«في شقة مصر الجديدة».. رحلة الخروج للحرية وتعضيد التمرد
مما لا شك فيه أن «محمد خان»، كان أكثر مخرجي تيار الواقعية الجديدة – الذي يضم أسماءً أبرزها؛ داوود عبد السيد وخيري بشارة وعاطف الطيب – انحيازًا لمعالجة أزمة المرأة الأمدية مع المجتمع الذكوري عبر أفلامه، وهو واحد من أكثر مخرجي السينما المصرية الذين أجادوا الإيغال في صراعات النساء الداخلية، وانعكاسها على تفاعلهن مع الإطار المفروض عليهن في مجتمع يحترف ممارسة القهر بحقهن، وينجلي ذلك في أفلام مثل؛ موعد على العشاء، زوجة رجل مهم، أحلام هند وكاميليا، بنات وسط البلد، في شقة مصر الجديدة، فتاة المصنع.
في الذكرى الأولى لرحيل «خان»، نعيد قراءة عدد من أفلامه، التي نبش من خلالها في عوالم النساء، وتعمق في تقصي وضعيتهن في المجتمع بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمين إليها، ولعل واحدًا من أهمها، فيلم “في شقة مصر الجديدة”، من إنتاج عام 2007،الذي اعتبره كثيرون من صناع السينما والنقاد، أحد أهم أفلام السينما المصرية، وقد رُشِح اَنئذ لتمثيل مصر في منافسة جوائز أوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي.
يشترك مع “خان” في رسم الشخصيات بحرفية عالية، الكاتبة “وسام سليمان” مؤلفة الفيلم، التي تأتي في باكورة أسماء النساء اللاتي شاركن في صناعة هذا الفيلم، فخلف الكاميرات يظهر اسم “دينا فاروق” مونتيرةً للفيلم، و”نانسي عبد الفتاح” مديرةً للتصوير، و”داليا يوسف” مصممةً لملابس شخصياته، و”نسرين الزنط” مساعدةً لمخرجه.
وسام سليمان .. والصدق إلى أبعد مدى في نقل مشاعر«هن»
يأتي “في شقة مصر الجديدة” الثالث في الترتيب بين الأفلام التي كتبتها “وسام سليمان”، وجميعها أفلام ذات طابع نسوي، بدءًا من “أحلى الأوقات” من إخراج هالة خليل في عام 2003، و”بنات وسط البلد” في عام 2005، ثم هذا الفيلم في عام 2007، ومن بعده “فتاة المصنع” في 2013، من إخراج “محمد خان”.
وفي كل مرة، تقدم “سليمان” شخصيات نسائية مرسومة بسلاسة، لا تتحدث بلهجة مصطنعة، ولا تردد عبارات طنانة، وتعبر عن مشاعرها واحتياجاتها ومعاناتها بطريقة أفصح من الخطابات والرسائل المباشرة. النساء في عالم “سليمان”، يقاومن العنف والتمييز، ينجحن أحيانًا ويخسرن مرارًا، ولا تحبطهن الهزائم ولا يخاصمهن الأمل.
ليس الرجل أو المرأة المحرك.. وإنما الحب
قد يعتبر البعض “في شقة مصر الجديدة” فيلمًا ينزع عن المرأة استقلاليتها، ويقرن انطلاقها بالرجل، ربما لأنهم يرجعون التحول الذي حدث في حياة “نجوى” إلى ظهور “يحيي” في حياتها فقط، دون النظر إلى إعادة اكتشافها لنفسها في رحلة غير متوقعة، ووصولها أخيرًا إلى الحب الذي كادت تفقد إيمانها بوجوده، ومن المرجح أنهم لم يروا في شخصية “حياة” قوة امرأة غالبت الزمن وغلبته، ولم تستوقفهم الفتيات المستقلات اللواتي اخترن الانتقال من محافظاتهن إلى العاصمة المثقلة بالهموم، ومع ذلك يتمسكن بالتضامن فيما بينهن حتى يواجهن مصاعب الحياة ويحققن طموحاتهن صغيرةً كانت أم كبيرة، ويملأن أرجاء بيت المغتربات بضحكاتهن حتى تعيد إلى سقوفه الروح، وتفعمهن بالأمل في هذه الـقاهرة.
