«التحرش الجنسي» ليس مشكلةً طفت على السطح في مصر، خلال السنوات الست الأخيرة كما يزعم البعض، وإنما ظاهرة لها جذور، استفحلت وتوحشت بعد تجاهل متعمد لوجودها، بالتوازي مع حالة صمت فرضها الوصم الاجتماعي الذي يلاحق الناجيات منها.

بلاء ابتُلين به ولم يُرفَع عنهن حتى وقتنا هذا، وإن  كانت حوادث التحرش الجنسي الجماعي، التي اجتاحت الشوارع المصرية في الفترة ما بين العامين 2011 و2013، قد تراجعت، بعد أن اختفت التجمعات الكبيرة والمظاهرات الحاشدة، التي أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير، لكن ذلك التراجع لا يعني أن حوادث «التحرش الجنسي» قد تلاشت أو حتى انخفضت معدلاتها، خاصة أنه لم تظهر حتى الاَن أي أرقام أو إحصاءات، تقلل من فداحة ما كشفته هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة (UN Women) في دراستها، الصادرة في إبريل من العام 2013، وأفادت حينها بأن  99.3 في المئة  من النساء المصريات تعرضن للتحرش بصورة أو بأخرى، كما لم يصدر أي تقرير ينفي أو يغير ما استخلصه تقرير سابق لمؤسسة تومسون رويترز من نتائج، وضعت مصر في ذيل قائمة الدول العربية في ما يتعلق بوضع النساء، وقد كان ارتفاع معدلات «التحرش الجنسي» سببًا رئيسًا في ما توصل إليه التقرير، بل إن المؤسسة نفسها أصدرت في أكتوبر من العام 2017، تقريرًا اعتبر القاهرة على المدينة المليونية الأكثر خطورة على النساء في العالم.

أيضــــــــــــــــــًا.. خدعوك فقالوا إنه «عام المرأة»: 2017.. سنة أخرى تضاف إلى سلسلة سنوات الإحباطات الكبرى

في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير، أوكلت مجموعات شبابية لنفسها مهمة مكافحة هذه الظاهرة، لا سيما بعد أن ارتفعت وتيرة جرائم «التحرش الجنسي» في تلك الفترة، وظهرت مجموعات مثل «شفت تحرش» و«بصمة» و«تحرير بودي جارد» و«بنات مصر خط أحمر» و«استرجل» بالإضافة إلى تكتل «قوة ضد التحرش»، لكن قبل كل هذه المبادرات، تشكلت مجموعة «خريطة التحرش الجنسي – Harrassmap»  في نهاية العام 2010، وهدفها إنهاء القبول المجتمعي للفعل نفسه، وتشجيع المارة في الشارع على اتخاذ موقف حاسم إزاء التحرش ومرتكبيه.

بدأت «خريطة التحرش الجنسي» نشاطها عبر الرسائل النصية والفضاء الإلكتروني، لاستقبال بلاغات عن وقائع التحرش، بغية الوقوف على الأسباب التي تؤدي إلى تنامي الظاهرة أو استمرارها، بالإضافة إلى تقديم الدعم القانوني والنفسي للناجيات، ثم كثفت المجموعة نشاطاتها الميدانية بعد ثورة يناير في العام 2011، حتى قررت في العام 2013، أن تفتح مساحة أخرى لنشاطها من خلال التلفاز، مستهدفةً شريحة أوسع من المجتمع المصري، من خلال حملة إعلانية توعوية.

تشير الأرقام الرسمية إلى أن 35.6 في المئة من المصريين يستخدمون الإنترنت، وهو ما يعزز من أهمية الوصول إلى الـ 64.4 في المئة الاَخرين، من خلال وسائط أخرى، وعلى رأسها التلفاز، الذي اختارته «خريطة التحرش الجنسي»، للتوعية بالجريمة وتشجيع المارة على التدخل عند وقوعها أمامهم، من خلال حملتها الإعلانية، التي أطلقتها في صيف العام 2015، تحت اسم «المتحرش مجرم»، واستمرت إذاعة إعلاناتها على مدار 10 أيام، عبر القنوات التلفزيونية، كما امتدت الحملة لمدة شهر عبر الإنترنت.

المخرجة «جيني منتصر»

حملة «المتحرش مجرم» تتبعتها المخرجة «جيني منتصر»، منذ أن شرعت مجموعة «خريطة التحرش الجنسي» في الإعداد لها، ووثقت رحلة العمل عليها بالكامل، من خلال فيلم وثائقي قصير  (يقترب من 17 دقيقة)، اختارت له اسم «الحملة»، وصدر في أكتوبر الماضي.

