حتى تثير غيرة زوجها عليها مدعية خيانتها له، بينما يتوسل إليها الأول أن تتركه يرحل حتى لا يقتله زوجها، ويقول لها «اطلقي القانون الجديد في صفك، الخُلع الخُلع، ادفعي مية ألف جنيه للمحامي واخلعيه ونبي»، فترد «ما عييش مية ألف»، فيقول «ادفعي عشرين ولخلخيه بس ونبي.»
أما في فيلم «الناظر»، يظهر علاء ولي الدين في دور صلاح وقد ذهب إلى أحد بيوت الجنس التجاري التي قاده إليها صديقه اللمبي، ليجد نفسه مع فتاة أجنبية يرافقها مترجم خاص بها، فيدور حوار بين الأول والأخير عن علاقة صلاح بالنساء والجنس والزواج، فيسأله المترجم «وبعد الزواج ماذا يحدث؟» فتأتي الإجابة «يحدث طلاق أو خلع.»
يمكن قراءة ذلك في إطار رغبة البطلين في ألا يمر الحدث الذي أثار الجدل الأوسع على مدار تلك السنة دون إطلاق إيفيه عنه يردده الجمهور لاحقًا في حواراته اليومية، وهو ما يدلل على أن ما أحدثه القانون من هزة في المجتمع أرغم النجمين الأهم حينذاك على إقحامه في الحوار.
وفي فيلم «بلية ودماغه العالية»، يبدو أن صناع العمل وجدوا في الخُلع مادة لا بد من توظيفها للتندر على ما اَل إليه حال الذكر، إذ يتهكم البطل مما حل بالرجل بعد أن بات مثل الضرس، طالما بيد المرأة ما يكفي من المال بإمكانها خلعه والتخلص منه إذا ما أصبح وجوده مزعجًا، وإن لم يكن معها ما يكفي من المال فتستطيع أن تلخلخه، وفي كل الأحوال ستنال منه.
تعالت ضحكات الجمهور وفي مقدمتهم الرجال عندما أطلق بطلا الفيلمين إيفيهاتهم، والتفسير الأقرب للصحة هو أن ذلك يرتبط بطبيعة المصريين المعروفين بحب السخرية من أنفسهم وعليها وليس لأنهم راضون عن ما أحدثه القانون.
محامي خلع.. احترس ذكورتك في خطر
في العام 2002، أقرت المحكمة الدستورية العليا بدستورية أحكام التطليق للزوجة بالخُلع، مؤكدةً على شرعية ومشروعية الخلع وعدم مخالفته لأحكام الشريعة الإسلامية أو مواد الدستور، وهو العام نفسه الذي صدر خلاله فيلم «محامي خُلع» للسيناريست وحيد حامد والمخرج محمد ياسين وأدى أدوار البطولة فيه؛ هاني رمزي وداليا البحيري وعلا غانم.
تتجلي الذهنية الذكورية المسيطرة على صناعة الفيلم من بدايته وحتى مشهده الأخير، فالمشاهد أمام جرعة مكثفة من مشاهد تسوغ التحرش الجنسي، فيتحرش البطل (هاني رمزي) بالبطلة (داليا البحيري) لفظيًا في أول لقاء يجمعهما، ويبرر لطفل تحرشه بامرأة في قريته بذريعة أن المرأة تتعمد إثارة الرجال من خلال اختيارتها للملابس التي ترتديها، ويمارس هو الفعل نفسه بين الفينة والأخرى في محاولات لاستدعاء الضحك بأسلوب اعتاد صناع الأفلام المصرية انتهاجه طويلًا.
أما قضية الخلع نفسها فقد استُغِلّت أسوأ استغلال، بداية من اختيار المؤلف أن يبني القضية الرئيسة في الفيلم على خطأ قانوني وهو ضرورة إثبات الضرر لتحريك دعوى الخُلع، بينما الصحيح هو أن للزوجة حق طلب الخُلع دون إبداء أسباب، ليُحوّل بذلك المكسب الذي ناضلت الحركة النسوية لعقود من أجله إلى ثغرة أُدخِلَت إلى القانون لتتلاعب بها النساء السطحيات وصاحبات العقول الخاوية، فالشخصية الرئيسة التي تؤدي دورها داليا البحيري، هي سيدة أعمال تدعى رشا الورداني، شابة مدللة تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية وتبدو سطحية في كلامها وأفعالها وردود أفعالها، تريد الطلاق بسبب شخير الزوج أثناء نومه، وقد عمد المؤلف إلى تقديم النموذج مرتين في الفيلم نفسه، فكرره من خلال الممثلة حنان ترك التي تظهر في نهاية الفيلم بشخصية مشابهة، ليظهر طريق الباحثات عن الخُلع محفوفًا بمثل هذه الشخصيات والحجج الواهية.