الفيلم برمته يدور في فلك الحب، الذي يبحث عنه الجميع، رجلًا كان أم امرأة، وفيه يجد الإنسان ملاذه من سقم الحياة في عالم مخضب بالهموم.
على مدار ما يقرب من ساعتين، هي مدة الفيلم، تتبدل القاهرة التعيسة التي نعيش فيها إلى مدينة كلاسيكية دافئة، حيث تصدح “ليلى مراد” بصوت باعث للسكينة، وتتجول “نجوى” بفساتين أنثوية في الشوارع، دون أن يمسها الذعر، ويغيب التلفزيون بأخباره البائسة، ويحضر في الخلفية باستمرار، الراديو والأغاني الرومانسية القديمة خاصة أغاني “ليلى مراد”، من خلال برنامج “ما يطلبه المستمعون”، أحد البرامج الإذاعية المرتبطة في الذاكرة بمصر الكلاسيكية، وهنا لابد أن تُذكر بقوة “نانسي عبد الفتاح” التي خلقت بعدستها صورة عذبة شديدة النعومة، تسحر العيون وتخطف الأنظار، ورغم الأجواء الحالمة، تبقى أحداث الفيلم وشخوصه وخاصة النسائية أكثر واقعية من أخرى في أفلام تدعي أنها تنقل الواقع بحذافيره.
التحرر من قيود الذكورية ولو لأيام معدودة
على الرغم من أن “نجوى” تبدو على سجيتها، وتتسم بعفوية تعكس نقاءً لم تنل منه أدخنة القاهرة كما فعلت وتفعل مع كثيريين، إلا أن رحلتها إلى القاهرة بعد أن عاشت عمرها كله في مدينة المنيا في الصعيد، تكشف عمقًا في شخصيتها النابضة بالحياة، فثمة قوة تكمن داخلها، دفعتها إلى أن تخوض وحدها رحلة البحث عن “تهاني” في مدينة تبتلع في جوفها المختلف.
ورغم الاغتراب والتقليل من شأنها وهدفها الذي تحول من البحث عن “تهاني” إلى إثبات أنها على قيد الحياة، لم تستسلم “نجوى” إلى محاولات إثنائها عن مواصلة ما بدأته، وذهبت مرة تلو الأخرى إلى شقة مصر الجديدة حيث كانت تسكن معلمتها، وإلى مدرسة المبتديان، التي كانت تعمل فيها معلمتها قبل أن تختفي، وخلال رحلة البحث، تتسلل إليها إجابات عن أسئلة لم تُسئَل عن الحب وماهيته وتحكمه في المصائر، وإن كانت لم تصل إلى “تهاني” في النهاية، إلا أنها أدركت الحب ووجدت ضالتها.
أن تكون على فطرتها لا يعني سذاجتها، فلم تكن “نجوى” هشة في مواجهة التهكم من طريقتها البسيطة في التعبير من قبل “داليا”، ولم تمرر دون رد سخرية “يحيي” من المراسلة عبر الخطابات البريدية بينها وبين “تهاني”، وعندما أخبرتها صديقتها “يمنى” بارتباطها بنفس الرجل الذي تقدم إلى خطبتها قبل أن تسافر إلى القاهرة، لم تتسامح مع ذلك من منطلق البلاهة، ولكن لأنها لا تركض وراء أي رجل ليرفع عنها عبء الوصمة المجتمعية المرتبطة ببقاء الأنثى عزباء، ولأنها تعتقد أن الحب إن ولد لابد أن يحيا.
في هذه الرحلة، تجد “نجوى” نفسها في مواقف صعبة بالنسبة لفتاة بسيطة، قادمة من مجتمع مغلق لم تخرج منه منذ ميلادها، رغم اعتيادية هذه المواقف في حياة بنات المدن، يفوتها القطار وتبقى وحيدة بعد أن أخذ معه كل من تعرفهم، فتظهر على رصيف القطار وقد اختفى من حولها الناس، وإلى جوارها لوحة مكتوب عليها “القاهرة”، في دلالة على أنها أضحت في مواجهة هذه المدينة الصاخبة وحدها، وتفاجئ بأن زميلتها في غرفة بيت المغتربات الذي وطأت قدمها إياه قبل ساعات فقط، قد أقدمت على الانتحار ولابد أن تنقذها، ثم تجد نفسها وحيدة في حمام محطة مصر، أمام سيدة تضع مولودها، وتنفذ نقودها، بعد أن أصرت على الإيفاء بوعدها وإصلاح هاتف “يحيي” الذي كسرته دون قصد، فتتحايل على راكبي الأتوبيس والكمسري، وتدعي سرقة محفظتها، حتى تنجو من المأزق.
