«فوق مستوى الشبهات».. بين التنميط والواقعية.. نساء تلاحقهن الشبهات وتقودهن الشهوات إلى الهاوية
المرض النفسي ليس عيبًا أو شيئًا مخجلًا، فجميعنا نعاني من ضغوط نفسية بدرجات، وأغلبنا يتعايش مع ذلك ويتقبله، لكن دون أن يفصح عنه وربما دون أن يعي أنه يعاني اضطرابًا، لكن عندما يدفعنا المرض النفسي إلى تدمير حياة الاَخرين وارتكاب الجرائم، هل سنواجه أنفسنا بالأزمة التي تنتابنا أم ستسوقنا أزماتنا إلى توحش أكثر، حتى يصبح المرض النفسي وقود لكتلة من الشر تتوهج يومًا بعد الاَخر لتأكل الأخضر واليابس.
هذه الخواطر تتجلى على ذكر مسلسل “فوق مستوى الشبهات” الذي يتصدر قائمة الأكثر مشاهدة خلال شهر رمضان، وقد حقق نجاحًا كبيرًا افتقدته الممثلة الكبيرة “يسرا” مع أعمالها التلفزيونية خلال السنوات الأخيرة.
المسلسل لم يخرج عن تيمة طغت هذا العام على عدد من المسلسلات وهي “المرض النفسي”، الفارق أنه لم يدخل ببطلته ومشاهديها إلى مستشفى الأمراض النفسية والعقلية كما حدث في “سقوط حر” و “الخانكة”.
جهات الرصد والتقييم لصورة المرأة تعتبره “مسيئًا” .. والنقاد “واقعيًا ومحكمًا”
المسلسل يدور بشكل أساسي حول شخصية “رحمة حليم”، أستاذ التنمية البشرية والمرشحة بالتعيين لعضوية مجلس الشعب، من الحلقة الأولى ندرك أننا أمام امرأة مضطربة نفسيًا، ويتبين أنها تعاني حالة من عدم الاتزان بسبب طفولة قاسية عاشتها في ظل تفكك أسري واغتراب عن الأم، تتورط “حليم” في جريمة قتل، وحتى تخفي الأمر، ترتكب جرائم أخرى بحق من حولها، دون شعور بالذنب، وخلال رحلة طمسها دلائل جرمها، نكتشف الدوافع النفسية للحالة التي وصلت إليها “رحمة حليم”.
الشخصية النسائية الرئيسة.. هل تمثل إساءة لصورة المرأة؟
الشخصية الرئيسة “رحمة حليم” تعاني بوضوح من اضطرابات نفسية، ولكن هي خارج أسوار دور العلاج، لا تذهب لطبيب لمساعدتها على تجاوز إضطراباتها، بل والأدهى أنها أستاذ في علوم التنمية البشرية، تعلم وتنصح بأصول التعامل مع النفس والمحيطين.
“رحمة” شخصية عامة، تدعي ليلًا نهارًا المثالية ويصدقها كثيرون، لها جمهور يشاهدها على شاشات التلفاز، يؤمن بأفكارها المعلنة، ويراها عنوانًا للتغيير، بينما الحقيقة أن هذه السيدة تحمل الكثير من التناقضات، وتشع كراهية تجاه من حولها، لدرجة تجعلها تسيء معاملة أمها، وتتسبب في دمار حياة أختها “مها” الأسرية، وتزج بها في غياهب المرض النفسي وتتركها وحيدة في إحدى مصحات العلاج الخاصة؛ تتزوج بمن يحبها، لتستغل مشاعره وضعفه أمامها لصالح تطلعاتها، حتى ينتهي به الأمر في السجن وعندها تقرر تطليقه فلم يعد منه منفعة، وبعد خروجه تعود وتستغل ما بقي بداخله من مشاعر لتحقيق أغراضها، وهي نفسها من تلفق الجريمة التي ارتكبتها – قتل الطبيب النفسي (الدكتور جلال) الموجود بنفس الكومباوند -لإحدى صديقاتها.
