مثل شجرة أورقت: رقمنة الحراك النسوي في الدول الناطقة بالعربية
يزداد يومًا تلو الآخر اعتماد الأفراد على تطبيقات التواصل الاجتماعي، بدءًا من غرضها الأصلي وهو التواصل وخلق معارف وصداقات، ومتابعة كل جديد يجري من أحداث وأخبار أولًا بأول، إلى شراء الاحتياجات الشخصية، وطلب المساعدة برأي أو توصية بشأن منتج أو مشكلة، والتسويق لشخص الفرد أو عمله، بالإضافة إلى تحقيق الطموحات الفردية ذات الصلة بالتأثير في الآخرين أو اكتساب الشهرة، وصولًا إلى رفع الوعي بقضية ما، وكشف الانتهاكات، وتوجيه المناشدات إلى السلطات.
بيد أنه لا يجوز التعميم عند الحديث عن القدرة على استعمال الفضاء الإلكتروني بيسر، وإدارة الحسابات أو الصفحات على تطبيقات التواصل بحرية واستقلالية، وقبل هذا الولوج إلى الإنترنت من دون عراقيل؛ فمن غير الممكن تجاهل الفجوة الرقمية بين الأفراد القادرين على الاتصال بالإنترنت في دول الشمال وأولئك في دول الجنوب العالمي، لا سيما في الدول الأقل نموًا المتركزة في قارتي إفريقيا وآسيا، ويحيلنا هذا إلى تصريح أنخيل غونزاليس سانز، رئيس قسم العلوم والتكنولوجيا والابتكار في شعبة التكنولوجيا واللوجستيات بمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، الذي قال في خلال مشاركته باجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2023، إنه على الرغم من أن 63 في المئة من سكان العالم باتوا على اتصال بالإنترنت، فالبلدان الأقل نموًا لا تتعدى فيها نسبة من لديهم القدرة على الاتصال عن 27 في المئة.
من ناحية أخرى، فإن قدرة النساء على استخدام الإنترنت لا تعادل تلك التي يمتلكها الرجال، إذ تبلغ نسبة من لديهن إمكانية الاتصال بالإنترنت من النساء على المستوى العالمي 57 في المئة بينما النسبة بين الرجال تصل إلى62 في المئة، غير أن اتصال النساء في الدول محدودة الدخل أقل كثيرًا من اتصال نظيراتهن في الدول المتقدمة، ففي الدول الأقل نموًا بلغت نسبة اتصال النساء بالإنترنت خلال العام 2020 فقط 19 في المئة، وهي نسبة ضعيفة للغاية خاصةً بالقياس إلى نسبة مستخدمات الإنترنت في البلدان المتقدمة التي وصلت إلى 86 بالمئة في خلال العام 2019.
كذلك يبقى الحضور الإلكتروني للنساء في النطاق الجغرافي الذي يضم مجموعة الدول الناطقة بالعربية ضعيفًا، وإن كانت الفجوة أقل اتساعًا عنها في الدول الأقل نموًا في العالم، إذ يكشف تقرير للاتحاد الدولي للاتصالات أن 61 في المئة من الرجال في الدول الناطقة بالعربية كانوا على اتصال بالإنترنت خلال العام 2019، في مقابل 47 في المئة من النساء.
الفجوة الواضحة بين النساء والرجال في الفضاء الرقمي الذي لا يقل تأثيرًا في حيوات البشر عن الفضاء الواقعي، يتضح أنها – وفقًا لتقرير تكاليف الاستبعاد الذي أصدره تحالف من أجل إنترنت ميسور التكلفة في العام 2021- امتداد للفجوات ومظاهر التمييز ضد النساء على أرض الواقع، ومنها الفجوة في الأجور بين الجنسين التي تؤثر على قدرتهن على امتلاك أجهزة ذكية دائمة الاتصال بالإنترنت، والقيود الأسرية التي تفرض رقابة على استخدامهن لتطبيقات التواصل الاجتماعي، فضلًا عن الرقابة الذاتية التي يفرضنها على أنفسهن خوفًا من انتهاك خصوصيتهن على الفضاء السيبراني الذي عادةً ما يتبعه تهديدات وابتزاز.