من أجل الخُلع توافق رشا على الإدعاء بأن زوجها «ما بيعرفش» أي يعاني من العجز الجنسي، ليجعل المؤلف من القضيب مركزًا يدور حوله الفيلم أكثر من أي شيء اَخر وتصبح الفحولة هي نقطة الصراع، فالزوجة ومحاميها يريدان إثبات عجز الزوج جنسيًا لنيل الخُلع، والزوج يتزوج بأخرى لتشهد أمام المحكمة بفحولته التي لا يقبل المساس بها، والمحامي يستشيط غضبًا من تقدير طول قضيبه بـ2 سنتيميتر أثناء أخذ مقاسات جسمه لحياكة بدل له في مصنع موكلته، ويزعج والده ووالدته رؤية ابنهما وقد استغنى عن أحد أهم معالم الذكورة وهو الشنب، وفي النهاية يتذكر البطل أنه لا يستطيع أن يتزوج من امراة لا تخضع لقواعد المجتمع الذكوري، ويرفض أيضًا الزواج من الفتاة التي تحبه لأنه متمسك بتفوقه الذكوري ولا يريد أن يتزوج و«يدن ديك غيره في البيت».
أريد خُلعًا.. رسالة مفادها: الخُلع فيه سم قاتل للأسرة والمجتمع
بعد ثلاث سنوات من عرض «محامي خُلع»، استقبلت دور العرض السينمائي فيلم «أريد خُلعًا» للمخرج أحمد عواض الذي كتب قصته بينما كتب له السيناريو والحوار محمد صلاح الزهار، وأدى أدوار البطولة كل من حلا شيحة وأشرف عبد الباقي وانتصار وشريف رمزي، وقد اشتق صناع العمل اسمه من الفيلم الأشهر «أريد حلًا» الذي ارتبط بتعديل قانون الأحوال الشخصية في العام 1979.
واللافت في الفيلمين سواء «محامي خُلع» أو «أريد خُلعًا» أن كليهما تأليف وإخراج ذكوري، بينما لم تقدم أي مخرجة أو كاتبة حينذاك على تناول القانون أو أي قضية تتصل به.
خلال فترة الإعداد للفيلم وتصويره كانت التصريحات الصحافية لصناع العمل بشأن فكرته، تروج إلى أن «أريد خلعًا» يتعرض بأسلوب كوميدي إلى السلبيات التي برزت في القانون منذ دخوله حيز التنفيذ، ويتبين بمشاهدة الفيلم أن هذه السلبيات ما هي إلا المزاعم التي يتمسك بها المعارضون للقانون قبل حتى أن يصدر، وفي مقدمتها هدم الأسرة.
يحاول الفيلم أن يعطي في البداية مبررات لغضب الزوجة مها الشناوي التي تؤدي دورها حلا شيحة، إذ يظهر الزوج طارق الذي يؤدي دوره أشرف عبد الباقي نموذجًا لشخصية سي السيد، فهو صاحب الصوت العالي في البيت والمقرر والمانع الذي لا يرى للزوجة حقًا سوى ما يحدده لها. لكن الفيلم أيضًا وضع الزوجة في قالب المرأة المستكينة التي تتماهى مع منظومة القهر وتُرجع خضوعها إلى الحب، وحتى يحتفي صناع العمل بهذا النموذج المغلوب على أمره الذي لا يرجو سوى بعض التغيير في طباع الزوج، قدم في المقابل نموذج المرأة المتسلطة المتجبرة التي تهمش شخصية زوجها كلية، وذلك من خلال جارتها سميحة التي تؤديها انتصار ويبرزها العمل باعتبارها صوت الشيطان الذي يقود الزوجة إلى هدم أسرتها واللهاث وراء الأضواء والشهرة، ولولاها ما فكرت مها ولا أقدمت على رفع دعوى الخُلع.
الكل ينتفع من الخُلع حتى الأقربين، هذا ما أراد الفيلم أن يرسخ له من خلال شخصية عمر، الشقيق الذي يدفع شقيقته دفعًا إلى الاستمرار في قضية الخُلع بعد أن رفض الزوج تعيينه بالوساطة في البنك الذي يتولى فيه منصبًا إداريًا، وعاد الزوج ورفض مساومته على إقناع شقيقته بالتنازل عن القضية في مقابل الوظيفة الطامح إليها، ليقدمه الفيلم نموذجًا للاستقامة وضحية للابتزاز مهما بلغ من قسوة في تعامله مع زوجته التي تبدو منقادةً ومسيرة لقلة وعيها واندفاعها العاطفي.
