هي رائدة التعليم في مصر، امرأة أدركت أهميته وتحدت الصعاب حتى تناله، وتنشره بين بنات جنسها، كانت ومازالت بمثابة إلهام للكثير من النساء المصريات.

“نبوية موسى” أول امرأة مصرية تحصل على شهادة البكالوريا في عام 1907، وحتى تحقق هذه الأسبقية، عانت منذ الطفولة مع أسرة لم تكن تتقبل فكرة تعليم الفتاة، وعلى الرغم من أن مثلًا يقول “علموهن الغزل ولا تعلموهن الخط” كان سائدًا في ذلك الحين، إلا أن أمها كانت أشد تضييقًا منه، ولم تعلمها حتى الغزل أو التطريز، ولا الرسم أو العزف على البيانو، وهي مهارات كانت أغلب أسر الطبقة المتوسطة تهتم بتعليمها لبناتهن، ومع ذلك التُبِست “نبوية” الصغيرة بشغف العلم والتعليم، وظل يراودها حلم دخول المدرسة، وطالبت أمها وأخيها مرارًا بأن يُلحقاها بالمدرسة السنية للبنات، لكن الأم رفضت حتى أن تسمح لأي معلم أن يعلمها قواعد الحساب، حتى تجتاز اختبارات القبول بالمدرسة.

الخروج من العباءة الأبوية .. ومقاطعة الأسرة لم تثنها عن السير في الطريق “وحيدة”

على الرغم من أن أمها وعمها أكدا لها بوضوح أن التحاقها بالمدرسة مستحيل، لأنه بالنسبة لهما خروج عن الأدب، لم تستسلم أو تتنازل عن تحقيق الحلم حتى لو رغمًا عنهما، وهنا تتجلى محاولات طفلة صغيرة في الاستقلال عن المنظومة الأبوية التي كانت تحكم الأسر والمجتمع المصري ويضيع مستقبل الفتيات بسبب سطوتها، وقد أقدمت الفتاة ابنة الــ15 ربيعًا على سرقة سوار ذهبي من أمها، لتذهب به إلى إدارة المدرسة وتطلب منهم أن يسمحوا لها أن تلتحق بالمدرسة، مع العلم أن الالتحاق بالمدرسة السنية وقتذاك كان بالمجان، إلا أنها فعلت ذلك ظنًا منها أن ستضمن قبول اللجنة لها بهذه الطريقة.

عندما التحقت “موسى” بالمدرسة، لم تذعن أسرتها لرغبتها، بما فيهم شقيقها الذي علمها حروف الهجاء العربية والإنجليزية، وساعدها خفية على تعلم قواعد الحساب، وكان يقرأ لها قصائد الشعر العربي فحفظته جيدًا وتعلمت بسببه العربية، إلا أنه كان أول المقاطعين لها، وأصبحت علاقتهما في محل العدم لمدة سنة تقريبًا، ورغم تألمها من قراره الذي جاء على عكس ما كانت تنتظره، لكنها أبت أن تُظهِر له حزنًا أو خيبة أمل وقالت له بكل كبرياء “لقد نقص إذًا من أقربائي واحد ولا ضير في ذلك.”

صاحبة لقب “أول امرأة” في العديد من قوائم الإنجازات.. على رأسها التصدي للتمييز لصالح “المعلم” الذكر

تتلمذت على يد باحثة البادية “ملك حفني ناصف”، التي سجلها التاريخ أول فتاة تحصل على الشهادة الابتدائية في عام 1901 وهي ذات السنة التي التحقت فيها “موسى” بالمدرسة، ولحقت الصغيرة بأستاذتها في عام 1906 وحصلت على دبلوم المعلمات، لكنها خطت خطوة أبعد عندما وجدت نفسها تأخذ نصف الراتب المخصص للرجال، وأصرت على الحصول على البكالوريا لتتساوى مع الرجال من خريجي المعلمين العليا، وفعلتها وأضحت أول امرأة تحصل على البكالوريا في عام 1907.

وعن هذا التمييز ضد النساء المعلمات الذي رفضت القبول به، قالت في إحدى مقالاتها التي جمعتها في كتاب “حياتي بقلمي” “ساءني أن تعاملنا الحكومة ونحن نعمل، معاملة الوراثة أي نصف الرجل، لا أنكر أن ان الوراثة قد تكون على حق لأنها ليست من مجهود أحد، أما أن تعمل الفتاة ما يعمله الرجل، ثم تتناول نصف مرتبه فهذا ما لا يعقل.. لهذا ثارت ثائرتي.”

ومن بعد البكالوريا، واصلت سلسلة من الإنجازات كانت هي الأولى فيها، فكانت أول امرأة مصرية تعمل معلمة للغة العربية، وأول مصرية تعمل ناظرة لمدرسة ابتدائية للبنات، وأول مصرية تفني عمرها دفاعًا عن قضية التعليم وخاصة تعليم المرأة.