ورغم الفارق الواضح في الحضور الرقمي بين الإناث والذكور في دول الجنوب، ومنها الناطقة بالعربية، الذي هو نتاج طبيعي للتمازج بين الأبوية والرأسمالية المستفحلتين، فإن تأثير النساء على الفضاء الرقمي في الدول الناطقة بالعربية باهر ويستحق التأمل، وقد أثبت العقد الفارط أن هذا الفضاء صار للنساء ساحة للمقاومة والاحتجاج ومقارعة السلطة الأبوية سواء كانت تتمثل في الأسرة والعائلة، أو المجتمع، أو النظم الاقتصادية، أو منظومة الدولة، فكان شاهدًا على احتجاجات نسوية قادتها جماعات منظمة، وأخرى بدأت فردية ثم تحولت إلى صرخات جماعية، ليغدو الفضاء السيبراني في الوقت الحالي – رغم الفجوة الجندرية في الاتصال وخوف كثيرات من الإرهاب الذكوري على منصاته– عنصرًا أساسيًا بل لا غنى عنه، في معاركهن ضد القمع المادي والفكري الجاثم على أجسامهن والقامع لأصواتهن.
منذ بداية الألفية الثالثة أضحى الفضاء الرقمي بالنسبة للحركات النسوية في الدول الناطقة بالعربية رافدًا من روافد النشاط والعمل النسويين، إلا أن العلاقة بين الجانبين صارت وثيقة وعميقة بعد العام 2011 في أعقاب الثورات والانتفاضات الشعبية التي اجتاحت عددًا من الدول الناطقة بالعربية آنئذٍ، حيث أحاط الزخم بمواقع التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى مساحات مفتوحة ليس فقط للتعبير عن الرؤى والآراء وإنما لحشد المناصرة والدعم والتأييد للأفكار والمطالب والتحركات، وقد حلت الحركة النسوية في مقدمة الحركات السياسية والاجتماعية التي أحسنت الاستفادة من الفضاء الرقمي إبان تلك المرحلة، خاصةً أن العديد من المجموعات التي نشأت وقتها تعاملت معه باعتباره ساحة نضال أساسية وليس مكانًا لعرض أو إسناد النشاط الذي يجري على أرض الواقع، مثلما كان الوضع الغالب قبل العام 2011.
بواكير النسوية الرقمية.. التدوين
في دراستها الصادرة في العام 2006 بعنوان «التواصل بين الجنسين في المجال العام: المرأة وتكنولوجيا المعلومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا»، سجلت الباحثة لبنى الصقلي ملاحظتها عن تنامي اعتماد الناشطات والناشطين في قضايا النوع الاجتماعي على الإنترنت في تلك الفترة، وقد اعتبرت ذلك مؤشرًا على اتجاهات جديدة تمكينية باستطاعتها أن تؤثر على الطبيعة الجندرية للمجال العام في منطقة شمال إفريقيا وغرب آسيا، إذا ما استغلت الناشطات إمكانات التكنولوجيا بالكامل.
وقد شددت لبنى الصقلي على أهمية التكنولوجيا الحديثة بالنسبة للناشطات لثلاثة أسباب؛ أولها هو الوصول الميسور إلى المعلومات والمعرفة المتجاوزة لآليات الرقابة، مما يجعل عملية تلقي المعلومات ذات الصلة واسترجاعها أسرع وأقل كلفة، وثانيها هو زيادة حجم أصوات النساء ومبادراتهن وأنشطتهن على المستويات الإقليمية والدولية والوطنية من دون الحاجة إلى الاعتماد حصريًا على وسائل الإعلام التقليدية، أما السبب الثالث من وجهة نظرها فهو تشجيع النساء (الناشطات) على التفكير في طرق جديدة لإقامة علاقات مهنية، وتشكيل تحالفات، وتوسيع نطاق تدخلاتهن.
كما لفتت لبنى الصقلي، الباحثة في تقاطع النوع الاجتماعي وسياسة الشباب والتواصل والثقافة، إلى أن إطلاق النساء للمدونات والمجلات الإلكترونية مع أن هذه الأدوات حديثة العهد ولا يزال نطاقها وتأثيرها غير مكتشفين، يبرز مسعاهن إلى انتزاع مساحة في العالم السيبراني للوصول إلى أعداد أكبر من القراء/القارئات وأكثر تنوعًا.
المدونات بشكل خاص كانت مساحة لخروج الفكر النسوي من الغرف المغلقة، والمطبوعات المنزوية في جوانب المكتبات أو محفوظة داخل المؤسسات الحقوقية، إلى فضاء أوسع وجمهور أكبر، وهو ما رصدته الباحثتان المصريتان نيفين عبيد وداليا عبد الحميد في دراستهما المنشورة في العام 2009 بعنوان «النسوية والتدوين في الفضاء الافتراضي»، التي أكدتا فيها أنه بفضل العديد من المدونات والمواقع الإلكترونية لم يعد التفكير النسوي بعيدًا عن التناول والنقاش، ولم يعد حكرًا على المختصات والمختصين، وبات بالمقدور مناقشة الموضوعات «المسكوت عنها» مثل حقوق النساء الجنسية، وحقوق المثليات، وما بينهما، خاصة في ظل إتاحة تسجيل المدونات بأسماء مستعارة تخفي هوية صاحباتها وأصحابها.