ركز الفيلم على كون الخُلع شيئًا مهينًا للرجل وليس استعادة لحق المرأة في التطليق، ويبرز ذلك في مشهد معرفة الزوج بأمر الدعوى المرفوعة ضده من خلال خبر في الصحيفة، فيحاول إخفائها بأي شكل والهروب من كل عين تقرأ الخبر، ويسير منكس الرأس مخيلًا إليه أن كل من حوله أدركوا الطامة الكبرى التي حلت به وعلموا بأنه يقترب من نيل لقب أول رجل مخلوع في مصر، وهو لقب يحط من قدر الرجل وقيمته في مجتمع ذي نزعة ذكورية عتيدة.
يربط الفيلم بين الخُلع وتدمير الأسرة وهو الأمر الذي يتذرع به الكثيرون من معارضي القانون، فيظهر التحول إلى الأسوأ في سلوك الأبناء، وتبدأ مبكرًا منازعة الوالدين على حضانتهم، وتشعر الشخصية الرئيسة وهي مها بالذنب تجاه أسرتها والأخريات اللاتي شجعتهن على أن يحذون حذوها، ويتجسد ذلك بوضوح في مشهد داخل المحكمة حيث تأتي فتاة إليها لتعبر لها عن إعجابها بشخصيتها وتخبرها أنها رفعت دعوى خُلع بعد ستة أشهر فقط من زواجها اقتداءً بها.
وداخل أروقة المحكمة أيضًا، يظهر الخُلع وكأنه وباء لعين انتشر بين النساء ومن يتملكهن الطمع تحديدًا، إذ يستغلن موقفهن القوي في القانون لمخادعة وإذلال الرجال بعد سنوات من العمر كانوا فيها يكدحون من أجل راحة زوجاتهم وتحقيق مطالبهن المادية. وما يسترعي الانتباه هو اختزال دوافع النساء للتطليق بالخُلع في الجشع والأنانية، وتعمد تجاهل الأسباب الأخرى التي تتصل بأزمة طول إجراءات التقاضي وانتهاك النساء نفسيًا وماديًا في قضايا الطلاق.
وُصِفَت المرأة على لسان زوج الجارة سميحة بــالطفل الذي يجب أن يروضه الرجل، وهو التشبيه الذي يمنطقه الزوج ويحاول مستندًا إليه أن يغير من أسلوبه في التعامل مع زوجته حتى يثنيها عن قرارها بالخُلع، ليصبح التعامل الإنساني والاَدمي مع الزوجة مبعثه أيضًا التفوق الذهني للرجل ورجاحة العقل التي تفتقدها المرأة كما تعمد الفيلم أن يشيع.
اختار الفيلم السخرية من واحد من أهم المشاهد في السينما المصرية وأكثرها رسوخًا في الذاكرة السينمائية، وهو المشهد الذي يجمع بين فاتن حمامة وأمينة رزق في فيلم «أريد حلًا»، وتشكو فيه الأخيرة معاناتها بسبب إجحاف القانون المنتصر للرجل مما يضاعف الظلم الواقع عليها. يعيد فيلم «أريد خُلعًا» صياغة المشهد بشكل ساخر مستبدلًا الشخصيتين النسائيتين بشخصيتين ذكوريتين، إذ يظهر البطل وإلى جواره رجل مسن يؤدي دوره الممثل الكبير عبد المنعم مدبولي، ويشكو الأخير ظلم زوجته التي قررت أن تخلعه بعد زواج استمر لنحو 47 سنة لم يسئ إليها أو يخذلها خلالها.
يمضي الفيلم إلى النهاية التي تنتصر فيها القيم الأبوية، فتقبل الزوجة بالصلح داخل قاعة انعقاد الجلسة بعد وعد واهٍ من الزوج بألا ينهرها مجددًا، لتسعد كل الأطراف بما فيها القاضي – باستثناء شقيقها المبتز – بعودة الزوجة إلى قفص الذكورية طواعية وعن قناعة ورضا.
وهكذا تظل راية الذكورية عالية خفاقة في أفلام لم ترحب بالخُلع ولم تستسغ تعزيز قدرة المرأة على التخلص من زواج فاشل بإرادتها الحرة دون ضياع العمر وإهدار المال. فماذا لو تغير قانون الأحوال الشخصية برمته بما يضمن حقوقًا أكثر للنساء ومن بينها تقييد تعدد الزوجات، هل ستُعلن السينما وقتها الحرب احتجاجًا على ضياع امتياز ذكوري اَخر؟