هذه الفتاة القادمة من مجتمع ذكوري بامتياز، استطاعت في أيام قليلة – تحررت خلالها من مكبلاته – أن تكتشف في نفسها ما لم تكتشفه لسنوات طويلة، وأن تصل إلى مبتغاها الذي كاد يتلاشى، وتطلق أخيرًا شعرها ليعانق أشعة الشمس، بعد أن ظل مسجونًا بين رباط يحول دون تنفسه نسائم الحرية، في الوقت الذي تحتضن فيه حبيبها على دراجته البخارية دون تحفظ أو خوف.
“نجوى” و”تهاني”.. التمرد على السائد
“نجوى” المعلقة بكلمات اَبلة “تهاني” معلمة التربية الموسيقية، مازالت وقد شارفت على الثلاثين تبحث عما يثبت صحة كلامها عن الحب، الذي يأتي مباغتًا، ليجمع اثنين ما كان لهما أن يلتقيا سوى بسبب الحب.
تتشابه “نجوى” مع معلمتها، في كثير من التفاصيل، فكلاهما يرفض الإذعان للمجتمع الذي يريد أن يسيرهما على صراطه؛ فلا يسابقن الزمن من أجل الاستقرار في كنف رجل قبل أن تطاردهما وصمة “العنوسة”، أو الإنجاب قبل “فوات الأوان”.
تصطدم “تهاني” بالمجتمع المحافظ، الذي يعتبر حديثها عن الحب مع الطالبات جريمة تستوجب العقاب، ورغم رحيل “تهاني” عن المنيا وانتقالها إلى القاهرة، يبقى كلامها ساكنًا في عقل تلميذتها.
يبدأ الفيلم بخطاب منها إلى معلمتها، تخبرها أن رجلًا قد تقدم للزواج منها، في إطار ما أشبه بعملية البيع والشراء، فبعد أن كان يريد الزواج من ابنة خالتها الأصغر سنًا، وجدت العائلة أن “نجوى” أنسب من الناحية العمرية، ليصبح عريسًا لها، وفي ظل منظومة تحتضن هذا النمط من العلاقات والزيجات، التي تتعامل مع النساء باعتبارهن سلع، حان وقت بيعها، أو أعباء جاء الوقت ليتحملها رجل اَخر، تشجعها صديقاتها على قبول العرض لاستيفاء دور المرأة كاملًا في عيون المجتمع الذي ينتمين إليه، أي امرأة متزوجة وأم، في عصمة رجل.
«حياة» .. الأمل في مواجهة الاَلم
“حياة القلوب” هي مديرة بيت المغتربات، الذي تقضي فيه “نجوى” أيامها في القاهرة، وهي امرأة تمزج بين النعومة والخشونة، العذوبة والغلظة، لكن الأمل وحب الحياة يتملكانها، هي لا تدعي القوة لأنها قوية بالفعل، تقاوم بابتسامتها قساوة الحياة، بعد زواجين فاشلين، وحب غير قابل للخروج إلى النور، لأن المحبوب “عيد” سائق التاكسي، مازال مخلصًا لزوجته، على الرغم من وفاتها قبل سنوات عديدة.
بيت الطالبات هو وسيلتها للتغلب على الوحدة، فلن يخفت الصوت داخله، ومهما رحلت فتيات عنه، ستحل أخريات عليه، تملؤه قصصهن، التي تتعامل معها باحتواء وكأنها أم لكل منهن، تأنس لهن ويأنسوا لها.