بعض الوثائق تعتبر أن بداية علاقة الناشطات النسويات العربيات بالفضاء الرقمي تعود إلى نهاية التسعينيات، وقتما عزمت مجموعة من المهاجرات العربيات وذوات الأصول العربية في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، على تأسيس منظمة فرعية لجمعية تضامن المرأة العربية التي أسستها نوال السعداوي في مصر، وقد أطلقن باسمها موقعًا إلكترونيًا وأعددن قائمة بريد إلكتروني لربط الناشطات العربيات على المستوى الدولي، بغية خلق مساحة آمنة لهن ولحلفائهن بعيدًا عن تقييد وملاحقة الحكومات العربية لكثير من النسويات، كما كان حال المفكرة والمنظرة المصرية نوال السعداوي في ذلك الوقت.
كان الهدف من الموقع الإلكتروني الذي أطلقه قسم جمعية تضامن المرأة العربية في سان فرانسيسكو في العام 1999، هو إتاحة الفرصة للناشطات العربيات كي يناقشن بحرية القضايا والهموم الجامعة، أما قائمة البريد الإلكتروني فكان مقصدها هو التلاقي والتواصل والتشبيك بين ناشطات لا تجمعهن رقعة جغرافية واحدة. لكن ثمة إشكالية في الإشارة إلى هذه التجربة باعتبارها المحطة الأولى في مسار تطور علاقة الحركة النسوية العربية بالفضاء الرقمي، إذ أن معظم من تفاعلن معها كن مهاجرات من الدول الناطقة بالعربية إلى الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك كانت تهيمن القضايا التي تشغلهن على محتوى الموقع الإلكتروني ومنتدى النقاش، وأغلبها لم يكن يتماس مع واقع النساء اللاتي ولدن ويعشن في البلدان الناطقة بالعربية نظرًا لاختلاف مجتمعاتها وقوانينها وثقافتها عن تلك الخاصة بالدول الغربية.
منصات التواصل.. كسر هيمنة النسوية المركزية النخبوية
تقول الأكاديمية ريتا ستيفين في مقالها المنشور في العام 2013، بعنوان «النسوية السيبرانية وانعكاساتها السياسية على النساء في العالم العربي»، إن الناشطات العربيات صرن يستخدمن الفضاء الرقمي كأداة نسوية منذ العام 2011، لافتةً إلى أن ذلك يتصل بالفرص التي توفرت للنساء في الدول الناطقة بالعربية من خلاله، فكانت سببًا في تعزيز تفاعلهن ومشاركتهن السياسية من خلال إطلاق العرائض بسهولة، وجمع عدد كبير من التوقيعات من أي مدينة أو بلد في الحسبان، والنشر السريع والواسع للخطابات والبيانات والمعلومات حول شتى القضايا المحلية والعالمية، وتعد ريتا ستيفين مقدرة النساء على فعل كل ذلك في أي مكان ووقت طالما كان بحوزتهن حاسوب أو جهاز ذكي، ميزةً صبت في صالح الحركات النسوية.
وفقًا لريتا ستيفين، الباحثة الزائرة في مركز الدراسات العربية المعاصرة بجامعة جورج تاون الأمريكية، فقد مكّن الفضاء الرقمي النساء من التحرر من الأبوية المسيطرة على المنظمات الموجودة على الأرض التي ترتكز في هياكلها إلى المركزية والتراتبية، واستطعن بالاعتماد على المنصات والتطبيقات الحديثة أن ينظمن تظاهرات واحتجاجات افتراضية، بعضها كان سببًا في تغيير قوانين تمييزية أو أسفر عن منع إصدار تشريعات متحيزة.
علاوة على ذلك، استخدمت النساء أدوات التوثيق وصناعة المحتوى المرئي والمكتوب والمسموع، الذي صار يُعرَف باسم «الإعلام الرقمي»، و«الإعلام البديل»، للتصدي إلى الإرهاب الجنسي ضدهن في الفضاءين الواقعي والافتراضي.
