قراءة في كتاب «لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟» – (1): كيف يجتهد المجتمع لقتل المبدعات معنويًا؟
في سبتمبر من العام 2016، صدر عن دار بتانة للنشر والتوزيع، كتاب بعنوان «لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟»، للكاتب والناقد والشاعر شعبان يوسف، وهو بمثابة بحث متعمق وغزير في ظاهرة التهميش والإقصاء المتعمد، التي طالما عانت منها الكاتبات العربيات. ويحاول يوسف في كتابه (136 صفحة، – من القطع المتوسط)، رصد وتحليل للمعوقات الاجتماعية التي اعترضت طريق الكاتبات خلال القرن العشرين، فكانت سببًا مباشرًا أو غير مباشر، في نهايات مأساوية لحيواتهن، كما يوغل الكاتب في تحليل الأبعاد الاجتماعية والثقافية، التي تجعل «إقصاء» الكاتبات عُرفًا، قلما توقف أمامه أحد، أو بذل جهدًا لدحضه بالأدلة والأسانيد، وهو ما عمد إليه الكاتب.
يتكون الكتاب من عشرة فصول، سبق أن نشرها الكاتب في صحيفة «أخبار الأدب» في هيئة حلقات متسلسلة بشكل أسبوعي، وهي: لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟، وملك حفني ناصف.. شروق مبكر وغروب فاجع وضحية لخديعة ذكورية، ومن الذي صنع مأساة مي زيادة؟!، وعائشة التيمورية والتجاهل التاريخي المفرط لأدب المرأة، ومعطف نازك الملائكة الذي تم تمزيقه، وشاعرات العامية ممنوعات من التداول، ونبوية موسى المستبعدة في الإقامة والرحيل، وتأبيد الكاتبات في أنوثتهن وفي دوار شهر زاد، والمستبعدات من أدب المقاومة، ومنتحرات ونهايات مأساوية لنساء بارزات.
تقدم «ولها وجوه أخرى»، قراءتها لكتاب «لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟»، في 7 حلقات، وهذه الحلقة الأولى في السلسلة
ملاحظات عامة على الكتاب:
الكتاب لا يقتصر في طرحه على «الموت» الجسدي للكاتبات، وإنما يحلل المقدمات الاجتماعية التي قادت إلى «الموت» النفسي، في إطار منظومة ذكورية عمدت إلى تهميش النساء وتنحيتهن عن المجال العام.
*يقرأ الكتاب، سيرة الكاتبات من منظور نسوي، في محاولة لإعادة الحق لهؤلاء اللاتي طمس التاريخ بصماتهن الأدبية، في ظل سيادة التوثيق بناءً على قراءة ذكورية، وخطاب معادٍ لمشاركة النساء في الحركة الثقافية والفنية.
*في محاولة من الكاتب للإجابة عن السؤال الذي اختاره عنوانًا لكتابه، يحاول تفكيك المزاعم، التي رسخت إلى أن الساحة الأدبية كانت في جعبة الذكور، وأدَّعت أن حضور للنساء لم يكن أكثر من مرور عابر، لم يترك وراءه أي أثر.
*يرفع الكاتب النقاب عن تعمد الكتاب الذكور أنفسهم، ممارسة التهميش والإقصاء بل والتسفيه، تجاه الكاتبات من خلال كتاباتهم ومقالاتهم، والمثير للاستياء أن بين هؤلاء من عُرِفوا كرواد التنوير والتثقيف مثل؛ عباس العقاد، وطه حسين، وأحمد لطفي السيد، وسلامة موسى.
يقول الكاتب في مقدمة كتابه «إذا كانت قضية المرأة عمومًا، أخذت مساحات من الانشغال واسعة، إلا أننا نرى أن قضية المرأة الكاتبة والشاعرة والساردة والأديبة، لم تأخذ حقها في البحث والتنقيب، وسنلاحظ أن المواقع تتبدل وتتغير بين جيل واَخر نحو قضية المرأة الكاتبة، فمازالت الكاتبات حتى الاَن مستبعدات بشكل عنيف.»
التهميش ليس قاصرًا على ممارسة النشاط الإبداعي فحسب، وإنما يمتد إلى الإقصاء المتعمد للنساء عن إدارة الساحة الثقافة، ويعود ذلك إلى العقلية الذكورية التي تهيمن على متخذي القرار، وتلعب الدور الرئيس في أن يظل منصب «وزير الثقافة» محرمًا على النساء، هذا ما يشير إليه الكاتب، عندما يستعيد واقعة طرح اسم الفنانة إيناس عبد الدايم، قبل سنوات قليلة، كمرشحة للمنصب، وهو ما أثار حفيظة الكثيرين، الذين استطاعوا بسلطة غاشمة أن يحولوا دون وصولها إلى مقعد «وزير الثقافة».
لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟
حمل الفصل الأول، نفس عنوان الكتاب، ليطرح الكاتب من خلاله تحليلًا لنهايات مأساوية دُفِعَ إليها عدد من الكاتبات، بسبب المحن والماَسي، التي أدت إلى عزلات نفسية، بعضها انتهى إلى قرارات بإنهاء الحياة، وأخرى نهشت في الأجساد، فانتهى إبداعهن مبكرًا.
للعنف ضد الكاتبات جذور
يرى الكاتب أن العنف ضد الكاتبات، يقف في بؤرة العنف ضد النساء عمومًا، وله جذوره المرتبطة بمحاولات السيطرة على المرأة، سواء بفرض قوانين أو تأويل النصوص الدينية ضدها، وتحويلها إلى متاع يملكه الرجل والمؤسسة الدينية، والسلطة السياسية، إلى حد التسليع الرخيص لقيمة المرأة على حد وصفه.
فيرجينيا وولف نموذجًا
يتعرض الكاتب إلى انتحار الأديبة الإنجليزية فيرجينيا وولف، وما دفعها إليه، ليس تناولًا لفعل الانتحار نفسه، وإنما قراءة في المشاهد التي اَلت إلى هذه النهاية المأساوية. يعيد الكاتب النظر إلى حالة الحرب التي شنها النقاد الأوروبيون عليها، لأنها منتجاتها الأدبية جاءت مغايرة للتراث التقليدي، وبعد أن حاولت بكل الطرق ضرب أو اختراق مفهوم الحكي التقليدي والمتعارف عليه في السرد الأوروبي، فاعتبروها لا تجيد الحكي وقالوا أنها لم تخلق حكاية أو رواية، كالتي ينتجها النقاد الأوروبيون، ولا كتبت قصيدة كالتي يكتبها الشعراء.
يشير الكاتب إلى أن وولف لم تتوقف عن طرح رؤاها عن طريق الكتابة، على الرغم من محاصرة الهموم وتكالب الغموم عليها، ولم تخش الهجوم الممنهج، فانتقدت الكتابة المباشرة التي يكتبها الاشتراكيون، الذين رأتهم يلوون عنق الإبداع لحساب السياسة، فقوبلت هذه الجرأة بمزيد من الشراسة في العدوان، استُخدِمَ فيه كل الأسلحة السياسية والفكرية والذكورية، فأنتجوا تاريخًا مشوهًا عنها، وصورها بفاقدة العقل، فأرغمتها هذه الحرب إلى التزام صمت أبدي، أدى في النهاية إلى انتحارها غرقًا.
في هذا الشأن، يركز الكاتب على العنف الذي مارسه المثقفون بحق وولف كونه سبب الانتحار، وهذا الطرح منطقي، لكن إذا رأيناه في إطار حزمة من حوادث العنف النفسي والجنسي، تعرضت لها منذ أن كانت طفلة، نشأت في كنف سلطة ذكورية، تحكم الأسرة والعائلة والمحيطين، ومع ذلك فضلت المقاومة ووقفت في وجه كل ذلك، تحاول أن تترك أثرًا على الحائط، حتى فاض بها الكيل، ولم يعد سبيلًا للخلاص من هذا السيل المتدفق من العنف سوى الرحيل.
العزلة.. اختيار إجباري
يربط الكاتب شعبان يوسف بين انتحار فيرجينيا وولف في مطلع الأربعينيات وانتحار كاتبات أخريات في الشرق العربي، مثل؛ عنايات الزيات في الستينيات ودرية شفيق في السبعينيات وأروى صالح في التسعينيات، ويلفت إلى أن جميعهن، يشترك في الملابسات الاجتماعية التي دفعت إلى إنهاء الحياة بهذه الصورة المفجعة، ضاربًا المثل بعدد منهن، كالقاصة ليلى الشربيني وهي أيضًا عالمة رياضيات، نشرت خمس مجموعات قصصية، وكانت همزة الوصل بين الحركة الطلابية في فرنسا، حيث كانت، وتلك التي في مصر، وللاَسف تعرضت سيرتها للطمس، وبات من الصعب على الراغب في تتبعها الوصول إلى معلومات دقيقة عن مسيرتها، ويبدو أنه ما من أحد من النقاد حاول إعادة النظر أو قراءة الأسباب الاجتماعية أو السياسية التي قادت إلى النهاية.
ويُذَّكر يوسف بواحدة من أبرز القيادات الطلابية في السبعينيات وهي سهام صبري، التي لقبت بزهرة الحركة الطلابية، وكان الجانب الشخصي في حياتها هو السبب في الإحباط الذي تمكن منها، وانتهى بها في عزلة، حتى قتلها الشعور بالقهر.
حتى إن لم تكن انتحارًا، لكن النهايات الحزينة قاسم مشترك بين العديد من الكاتبات، ويؤكد الكاتب على أن هذه النهايات موصولة بشكل أكيد بالملابسات والبدايات، التي ترتبط بالأيديولوجيا السائدة التي تحرم الكاتبات من حقهن في ظروف إيجابية ومن الاهتمام بما يكتبن ويبدعن، وينطلق يوسف من هذا الاعتقاد، ليستعرض جانبًا من مكابدة ملك حفني ناصف ومي زيادة وأوليفيا عبد الشهيد ونبوية موسى ودرية شفيق.