تنضح الشخصية “شرًا، لكنه مُحكَمًا، يكشف السيناريست “محمد رجاء”، مبررات هذه الشخصية لارتكاب أفعالها، ومن خلال عبور متقطع على الماضي، نكتشف أن “رحمة” عانت من تفكك أسري بعد انفصال أمها عن أبيها، ثم زواجها من اَخر، لتتركها ابنتها الصغيرة وحيدة مع والدها، الذي سرعان ما تخلص منها ونقلها إلى مدرسة داخلية بـ”لندن” حيث يعيش، لتتعرض للعنف من قبل زميلاتها بالمدارس، وفي إحدى المشاجرات، تُسقِط “رحمة” عن دون قصد زميلتها التي تنازعها دومًا من أعلى الدرج، فتطرحها قتيلة.
قضت الفتاة فترةً صعبةً في ظل اتهامات وملاحقات لمدة سنتين عقب الحادثة، مما كان له أثرًا نفسيًا شديد السوء، وانتهى بها الحال مريضة تخضع للعلاج النفسي، وعندما عادت للعيش مع والدتها، شعرت وربما توهمت أن أمها تمارس تمييزًا في المعاملة بينها وبين أخويها من زوج أمها، الذين يعيشان في كنف أمهما منذ الميلاد.
مع كل الكراهية التي تُظهرها الشخصية لأمها وأخواتها، إلا أنها في مشاهد عديدة تظهر العكس تمامًا مثل؛ مشهد ذعرها لمجرد الشعور بأن من خطف أمها قد قتلها، ومشهد موت “الأم”، الذي انكسر فيه جُل كبريائها، وهمدت شرورها، أمام الحزن والغم الذي تمكن منها.
في تعامل “رحمة” مع خادمتي أمها، مرات تنهرهما، وأخرى تتحدث معهما بود، تتوعدهما، ثم تعود وتلجأ إليهما، كل هذه التناقضات، تجتمع في شخصية واحدة، ترى نفسها في كل لحظة المظلومة، والمحاطة بالحقد والكراهية، فتوجد لنفسها من المبررات الكثير، لكل فعل إجرامي ترتكبه بحق المحيطين، كلما رأت علاقات مستقرة سواء عاطفية أو أسرية، عمدت إلى إفسادها وكأنها تريد أن يعيش اَلمها الجميع.
“يُحسب للمسلسل أنه لم يحتفِ بالشخصيات النسائية السلبية وكأنه الطبيعي لــ”المرأة” كما حدث في أعمال أخرى”
أعلن صناع المسلسل وعلى رأسهم الممثلة الكبيرة “يسرا” أن هدف المسلسل إظهار الوجه القبيح لشخصيات موجودة حولنا، تدعي العقلانية والحكمة وحسن الخلق ويصدقها قطاع عريض، بينما هي لا تملك منها شيئًا، وأشاروا إلى أن العمل يغوص في النفس البشرية، وخطاياها التي يحاول أصحابها إخفاءها دائمًا، لترتسم صورة مثالية أمام الأخرين. واقعيًا ما يقدمه المسلسل موجود بالفعل، وثمة شخصيات تتشابه مع “رحمة” وصديقاتها في الكومباوند، ويحسب للمسلسل أنه لم يحتفِ بتلك النماذج السلبية، على عكس مسلسلات أخرى مثل “الأسطورة”.
ربما لم يظهر بالمسلسل سوى عدد قليل من الشخصيات النسائية المتزنة مثل “رضوى” إحدى ساكنات الكومباوند، ومذيعة الراديو التي تحاول التوفيق بين مبادئها وعملها وإيقاع حياتها الأسرية، و”أمل” شقيقة الطيبيب النفسي المقتول، والتي بدت من الشباب المؤمنين بالثورة والتغيير، ولكنها تكره الكذب إلى حد مضاد تمامًا لانغماس الشخصيات الأخرى في وحله.
في المقابل اعتبرته جهات الرصد والتقييم من الزاوية النسوية، وعلى رأسها لجنة المجلس القومي للمرأة مسيئًا للمرأة، ويقدم صورًا سلبية بالجملة سواء من خلال شخصية “رحمة” أو بقية الشخصيات النسائية، التي يسقط جميعها في هوة الخطئية.
