عندما استولت حركة الطالبان على وادي سوات رفعت “ملالا يوسفزاى” صوتها ضد الظلامية رافضة الاستسلام للتطرف و كادت أن تدفع حياتها ثمنًا لذلك الرفض، حينما تعرضت في أكتوبر عام 2012 لهجوم من أحد مسلحى حركة طالبان، أثناء عودتها من المدرسة، وأصيبت خلال هذا الهجوم بطلق ناري في رأسها، إلا أن الأقدار شاءت أن يحيا الحلم متمثلًا فى “ملالا” وتحمله داخلها، بعد أن نجت من الموت بأعجوبة.
كان من الممكن أن تختار التراجع، والسير دون صوت عالى ووفق القواعد التى فُرِضَت بالسلاح الذى كاد يفتك بها، إلا أنها أصرت على أن تخوض الحرب حتى النهاية ضد التطرف، واستمرت “ملالا” تطالب فى كل مجال متاح ومحل تطأه قدماها بحقها وحق فتيات بلدتها فى التعليم.
“من فيكن ملالا؟” سأل المسلح
أنا ملالا وهذه هي حكايتي
يحكى كتاب “أنا ملالا – I’m Malala” بشكل عام قصة ملالا فى قريتها البسيطة، ويتعرض لوضع الأنثى فى ظل أعراف وتقاليد هذه القرية، التى ترفض أن تخضع لها “ملالا” حتى لا يقتصر دورها على رعاية البيت، وإعداد الطعام، وإنجاب الأطفال.
نتعرف من خلال الكتاب الذى ينتمى لــ”السيرة الذاتية”، على حكاية أسرة بشتونية، عاشت وسط إرهاب حركة طالبان وفتاة مراهقة تنضال من أجل حق الفتيات فى التعليم، تسرد تلك المراهقة، قصتها خلال 17 عامًا هم عمرها، قبل وبعد لحظة إطلاق النار صوبها، فى حادثة أدان وحشيتها العالم من أقصاه إلى أدناه، عندما صعد مسلح على حافلة مدرسة مليئة بالفتيات في وادي سوات، وسأل: “من فيكن ملالا؟”، قبل أن يطلق النار عليها ويصيب رأسها.
يتكون الكتاب من خمسة فصول، بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة، الأقسام هي: “ما قبل طالبان”، “وادي الموت”، “ثلاث فتيات وثلاث طلقات”، “بين الحياة والموت”، “حياة ثانية”.
وينقسم كل قسم إلى عدة فصول فالكتاب أشبه بالنظر في لوحة فنية تضم تفاصيل كثيرة، نمر عليها تفصيلة وراء الأخرى حتى تكتمل الرؤية كليًا.