تشويه الرائدات والكاتبات بأقلام الكتاب المستنيرين
يتعرض يوسف إلى عمليات التشويه المتعمدة، التي قام بها الكتاب بحق الكاتبات والرائدات النسويات، مثل نبوية موسى، التي أساء إليها الباحث محمد أبو الإسعاد الذي كتب سيرتها، تحت عنوان نبوية موسى ودورها في الحياة المصرية، الذي كاد يصمها بالعمالة إلى الإنجليز، بعد تأكيده مرارًا على علاقتها المشبوهة بدوغلاس دنلوب (المستشار الإنجليزي للتعليم في مصر 1897 – 1920)، وهو ما يرد عليه يوسف بالإشارة إلى مقالات موسى الثورية، التي كتبتها في جريدة «البلاغ الأسبوعي»، وهي جريدة وفدية، منوهًا عن مسرحيتها «الفضيلة المضطهدة» التي صدرت في العام 1923.
في السياق نفسه، يتطرق الكاتب إلى الهجوم الذي طال اعتصام درية شفيق في نقابة الصحافيين في العام 1954، بقلم طه حسين، الذي كتب مقالًا عنونه بــ «العابثات»، وعندما رد عليه الكاتبان حسين فهمي وعميد الإمام، يلوماه على ما كتب، لا سيما أنه نصير حرية الرأي والدفاع عنها، أصر على رأيه ووصفه، وعاد وكتب مقالًا اَخر بعنوان «العابثات 2»، فرد عليه الكاتب أحمد بهاء الدين بمقال بعنوان «الصائمات»، وكتبت درية شفيق لترد بنفسها، فاستشاط حسين، وكتب مقالًا اَخر، وبلغ حد إهانته لها، أن يرسل رسالة مبطنة في المقال، مفادها أن درية شفيق لا تكتب مقالات، ويتعين عليها أن تبحث عن شخص أفضل من الذي لجأت إليه لكتابة مقالها.
مستبعدات من تأريخ الحركة الثقافية
يشير الناقد شعبان يوسف، إلى المواقف العدائية والإقصائية، التي اتخذها كثير من الكتاب والأدباء، بما فيهم المنتمين إلى اليسار، وهو التيار الذي يؤمن بالمساواة. ومن بين الأمثلة التي يطرحها، كتاب صدر عن دار النديم (الطليعية)، ضم قصصًا لكبار كتاب هذه الفترة، مثل؛ يوسف السباعي، ومصطفى محمود، ويوسف إدريس، وغيرهم، وكتب مقدمته طه حسين، لكنه لم ينطو على قصة واحدة لأي كاتبة من كاتبات ذلك الزمان، مثل؛ جاذبية صدقي، وصوفي عبد الله وأسما حليم، وجميلة العلايلي ولطفية الزيات.
ويقول الكاتب «مجلة جاليري 68، التي صدر عددها الأول في مايو 1968، لم أجد نصًا قصصيًا أو شعريًا واحدًا لكاتبة، وكأن الساحة خلت تمامًا إلا من الذكور، وبالطبع فهيئة التحرير المزدحمة لم تضم كاتبة واحدة، ولا أعتقد كذلك أن الحياة الثقافية كانت قفرا تمامًا من الكاتبات، وهذا موقف تعسفي، وللتأريخ والتوثيق، ضبطت اسم المترجمة نادية كامل متسللًا بين طيات أحد الأعداد.»
ويتحدث يوسف عن كتاب، كتبه المسرحي نعمان عاشور، وصدر تحت عنوان «مع الرواد»، ضم عددًا كبيرًا من الفنانين والكتاب والشعراء، لكن الكتاب خلا تمامًا من اسم فنانة أو أديبة أو كاتبة.
من تكون الزهراء؟
ود الكاتب أن يسلط الضوء على مجهود، لا يعرفه كثيرون، قدمته الكاتبة أوليفيا عبد الشهيد، التي انتحلت اسم الزهراء، بعد أن طوردت بأشكال دينية وقبلية وعائلية، عقب إصدارها لكتاب بعنوان العائلة في العام 1912، يضم نثرًا وشعرًا من انشائها. حاولت أوليفيا التحايل على مساع المجتمع لإقصائها عن الساحة الثقافية، واختارت التخفي وراء هذا الاسم، لتواصل إبداعها، فكتبت في العديد من المجلات بهذا الاسم المُنتَحل، وكانت تحرر غالبية المادة التحريرية والأدبية لمجلة «فتاة الشرق»، التي كانت تصدرها لبيبة هاشم، وعملت طويلًا لمجلة «روز اليوسف»، لكن قليل يعلم بها وبهذا الكم من الإبداع الذي أنتجته.
أيضـــــــــًا.. لبيبة هاشم.. فتاة الشرق التي نذرت قلمها للدفاع عن النساء ومناصرتهن