نساء تحاوطهن الشبهات.. يحركن الأحداث ورجال لا يملكون سوى “رد الفعل”
بالمقارنة بين الرجال والنساء، المسلسل يقدم تخمة من النماذج النسائية السلبية، في مقابل رجال مغدور بهم، أزواج قانعين محبين، أمام نساء قويات متسلطات وخائنات أيضًا.
فشخصية “الأم” السيدة “سهام” – ليلى عز العرب – هي امرأة تركت ابنتها وتزوجت دون أن تلقي لها بالًا، وشخصية “رحمة” – يسرا – امرأة يملؤها الحقد والكراهية تجاه الاَخرين، حتى لو كان مبررها مرض نفسي، وتأتي شخصية “دينا” – نجلاء بدر – وهي زوجة لرجل مخلص، يسعى لإرضاء زوجته بكل الطرق، وأب لابنهما الوحيد، ومع ذلك تتحرك مشاعرها تجاه صديقه “عمر” – أحمد حاتم – وتتورط معه في علاقة حميمة.
وهنا تجدر الإشارة، إلى النظرة والتعامل الدوني لـ”المرأة”التي خانت زوجها، إذ تنتهي قصة “دينا” بفضيحة مخططة من الزوج وأمه لها أمام والديها، وحرمانها من ابنها الصغير، في المقابل الخائن “عمر” تتمسك به الحبيبة التي دخلت حياتها بعد انتهاء علاقته بـ”دينا” وكأن التسامح لا يناله إلا الرجل، وهي رؤية الكاتب، التي قدمها باعتبارها النهاية المنصفة والمُستحقة لكل منهما.
أما “إنجي” – شيرين رضا – وهي الأقرب لــ”رحمة”، امرأة منافقة، تُظهر عكس ما تبطن، تدعي محبتها للجميع، بينما تبحث لكل منهم على خطأ، تتحدث عنه وتخوض فيه، تتملل من زوجها، وتقع في حب طبيبها النفسي “الدكتور جلال” الذي تفصح له عن مشاعرها.
زوج “إنجي” طبيب تزوج بممرضته “هيام” بسبب رتابة العلاقة بينه وبين الأولى، والصورة المقدمة لها، أنها امرأة أنانية، رضت بعلاقة زواج سري، لأجل مصلحة مادية بالدرجة الأولى، وتطلع إلى وضع اجتماعي أرقى، تسعى بكل الطرق لتدمير علاقته بزوجته الأولى، وتنتهز فرصة حبسها بالسجن بعد اتهامها بقتل طبيبها النفسي، وتنتقل عنوة إلى بيتها، مستغلة كل الظروف السيئة لصالحها.
مما لاشك فيه أن المسلسل قدم جرعة زائدة من الصور النمطية للنساء، كشف الكاتب “محمد رجاء” والمخرج “هاني خليفة”، جانبًا ضئيلًا من الدوافع النفسية لما وصلن إليه بعضهن، وهذا لم يمتد لكل الشخصيات، وبدت النساء وتحديدًا في الطبقة العليا غير متزنات نفسيًا، ولا يتحملن ولو قدر قليل من المسؤولية تجاه الاَخرين والمجتمع، وهمهن الأول والأخير أنفسهن وشهواتهن.
جماهيريًا وفنيًا .. ضمن قائمة الأفضل
احتل المسلسل مركزًا متقدمًا بين المسلسلات الأكثر جماهيرية، وفي الوقت نفسه، سجل مكانة متميزة لدى النقاد، وأسباب النجاح تعود إلى القصة المشوقة والحبكة المحكمة، التي أثارت فضول المشاهدين منذ الحلقة الأولى، فضلًا عن أن الحلقات لم يشبها الملل والتطويل إلا قليلًا، إلى جانب التشابك بين العلاقات الذي أجاد المخرج “هاني خليفة” التعامل معه، وهذه عادته منذ عرفناه عبر فيلم “سهر الليالي” ثم “سكر مر”، والأهم هو خروج الممثلة الكبيرة “يسرا” من قالب مكرر اعتادت تقديمه في الدراما التلفزيونية لسنوات وهو المرأة المثالية التي تتحدى الظلم، أسريًا كان أو مجتمعيًا، وهو ما أعاد للأذهان تجلي موهبتها التي رفعتها إلى الدرجة الأعلى بين نجمات جيلها.