الاَلم نفسه، والمعاناة ذاتها، تتكرر فى مشهد ثابت لا يمر يوم دون أن يُدوَن فى صحيفته، هو التحرش الجنسي الذى يلاحق الفتيات والسيدات فى الشارع المصري.

الظاهرة الكارثية التى تطول وفقًا لهيئة الأمم المتحدة للمرأة  99.3 % من المصريات، تناولتها عدة أعمال سينمائية سواء بشكل عارض أو كمحور رئيس مثل فيلم 678 للكاتب والمخرج محمد دياب.

وينضم لقائمة الأعمال السينمائية التى تناقش العنف ضد المرأة وفى مقدمته التحرش الجنسي، الفيلم القصير “المجنى عليها” لمخرجه صفوان ناصر الله، والذى ذهب به إلى مهرجان كان السينمائي فى دورته 67 (عام 2014)، ليعرضه ضمن ركن الأفلام القصيرة المخصص لعرض أعمال الموزعين والمخرجين من كافة دول العالم.

وعلى الرغم من أن الفيلم مدته فى حدود الـ13 دقيقة، إلا أن الفكرة ومعالجتها لم تبدو مسطحة على الإطلاق، فقد أضاف المخرج الكثير من التفاصيل التى أضفت عمقًا، وقدم رمزيات عديدة شديدة التأثير، مثل تقديم شاب تظهر عليها إمارات إدمان المخدرات كاملة، لنكتشف تباعًا أن الإدمان هنا ليس لأى مخدر بل للتحرش.

image001

“المجنى عليها” فيلم من مشهد واحد، وهو مشهد خيالي، فى صحراء صماء، تتوسطها فتاة هادئة الملامح غير متكلفة المظهر، يغطى رأسها غطاء أزرق اللون، يكشف بعض شعيراتها السوداء، مع عينين زرقاوين، وفى ذلك دلالة على البرود والجمود الذي يكتنف المشهد، سواء داخلها أو حولها، وذلك رجوعًا إلى كون اللون الأزرق يصنف ضمن الألوان الباردة جدًا، وترتدى سروالًا أبيضًا، للتدليل على الوضوح والبراءة، اللذين نكتشف تباعًا، أنهما يتأصلان فى شخصيتها.

تقف الفتاة التى تقوم بدورها الممثلة “إيناس الليثي”، وسط حلقة من الرجال، كالثعابين تسعى لتطويق الجسد فى شره، عيونهم تتفحصها بنظرة شهوانية، وتبقى هى فى حالة توتر وخوف، بعيون زائغة تترقب ما سيفعلونه.

يتقدم هؤلاء الملتفين حولها، شخص يستعرض ذكورته عبر نصفه العلوى العاري وكأنه منبع قوته، ترتسم على وجهه ابتسامة تسلطية ساخرة.

image001

فى خلفية هذه الصورة المعبأة بالمشاعر المختلطة، نسمع حوار داخلى على لسان الفتاة، تحكى لنا عن وجع لا يفارقها، وخوف يتصاعد.

“أنا تعبت .. تعبت من الخوف .. الخوف أنى أنزل الشارع .. تعبت من الخيانة .. خيانة ابن بلدى ليا .. تعبت من الرجال اللى شايفنى حتة لحمة .. لحمة حلال فيها الانتهاك حلال فيها الضرب وحلال فيها الاغتصاب .. فاكرين أنهم بيعملوا لى جميلة أنهم بيعاكسونى ويتحرشوا بيا .. تعبت أنى أمشي أبص ورايا وقدامى وجمبي وأسد ودانى، وأمشي عيني فى الأرض، عشان متصدمش بنظرة أو بكلمة، بنظرة قذرة من العيون اللى محوطانى ..العيون اللى بتفحص فى جسمي، بكلمة تهين وجدانى وفى كل مرة بتقطع من جوايا كل مرة بجرح جديد عمره ما بيلم.”

image001

هذا هو الجزء الأول من الحوار الدائر داخل الفتاة ذات الرداء الأبيض والطرحة الزرقاء، ويبدو واقعيًا إلى درجة كبيرة، يعكس مشاعر عدد كبير من النساء المصريات اللواتى تجمعهن تجارب مماثلة، لكنه في الوقت ذاته، يبدو مكررًا ومسموعًا ومقروءًا مرارًا من قبل.

وعند الكلمات الأخيرة فى الجزء الأول من الحوار الداخلى وهى ” كل مرة بجرح جديد عمره ما بيلم، اختار  المخرج الإشارة إلى أن الجرح النفسي الذى يخلفه التحرش الجنسي، يناظر الجرح الملموس، بالدم الذى يسيل من “المجنى عليه”.