رغم الاستهداف المستمر لم تنكسر لها عزيمة

كان عملها بالتدريس، بمثابة تدخل سافر على عمل الرجال من وجهة نظرهم واعتبروها هادمة البيوت وقاطعة أرزقاهم، وصاروا يتصيدون الأخطاء لها، وينتقدونها وأداءها، ويطالبون بفصلها، وبالمخالفة لما يثار عن أنها كانت تؤازر الاحتلال الانجليزي، فقد استغل هؤلاء المعلمون مقالاتها في مطبوعة “فتاة مصر الفتاة” التي كانت تكتبها تحت اسم مستعار، ضد الإنجليز، وأوصلوا نسخًا منها إلى ناظرة المدرسة التي تعمل بها، وعلى الرغم من أن ذلك أسس للخلاف بينهما، وكاد ليصل إلى حد فصل “موسى” نهائيًا من وزارة المعارف لأن القواعد تحظر على الموظفين الكتابة للصحف، لكن ثناء سعد زغلول باشا على كتاباتها ومقالاتها، كان سببًا في تحول موقف الناظرة.

وعلى ذكر الإنجليز فقد قالت “موسى” في إحدى مقالاتها “عرفت الإنجليزيات أنني أدافع عن عادات بلادي ولا أرمي أهلها بسوء، فأقلعن عن تجريح المصريين أمامي.”

أما الحروب التي شنها ضدها، الرجال تارة، والمسؤولون تارة أخرى، وكثيرًا وزارة المعارف بلغت ذروتها في عام 1926، عندما اتخذ وزير المعارف اَنذاك “‘علي ماهر” قرارًا في الـ6 من مارس، بإيقافها من الخدمة وفصلها من عملها بالمدارس الحكومية، وذلك على إثر مقالات نشرتها في مجلة “السياسة” تنتقد فيها برنامج الوزارة وتتطالبها بقصر عمليات التفتيش في مدارس البنات على النساء فقط دون الرجال، ودعمها لحركة شبه جماعية بين المدرسات المصريات تطالب باستبدال ناظرات المدارس الأجنبيات بناظرات مصريات بعد أن أثبتن كفاءتهن في العمل، وأتت خطوة الفصل، بعد أن قرر المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف منحها إجازة مفتوحة وكانت في ذلك الوقت تشغل منصب ناظرة المعلمات الأولية ببولاق، لكن القضاء أنصفها لاحقًا وأعاد لها اعتبارها، وأصدر أمرًا يقضي  بأن تدفع لها وزارة المعارف مبلغ خمسة آلاف وخمسمائة جنيهًا كتعويض لها عن قرار فصلها من الخدمة.

مدارس وكتب ومجلة تثقيفية.. سبيلها لترقية البنات

كانت قد حاولت في عام 1920 التمرد على سلطة وزارة المعارف على المدارس الأميرية، وتحقيق طموحاتها في تعليم أفضل وأرقى للفتيات، وذلك من خلال تدشين مدرسة باسم “بنات الأشراف” في الإسكندرية، وبعد أزمة الفصل من الوزارة، قررت أن تنشئ لها فرعًا اَخرًا في القاهرة، وأصبحت مدارس بنات الأشراف من أكبر المدارس الأهلية الحرة للبنات في مصر في هذه الفترة، وإلي جانب ذلك أنشات مطبعة ومجلة أسبوعية نسائية باسم “الفتاة” في النصف الثاني من عام 1937، وهو نفس الاسم الذي صدرت به أول مجلة نسائية في العالم العربي لـ”هند نوفل” في عام 1892، واستمرت مجلة “الفتاة” لــ”نبوية موسى”، في الصدور لمدة خمس سنوات.

علاوة على ذلك، صدر لها عدد من المؤلفات أبرزها؛ رواية تاريخية باسم «توب حتب» أو «الفضيلة المضطهدة»، وديوان شعري باسمها، وكان لها كتاب مدرسي صدر مبكرًا في عام 1909  بعنوان ” ثمرة الحياة في تعليم الفتاة”، فضلًا عن كتابها عن رؤيتها لعمل المرأة، الذي صدر تحت عنوان “المرأة والعمل”.

كتاب المرأة والعمل

يمثل هذا الكتاب مقدمة للمقالات التي أطاحت بها من وزارة المعارف، فقد بينت فيه رؤيتها لتعليم الفتيات القائم وما يتعين أن يكون عليه، وقالت “موسى” في مقدمة كتابها، أن الهدف منه هو لفت النساء إلى العلم والعمل، وتناولت من خلال عدد من المحاور مثل “المرأة وتقدم الأمم”، مدى ارتباط تقدم الأمم بوضع المرأة، وناقشت في محور اَخر مسألة الاحتجاب المفروض على المرأة في المنزل، معتبرةً أن ذلك يخالف بشكل صريح تعاليم الدين الإسلامي، وناقشت عن قرب مسألتي المساواة بين الجنسين وتعليم المرأة، وأعلنت بوضوح رفضها التمييز الممارس في التعليم ضد الفتيات، من خلال المناهج الدراسية الموضوعة لتعليم البنات، وتقتصر في أغلبها على تعليم القراءة والكتابة بجانب التدبير المنزلى وفنون التطريز، وقالت نصًا “باستطاعة الفتاة أن تتلقى نفس العلوم التي يتلقاها الفتى بالإضافة إلى بعض المواد النسوية الأساسية.”