“رأيتني في المنام جالسة في مقعدي بحجرة الدراسة بمدرسة اللوزي الأميرية للبنات بدمياط ، وإذا بملاك مجنح يهبط من السماء قرب النافذة المجاورة لمكاني ، يعطيني لفافة خضراء ، ثم يحلق عالياً في السماء ! ولما فتحت اللفافة وجدت فيها مصحفاً شريفاً لم تكن عيني وقعت من قبل على مثله فخامةً وبهاءً “
هكذا أضحى المصحف في حياة “بنت الشاطئ” منهلاً للعلم والمعرفة والتى تتابع قائلة عن نفس الواقعة “لما صحوت أدركت عن يقين أن حياتي كلها مرتبطة بهذا المصحف هدية السماء لي في رؤياي ” حينها كانت في العاشرة من عمرها، لم تكن مثل قريناتها تحلم بالملابس الجديدة والألعاب.
عائشة عبد الرحمن أو بنت الشاطئ كما اختارت أن تسمي نفسها، أو أديبة الفقهاء وفقيهة الأدباء كما أطلق عليها تلاميذها ومريديها.
ولدت في 6 نوفمبر 1913 فى مدينة دمياط وكما ذكرنا سلفاً أنها إلتحقت بمدرسة اللوزى الأميرية للبنات واستمرت فى مسارها التعليمى الذى قضت جانباً منه فى المنزل، نتيجة رفض والدها ذهابها للمدرسة إلا أن إرادتها وإرادة أمها مكنتها من الإستمرار فى التعليم حتى التحقت بكلية الاَداب قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس، ومن بعدها حصلت على الماجيستير بمرتبة الشرف الأولى كل هذا حتى العام 1941 أى فى وقت كان تعليم المرأة فيه لازال من المحرمات بين الكثير من الأسر المصرية.
لذا كانت “عائشة عبد الرحمن” منذ نعومة أظفارها نموذجًا للكفاح والتحدي لعقبات المجتمع من أجل هدف نبيل وهو النهل من العلم و نشره على نطاق واسع.
معركتها مع العقاد
كانت رمزًا للصمود والقوة والشجاعة حيث خاضت عددًا من المعارك الأدبية إحداهن كانت مع العقاد ردًا علي كتابه “المرأة في القراَن ” الذى اتهم فيه المرأة بأنها تتزين فقط للرجل وأنه لولا دفع الرجل لها للنظافة لكانت موضعاً للإهمال”وقوله أيضاً أن المرأة لا تعرف الحياء بمعزل عن تلك الغريزة العامة وأن الرجال يستحيون أكثر من النساء.
فكان رد عائشة “أنا لا يعنيني شئ في رأي الأستاذ العقاد ، بل سلمت بما قاله في استئثار الرجل بالتفوق في الفنون التي يظن أنها أنثوية كأستاذية الرقص ، كل ما يثيرني هو اتهامه للمرأة بالقذارة وأنها لولا إشراف الرجل عليها ما فكرت في النظافة، وأعيب علي الأستاذ العقاد أن ينسب الرأي للخالق عز وجل.”
وخاضت معارك أخرى تناصر فيها الثقافة العربية ضد ما سمي بقصيدة النثر ، ومعركة ضد الدكتور مصطفي محمود حول التفسير المعاصر للقراَن، وواجهت هجوم المستشرقين علي الإسلام ونبهت لخطورة البهائية والماسونية من خلال كتابها ” قراءة في وثائق البهائية ” .