“تتحرش بيا .. عشان مش عارف تثبت وجودك .. مش عارف تثبت أنك راجل”

image001

هذه الجملة تأتى على لسان الفتاة ضمن حوارها الداخلى، الذى تستهدف به ذلك الشخص الذى يتقدم الواقفين، مستعرضًا جسده العاري الذى يعده منبع قوته ودليل رجولته، ويستخدم التحرش لمعالجة نقص الرجولة الذى يعانيه.

هو فى نظرها، مكسور، مقهور، الأبواب فى وجهه مغلقة، وبدلًا من أن يكسر القيود ويسعى لاسترداد حقه المسلوب، لم يفعل بل اختار تنفيس الغضب وتعويض النقص بالاستقواء وإرهاب من يظنه أضعف منه، وانتهك حقها تعويضًا لما أصابه جراء انتهاك حقوقه وكرامته.

يخيفها، يهينها، يرهبها وعندما تعجز عن الرد، يحتفى بانتصاره الوهمي وكأنه انتصر لرجولته.

“مسمين نفسهم فنانين .. فنانين مش شايفين فيا غير جسمي “

بهذه الجملة بدأت “المجنى عليها”، وصلة جديدًا من الحوار الداخلى، تخاطب بكلماتها صناع السينما الرديئة التى تعمد إلى تسليع المرأة، ولا تنظر إلا لجسدها وترسخ لكونها أداة امتاع جنسي فحسب.

من ثم تنتقل بحديثها للمجتمع، الذى تراه فاقدًا للأخلاق والهوية منذ أن حصر علاقة المرأة بالرجل فى حدود “الجنس فقط”.

image001

مدمن “التحرش”

قدم المخرج نموذجًا لشاب تبدو عليه ملامح الإدمان، بسواد تحت العينين، ملامح عدوانية، وعدم قدرة على التحكم فى شهوته، تدفعه للهجوم عليها كالفريسة التى انغرست فى جسدها سكين، عندما هب مسرعًا نحوها من الخلف، قاصدًا مؤخرتها، ومن ثم وقبل أى رد فعل منها، يحتمى بذلك “الذكر” الذى ينتشي بإذلالها ثانية، ولا يكتفي بذلك بل يدفع الناس لترديد جملة “هى السبب .. تستاهل”، لتصبح “المجنى عليها” “جانى” على نفسها، وسط هجوم وظلم صارخ.

كفاية

يمضي الفيلم وفى خلفيته موسيقى هادئة مميزة لـ” إسلام زكي”، تتناغم مع تمويجات خافتة، يصاحبها صوت الفتاة المنكسر المكتوم المعبر عن الاستسلام للواقع بكل عبثيته، إلا فى محطتين، تأخذ الموسيقى منحى حماسي، الأول عندما هاج الواقفون من الذكور، وحلموا الفتاة مسؤولية تعرضها للتحرش، والثانية عندما تمردت الفتاة على المجتمع، وانقلبت على استسلامها، ومنعت التحرش والمتحرش وصرخت “كفاية”.

image001

تختتم الفتاة حوارها الداخلى بدعوة الفتيات لمواجهة التحرش والتوقف عن الشعور بالخزى لأن الخزى والفضيحة لمرتكبه وليس لــ “المجنى عليها”.

على الرغم من أن الفيلم قدم رسالته وافية، إلا أن المخرج اختار أن يدعم الدراما، بالحقائق التى تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الواقع مأساوى، وأن الحالة التى جسدها الفيلم ليست عن معاناة فردية وإنما عن ظاهرة تزداد استفحالًا، فعدد بنهاية الفيلم مجموعةً من الأرقام والإحصاءات من بينها:

41,002,500 هو تعداد سكان مصر من النساء

36,1 مليون هو تعداد ضحايا  النساء اللاتى تعرضن للتحرش فى مصر وهو أكبر عدد من ضحايا التحرش  فى دولة واحدة على مستوى العالم

20,000 سيدة تتعرض للاغتصاب سنويًا

62% من الرجال المصريون يعترفون بتحرشهم بالنساء

53%  من الرجال المصريون يلومون النساء بحجة  “أنها السبب هى اللى جحابته لنفسها”

اختتم “ناصر الله” فيلمه، برسالة مباشرة وواضحة «التحرش ليس له علاقة بزى المرأة وإنما بنظرة الرجل للمرأة .. معًا ضد إرهاب التحرش»