«في العام 2013، بدأت قضية التحرش الجنسي تحصد اهتمامًا  غير مسبوق في مصر، وانشغل كثيرون بها، لذلك قررت أن أسلط الضوء على الخطوات الفعلية التي تُتخَذ لمواجهة هذه الظاهرة المستشرية، كما كنت أود التعرف إلى الحلول المطروحة لمواجهة التحرش الجنسي، ودفعني فضولي إلى تتبع مدى إمكانية أن تُحدِث هذه الجهود تغييرًا. في ذلك الوقت، وجدت أن حملة «المتحرش مجرم» هي النموذج الأفضل، لمعرفة ما يجري لمواجهة هذه الظاهرة.» تبدأ «جيني منتصر» حديثها إلى «ولها وجوه أخرى»، ردًا عن سؤالنا بشأن ما جذبها في حملة «المتحرش مجرم»، لتوثق مسيرتها في فيلم وثائقي.

يبدأ الفيلم بلقطات ترصد وقائع التحرش الجماعي، التي التقطتها عدسات الهواتف النقالة أو كاميرات المؤسسات الصحافية، مصحوبة بصوت في الخلفية، لفتاة تحكي عن معاناتها أو بالأحرى معاناة الفتيات المصريات عمومًا مع التحرش الجنسي اليومي، ثم تبدأ «إباء التمامي»، المديرة السابقة لوحدة الاتصالات والتسويق بمجموعة «خريطة التحرش الجنسي»، في طرح رؤيتها بشأن ظاهرة التحرش في مصر، ليتبع ذلك لقطات من اجتماع للمجموعة، تناقش فيه الرسائل التي تريد إيصالها من خلال حملتها.

ترى «جيني» أن مجموعة «خريطة التحرش الجنسي»، تتميز عن غيرها من المجموعات، التي تعمل على التوعية ومكافحة هذه الظاهرة، في خروجها عن إطار الفضاء الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي، والوصول إلى قطاع أوسع وأعرض من المجتمع، وهو ما تؤكده الحملة الإعلانية.

قبل أن ينقل الفيلم بدء العمل الفعلي على إنتاج إعلانات حملة «المتحرش مجرم»، يحاول أن ينقل لمشاهده، الأجواء التي سادت في تلك الفترة، وقد توقف أمام واقعة التحرش الجماعي، التي وقعت أثناء الاحتفالات التش شهدها ميدان التحرير خلال يوم تنصيب رئيس الجمهورية في يونيو من العام 2014، ويستعرض الفيلم ما أحاط بالحادثة من ردود أفعال من جانب الإعلام والرئاسة والمجموعات الفاعلة في مجال مناهضة التحرش وقتذاك.

«هل نجحت حملة المتحرش مجرم؟»، تجيب «جيني» عن هذا السؤال قائلة «اعتقد أن الحملة نجحت نسبيًا، ولكن ليس كما كانت تتوقع خريطة التحرش الجنسي، ومع ذلك فإن أعضاء المجموعة يدركون جيدًا أن حملة واحدة، لا تكفي لتغيير مفاهيم مجتمع بأكمله، ويؤمنون أن التغيير مسألة تراكمية ومتدرجة.»

يوثق الفيلم مرحلة الإعداد التي سبقت تصوير الإعلانات المتلفزة على لسان «نورا فلينكمان» المديرة الحالية لوحدة الاتصالات والتسويق في «خريطة التحرش الجنسي»، ثم ينتقل إلى مرحلة تصوير الإعلانات التي أخرجها «أحمد عبد الله»، وصولًا إلى عرضها عبر القنوات التلفزيونية.

أيضــــــــــــــــــًا.. «ديكور».. فيلم عن التمزق الذي تعيشه المرأة بين سلطة الأم وتسلط الزوج

في أحد المقاطع، تستطلع «جيني» وبقية فريق العمل في الفيلم، اَراء عدد من الرجال والنساء في الشارع، بشأن الحملة، فما الذي عكسته اَراء هؤلاء المارة؟

ترى «جيني» أن كلامهم أظهر حالة من التباين في معرفة الناس بالحملة، وبدا واضحًا أنها لم تصل إلى قطاع كبير منهم، فضلًا عن أن بعضهم كان لديه مشكلة مع رسالة الحملة نفسها، علاوة على ذلك، لقد تكشَّف حجم التحدي الكبير، في ما يخص تغيير المفاهيم المجتمعية المغلوطة، التي تقف وراء ظاهرة «التحرش الجنسي».

ما قالته «جيني» في هذه النقطة، دفعنا إلى أن نسألها عن رؤيتها لما كانت تحتاجه الحملة، حتى تصل إلى قطاع أوسع من الجمهور، فكان ردها «المشكلة التي واجهت خريطة التحرش الجنسي في هذه الحملة، كانت ضعف التمويل المادي، ربما لو كان توفر بحجم أكبر، لامتدت مدة عرض الإعلانات على الشاشات الفضائية لفترة أطول من العشرة أيام، وتمكنوا من شراء حق بث الإعلانات عبر وسائل أخرى، مثل الجرائد أو اللوحات الإعلانية في الشوارع.»