ما تطرحه ريتا ستيفين بشأن التراتبية والمركزية داخل المؤسسات النسوية، سبق أن تناولته الباحثة الإيرانية فالنتين مقدم في دراسة بعنوان «عصرنة المرأة: الجندر والتغيير الاجتماعي في الشرق الأوسط»، إذ أكدت أن معظم المنظمات النسوية التي تأسست في خلال القرن العشرين في دول هذه المنطقة، اتسمت هياكلها التنظيمية بالهرمية ومركزية اتخاذ القرار، ولهذا جاءت المساحات الرقمية البديلة التي اقتطعتها المجموعات الناشئة بعد العام 2011، تجسيدًا للتمرد والسخط على مأسسة ومهننة الحراك النسوي تبعًا للقواعد ذاتها التي ترسخ النظم الأبوية.
في السابق، كان الحضور جسديًا والوجود على الأرض شرطًا أساسيًا لممارسة النشاط والعمل الحقوقي النسوي، وهو ما أدى إلى تغييب وإقصاء فئات كثيرة من النساء وأحاط الحركة النسوية بسوار النخبوية والطبقية، ولكن منذ خمسة عشر عامًا لم يعد ذلك هو الحال، فقد ظهرت عشرات المجموعات والمبادرات التي اكتفت بالفضاء السيبراني ساحة للنضال، وتشكلت شبكات افتراضية متجاوزة للحدود الجغرافية أحدثت صدى واسع وخلقت نقاشات مترامية الأطراف على منصات التواصل الاجتماعي، تحديدًا فيسبوك وتويتر (إكس حاليًا)، ولعل أبرز النماذج في هذا الشأن هي «انتفاضة المرأة في العالم العربي» التي تأسست في أكتوبر من العام 2011 على يد ناشطات من دول مثل مصر، وفلسطين، ولبنان، اخترن لمبادرتهن شعار «معًا من أجل نساء ينعمن بالحرية، والاستقلالية، والأمان في العالم العربي»، وكان هدفهن هو التناقش والتحاور حول قضايا ومشكلات النساء المشتركة في البلدان الناطقة بالعربية، واستغلال الفضاء الإلكتروني لمقاومة الهجمات الذكورية المرتدة ومحاولات إبعاد النساء عن المجال العام التي تضاعفت في الفترة اللاحقة على الثورات والانتفاضات التي اصطلح عليها باسم «الربيع العربي».
برزت أيضًا خلال السنوات العشر الماضية احتجاجات نسوية افتراضية غير مألوفة شكلًا ومضمونًا بالنسبة للمجتمعات العربية، فقد توالت على منصات التواصل الاجتماعي انتفاضات النساء والفتيات على التطبيع مع جرائم الاعتداء الجنسي والاغتصاب، واستمرار تبريرها، وحماية مرتكبيها.
كان وقود هذه الاحتجاجات هو قصص الناجيات الشخصية التي نشرنها على منصات التواصل الاجتماعي، وقد انفضح خلال موجات الغضب المتتابعة العديد من المعتدين الجنسيين، ومنهم شخصيات ذات نفوذ وسلطة، وتبين أيضًا تورط جهات بالتواطؤ، تباينت بين مؤسسات إعلامية، ودينية، وعاملة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسانـــ/ة، وأحزاب سياسية.
من ناحية أخرى، ساعدت هذه الاحتجاجات الافتراضية النساء في اختراق تابوهات اجتماعية لم يكن من الممكن الخوض فيها فيما قبل، كالحريات الشخصية لهن، واستقلاليتهن الجسدية، ومفهوم الرضائية في العلاقات بين الجنسين، والاعتداءات الجنسية على يد الأقرباء والشركاء الحميمين والأزواج.
ونذكر في هذا الصدد الحراك الإلكتروني الذي انطلق في مصر في منتصف العام 2020، وذاعت معه وسوم مثل #أول_محاولة _تحرش_كان_عمري، و#افضحوا_المتحرشين و#بداية_ثورة_نسوية، واحتجاج النساء التونسيات على الفضاء الرقمي ضد العنف الجنسي عبر وسم #أنا_زاده (تعني أنا أيضًا) الذي ظهر في نهاية العام 2019 واستمر زخمه خلال العام التالي، بالإضافة إلى الاحتجاج الإلكتروني الذي أسقط شخصيات عامة في لبنان، بعد أن دشنت مجموعة من الناشطات حسابًا على موقع إنستغرام بعنوان «لقد فُضِحت/منحرفو لبنان – You are exposed/Pervs of Lebanon» لاستقبال حكايات الناجيات ونشرها مرفقة بأسماء المعتدين.
لا يمكن حقًا إنكار التأثير الإيجابي الكبير للفضاء الرقمي على التنظير والنشاط النسويين، إلا أن ذلك يوازيه تأثير سلبي ليس أقل حجمًا عن الأول في ظل التصاعد المستمر للعنف ضد النساء على الفضاء الإلكتروني، ولهذا دوره القوي في تعضيد الفجوة الرقمية بين الجنسين.