167353803757578

أن تكونين أنثى فى مجتمع ميلادك فيه “عار”
تحكي”ملالا” فى البداية عن مولدها وكيف تعامل المولودة الأنثى فى بلدتها لتفصح بتفاصيل صغيرة عن حجم التمييز الذى تعيشه المولودة، مثل الحزن العميق والشفقة تجاه أمها عندما علم أهل البشتون أنها ولدت بنتًا.
وترصد “ملالا” فى كتابها، معاناة الفتيات البشتونيات، فهن محكوم عليهن أن يكن جماد، لا يتكلم، لا يتحرك، لا يشعر، فإن بادلت رجلًا الحب حتى من وراء النوافذ، فهى اَثمة، جلبت الخزى والعار لعائلتها، وقد تلقى حتفها، مثلما حدث لفتاة فى الـ15 تدعى “سيما”، قيل أنها انتحرت وتبين أن أسرتها قد قتلتها بدس السم فى الطعام، بعد أن نمى إلى علمهم أنها تكن حبًا لرجل يبادلها نفس المشاعر على استحياء.
المرأة فى تقاليد البشتون، الحلقة الأضعف التى تستخدم فى حل الخصومات الثأرية، تقدم الفتاة للقبيلة الأخرى حتى ينتهى الأمر.
تروى “ملالا” فى كتابها، تفاصيل مضايقات عديدة تعرضت لها أسرتها وخاصة والدها”ضياء الدين”الذى كان يتلقى العديد من التهديدات،لكنه على الرغم من كل ذلك، أصر على الدفاع عن حق ابنته في التعليم، وأصبح على إثر ذلك الدفاع والمساندة، عدوًا لحركة طالبان وحاولوا التربص به والإيقاع به.
“نشأت فى بلد تأسس فى منتصف الليل ..وعندما كنت على شفا الموت كان الوقت قد تجاوز منتصف النهار بقليل”
الأب المساند
تلحظ من خلال لغة “ملالا”، وما اختارت أن تحكيه عن والدها، كم تشعر بالإعجاب والتقدير تجاهه، فتقول أنه يختلف عن معظم رجال البشتون، ولم يأبه للأعراف الاجتماعية المغلوطة، وتحكى كيف أضاف اسمها إلى شجرة العائلة بكل فخر وتقول “أخذ الشجرة، ورسم خطاً يمتد من اسمه وفي نهايته كتب “ملالا” ودون أن يهتم لسخرية من حوله من إضافة اسم أنثى”.

654560976661742والد”ملالا”هو الذي لمح في عيونها شيئًا مختلفًا، فتقول أنه بعد مولدها قال ” أكاد أرى شيئًا مغايرًا فى هذه الطفلة”، بل أنه تحدى القواعد التقليدية التى تحتفى فقط بالذكور وطلب من أصدقائه أن يلقوا فى مهدها الفاكهة المجففة والحلوى، والنقود مثلما يفعلوا مع الذكور عند ميلادهم.

“سوف أدافع عن حريتك ملالا .. استمرى فى أحلامك”

وقد أسماها “ملالا” تشبهًا بالبطلة الأفغانية ملالاي مايواند، التي تعد مصدر إلهام الجيش الأفغانى الذي تمكن من إلحاق الهزيمة بالبريطانيين بسبب اقتحامها لميدان المعركة في عام 1880 في واحدة من أكبر المعارك الأنجلو أفغانية الثانية، بينما استاء جدها من اختيار هذا الاسم، لأنه اسم حزين يعني المهمومة.
تتحدث أيضًا عن مبادرة والدها لتأسيس المدرسة التي كانت تذهب إليها والتى أسماها “خوشال”، وهو نفس الاسم الذي اختاره لابنه الذي ولد بعد “ملالا” بسنتين.
تتذكر “ملالا” بكل أسى أنها كانت ترى كوابيس مخيفة بسبب خوفها حيث كانت تتخيل دائمًا مواجهتها مع الإرهابي الذي قد يهاجمها، وتحيط بها الأسئلة، ماذا ستفعل؟ هل ستضربه بحذائها؟ وتعود وتقول أنها إن فعلت ذلك، فلن يكون هنالك أي فرق بينها وبين الإرهابي. ثم تتساءل هل يمكنها أن تواجه الارهابى بالفكر والرأى؟