السبب وراء التوقيع باسم ” بنت الشاطئ” بدلًا من اسمها
“عائشة” الصغيرة التى كانت تلهو على شاطئ النيل بمدينة دمياط ، اختارت أن تعيش مرتبطة باسم الشاطئ الذى شهد طفولتها و عرف أحلامها وأذاب حزنها فى مويجاته فهذه الصغيرة عرف النبوغ طريقه إليها مبكراً ،وبدأت النشر منذ كان سنها 18 سنة في مجلة النهضة النسائية، ثم بعدها بعامين في جريدة الأهرام العريقة عندها ادركت عائشة المشكلة التى قد تعوق إستمرارها فى الكتابة بسبب تحفظ أهلها الشديد، ورفضهم عمل النساء في دروب الثقافة والصحافة ، وقتها عادت إلى أنيسها وقررت أن تلتصق به و تحتمى به من غضب أهلها واختارت التوقيع باسم “بنت الشاطئ”
واستطاعت بذلك أن تكون ثاني امرأة تكتب بها بعد الأديبة مي زيادة، وظلت تكتب فى الأهرام حتى وفاتها، فكان لها مقال طويل أسبوعي، وكان آخر مقالاتها ما نشر بالأهرام يوم 26 نوفمبر 1998 بعنوان “علي بن أبى طالب كرم الله وجهه”
رجال أثروا حياتها
وفي نفس ذكرى ميلادها عام 1936 كان أول لقاء يجمعها بزوجها الشيخ أمين الخولي الذي كان امتداداً للصحوة الفكرية التي بدأها الأفغاني ومحمد عبده
“كم أتمنى – في ذلك اللقاء الأول – لو توقف الزمن ليظل الأستاذ يتكلم وأنا أصغي وأتعلم ! ومن ذلك اللقاء ارتبطت به نفسيًا وعقلياً وكأني قطعت العمر كله أبحث في متاهة الدنيا وخضم المجهول وبمجرد أن لقيته لم أشغل بالي بظروف قد تحول دون قربي منه ، فما كان يعنيني سوى أني لقيته ، وقد أنصرفت من ذلك الدرس الأول في السادس من نوفمبر 1936 وكأنني ولدت من جديد .. ” هكذا عبرت عائشة عما أحدثه هذا اللقاء فى دواخلها لتبدأ مع هذا اللقاء مرحلة جديدة فى حياتها..
وكانت عائشة من أنبغ تلاميذ الخولى وكان لقاء العقل مدخلًا للعاطفة من نوع خاص لم تخفيها يوماً حتى بعد مماته ، وقد أهدت كل كتبها إليه وكان رحيل الشيخ “أمين الخولي” عام 1966 حدثًا عصيبًا في حياتها وتقول فيه “هذه القيم قد تعلمتها من أمين الخولي الذي صنعني ” .
لم يكن “أمين الخولي” هو الرجل الأول المؤثر في حياة بنت الشاطئ ولكنه كان في المرتبة الثانية بعد والدها الشيخ “محمد علي عبد الرحمن” أحد شيوخ المعهد الديني بدمياط الذي كان يتمنى أن يرزقه الله بصبي يلقنه علوم الدين ولكن حين أنجب فتاة ثانية قرر أن يهبها للعلم فعمل علي تحفظيها القرآن الكريم منذ الخامسة من عمرها ، وتلقت العلوم الإسلامية بمناهج الأزهر علي يد والدها وزملائه في المعهد الديني.
عام وراء عام …إنجاز يعقب إنجاز
لما حصلت بنت الشاطئ على الدكتوراة كان ذلك بمثابة حدث علمي ضخم حيث ناقشها فحول العلم والأدب وهم: عميد الأدب العربي طه حسين وأحمد أمين ود.عبد الحميد العبادي وشفيق غربال، واستمرت المناقشة ساعات وحصلت على الدكتوراة تحقيقاً لرسالة “أبي العلاء المعري”بمرتبة الشرف الأولي والتوصية بتبادل رسالتها بين الجامعات .
عملت عائشة عبد الرحمن كأستاذ ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس منذ 1963 إلي 1967 , ثم كأستاذ بجامعتي أم درمان والخرطوم ، وأستاذ للدراسات العليا بجامعة القرويين وأستاذ للتفسير بكلية الشريعة بفاس ، وكذلك بجامعات في الجزائر والعراق والامارات والسعودية .
وحصلت علي عدد من الجوائز منها : وسام الاستحقاق للمفكرين الإسلاميين, وسام الكفاءة الفكرية من الملك الحسن عاهل المغرب ، وجائزة الدولة التقديرية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي عن كتابها ” قراءة في وثائق البهائية “، و أيضًا جائزة الملك فيصل للآداب والدراسات الإسلامية.
عائشة عبد الرحمن.. عنوان الخلود
كانت رمزًا للقوة والصمود تحملت وواجهت برباطة جأش فقدانها لأكثر من أحبت في حياتها وهم الزوج والابنة “أمينة الخولي” التي توفت بمرض عضال وكانت أصغر باحثة تحصل علي الدكتوراة في الرياضة البحتة “، وفقدت ابنها الدكتور أكمل الخولي الذي توفي في حادث مأساوي .
كل ذلك الاَلم لم تتوانى فى رسالتها و ظلت تجاهد في سبيل إفشاء العلم حتي وفاتها المنية في الأول من ديسمبر 1998 تاركة لنا أربعين مؤلفًا من أمهات الكتب في التفسير بالإضافة إلي مئات المقالات في جريدة الأهرام، ذلك النهل العلمي الذي يجعلها خالدة مهما مرت العقود.