“داليا” .. هناك رجال ينتزعون اليقين بالحب وتتحول بسببهم الوحدة إلى ملاذ
على الرغم من أن “داليا” تبدو الشخصية الأكثر بعدًا عن الرومانسية الحالمة التي تعبئ أجواء الفيلم، فهي امرأة عملية، تفكر فتنفذ، أرادت أن تكون في علاقة لا وجود للحب فيها مع “يحيي”وفعلت، ثم تتخذ قرارًا بالزواج والإنجاب وتمضي في طريقها، لكن هذا الوجه الأقرب للإنسان الاَلي، يخفي وراءه امرأة عانت مع رجل جعلها كفرت بالحب، ولم تعد تعتقد في وجوده.
اعتاد “خان” أن يقدم شخصياته تحمل أبعادًا مختلفة وليست شخصيات أحادية، فكما بدت “داليا” أبعد أميالًا عن “نجوى”، إلا أنها ليست امرأة متجردة من المشاعر، هي تتوق إلى حب اَخر، يعوضها الوحدة التي فرضتها على نفسها خشية أن يتكرر الاَلم مجددًا مع رجل اَخر تحت مظلة الزواج التي اقتنعت بفشلها.
في بيتهن .. استقلال عن المنظومة الأبوية وتضامن غير مشروط
في القاهرة، عاشت “نجوى” مع أخريات يشتركن معها في بعض الأمور، وإن كان الفيلم لم يفرد مساحة للتعرف على حيواتهن، لكنه عرض صورة لفتيات أتين من مدن وقرى إلى العاصمة للدراسة أو العمل، يجمعهن بيت المغتربات، فتتشكل حالة تضامن بينهن، لتعضد من صلابتهن في مواجهة مشاق الحياة اليومية.
وعلى سبيل المثال، يظهر ذلك في مشهد عودة “نجوى” وملابسها تتقطر ماءً، فيحاوطنها ويحاولن تجفيفها، ثم يسألنها بقلق ممزوج بفضول عن السبب وراء حالتها تلك، وإحداهن تجيب عن سؤالها بشأن مكان لإصلاح الهواتف النقالة حتى تصلح هاتف “يحيي” الذي كسرته، وأخرى تترك لها فستانًا حتى ترتديه بديلًا للذي أغرقته الأمطار، كل ذلك ولم يمر على تواجدها معهن سوى يوم واحد.
تهاني.. الحب والحرية في مواجهة الرجعية
اختزال شخصية “تهاني” في كونها امرأة حالمة، ظلت طوال حياتها تبحث عن رجل ليحقق لها الأمان النفسي، ما هو إلا رؤية ظالمة للشخصية التي تحمل أبعادًا أخرى؛ “تهاني” تعد نموذجًا لامرأة كسرت القيد، وتحدت المنظومة السائدة، فهي المعلمة التي لم تعبأ لتقاليد المجتمع الصعيدي المحافظ، وتمسكت بمبادئ تلخصها كلمات، الحب والحرية والجمال.
الأم ..التماهي مع الذكورية
هي انعكاس للثقافة الذكورية المستوطنة في المجتمع الذي تعيش فيه “نجوى”، امرأة ترى الحب الذي تتحدث عنه المعلمة في المدرسة “محرمًا” والمشاعر “عيبًا”، وتريد تزويج ابنتها في أسرع وقت، غير مكترثة لرغبة ابنتها، وإن تأخرت في العودة من القاهرة، خوفها الأكبر هو “كلام الناس”.
ليس تعبيرًا عن البهجة فقط.. الرقص تحديًا
“حبي .. أيوا حبي .. ياريتني كنت في سنكوا”، هذه الكلمات التي جاءت على لسان “حياة” متحدثة إلى “نجوى”، سبقت واحدًا من أهم مشاهد الفيلم، وهو الذي تُدفَع فيه “نجوى” للصعود على الطاولة، حتى ترقص وسط احتفال الفتيات بــ “رضوى” التي ستتزوج محبوبها، وتبدو عليها إمارات الخجل، فتسارع بجذب “حياة” إلى سطح الطاولة، لترقص الأخيرة والجميع يصفق لها مبتهجًا، كزهرة تتمايل في البستان احتفالًا بقدوم الربيع، بينما تراها عيون “نجوى” ترقص متحديةً ذلك الماضي الذي سرق الكثير من العمر، وهذا الحاضر الذي يحرمها لذة الحب.