90357868000865وتعلمت من خطأ أمها

تفرد “ملالا” مساحة للحديث عن أمها عندما كانت طفلة فى الـ6 من العمر، والتحقت بالمدرسة لتكون البنت الوحيدة بين فصل كامل للبنين، لكنها تركت المدرسة فى الفصل الدراسي ذاته.
على الرغم من أنها كانت تستذكر دروسها بشغف، وتذهب للمدرسة بفخر، وتحمل كتبها باعتزاز، إلا أنها وجدت نفسها يوميًا تذهب وحيدة للمدرسة بينما بنات عمومتها يلعبن فى البيت سويًا، ظنت بسذاجة أنهن أفضل منها حالًا، وتساءلت ما جدوى التعليم إن كانت فى النهاية مجبرة على مصير طهى الطعام، وأعمال التنظيف، وتربية الأطفال، فتركت المدرسة وباعت كتبها ولم تعد لها أبدًا.
ولم تندم الأم إلا عندما قابلت والد “ملالا”، الذى قرأ الكثير من الكتب وكان يكتب لها من القصائد ما لا تستطيع حتى قراءته.
أحلام ومخاوف ..
تعود “ملالا” بنا لذكرياتها فى المدرسة، وأحلامها في أن تخدم مجتمعها، وأحلام صديقاتها بأن يصبحن طبيبات في المستقبل.
ولكنها دائمًا ما تستعيد تحذيرات صديقتها الحميمة “منيبة” وقلقها الدائم عليها، وتتذكر كيف كانت هى تهدّئها وتطمئنها قائلة “لا داعي للقلق، فطالبان لم يتعرضوا لفتاة صغيرة قط”
كانت “ملالا” تحلم بأن تصعد إلى جبل إلوم مثل الإسكندر الأكبر، وتحلم بالذهاب إلى ما هو أبعد من وادى سوات، لكنها كانت كلما رأت أخواتها يركضون فى سطح المنزل، ويطيّر كل منهم طائرته الورقية، تتساءل عن مدى الحرية التي يمكن أن تبلغها الفتاة فى المستقبل.
وتعبر “ملالا” فى الكتاب عن ألمها حين كبرت قليلًا وعلمت أنه ينبغي على الفتيات المكوث في البيت، وأن كل واجبهن فى الحياة هو الطهي وخدمة الاَباء و الأخوة.
ولكنها قررت منذ كانت طفلة أنها لن تكون مثل نساء بلدتها المقيدات بما يسمى العادات والتقاليد فهى تريد أن تصبح مثل ما قال والدها”ملالا مثل طائر حرّ طليق”

“هنا تستطيع الفتاة الذهاب إلى المدرسة ولكن طالبان كانوا أقرب إلينا مما نتصور”

تحكى “ملالا” عن تفاصيل محاولة اغتيالها من قبل طالبان، حيث كانت عائدة بالحافلة المدرسية مع أصدقائها وإذا برجل ملتح يوقف الحافلة ومعه مسدس ويسأل “من فيكن ملالا؟” ثم أطلق عليها ثلاث رصاصات على التوالى اخترقت الأولى محجر عينها اليسرى وخرجت من تحت كتفها الأيسر والرصاصتين الأخريين أصابتا فتاتين بجانبها.
تقول أن صديقاتها أخبرنها كيف كانت ترتعش يد المسلح الذي أطلق النار نحوها، وتصف ذلك اليوم بأنه يوم تغير فيه عالمها بأكمله، انتقلت وهي فاقدة الوعي إلى خارج البلاد للعلاج، وأقامت في مدينة برمنغهام ببريطانيا، تتذكر ماضيها.
صاحبة القصة أضحت الآن، رمزًا عالميًا للنضال السلمي وأصغر حاصلة على جائزة نوبل للسلام وقدوة لكثير من الفتيات حول العالم.

يعرض الكتاب حالة إنسانية معقدة، حيث تتجمع كل الجهود لجعل الفتاة الباكستانية، والبشتونية خاضعة لتقاليد المجتمع الذي يرغمها على الاختباء ولكن المراهقة الصغيرة، نجحت بقوة عظيمة في تخطي محنتها وترك بصمتها ليس فى باكستان فحسب، بل فى مختلف أنحاء العالم، خاصة من خلال هذا الكتاب الذى يتناول سيرتها الذاتية.
الكتاب يستحق القراءة حقًا، عامر بالمشاعر، يدفعك للتنقيب فى الذات عن مواطن قوتك، والتيقن من أن الحلم أطول عمرًا من الكابوس، كما أن الكتاب ممتلئ بحقائق عن واقع المرأة فى مجتمعات يخيم عليها الظلام ولم يأتها النهار بعد، وحرية النساء فيها وراء شمس لا تصبح.