السياسة اللغوية المتحيزة في خطاب الوثائق الدستورية والتشريعية المصريــة.. أولسنا مرئيـات؟
# تحدد الأكاديمية النسوية سارة ميلز المتخصصة في علم اللغويات، ثلاثة مستويات لرصد وتحليل التحيز الجندري في النصوص منطوقة ومكتوبة وهي: الكلمة، والجملة، والخطاب. نحن هنا لا نغطي المستويات الثلاث في النصوص التي نتناولها، وإنما نركز بشكل خاص على مستوى الخطاب.
تؤطر الدساتير والقوانين لحقوق الأفراد وواجباتهم نساءً ورجالًا على حد سواء، بيد أنه حينما بدأ العمل بها كان جميعها مخطوطًا بأقلام الرجال فجاءت تدور في فلكهم، ولكن بعد أن فرضت النساء وجودهن في المجال العام وولجن إلى المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، غدت مشاركتهن في كتابة الدساتير وتعديلها أو صياغة التشريعات وتطويرها ضروريةً بل بديهيةً، إلا أن مساهمتهن في إعداد وكتابة دساتير وقوانين بلدانهن التي تمثل قاعدة لا غنى عنها في تنظيم علاقة المواطنات والمواطنين بالدولة والمجتمع، لم تسفر عن زوال التمييز ضدهن. يقف وراء ذلك أسباب عديدة، أكثرها بروزًا هو عدم تمكن النساء من المشاركة في التشريع بالقدر والفعالية التي يمتلكها الرجال، أخذًا في الاعتبار أن نسبة عضوات المجالس التشريعية حول العالم لا تزال في حدود ٢٦.٥ في المئة.
في مصر طالما كانت مشاركة النساء في كتابة الوثائق الضامنة للحقوق والحريات والمنظمة للحياة اليومية شديدة الضآلة، فعندما أجريت تعديلات على الدستور الحالي قبل أربع سنوات، كانت نسبة النائبات في البرلمان الذي أنيطت به هذه المهمة 13 في المئة فقط. وحين خضع الدستور الصادر في العام 2012 إلى تعديلات وضعتها لجنة خاصة في العام 2013، كانت نسبة العضوات باللجنة 10 في المئة، بفارق ثلاث نقاط فقط عن تمثيلهن في اللجنة التأسيسية التي أعدت دستور 2012. أما فيما قبل ثورة يناير 2011، فلم يكن للمصريات نسبة مشاركة برقم مزدوج في عمليات إعداد وتحديث دستور العام 1971، الذي عُرِفَ طويلًا باسم دستور مصر الدائم.
يستثير إصرار الرجال على الاستئثار بإعداد وكتابة الدساتير والتشريعات احتجاجًا نسويًا بين الفينة والأخرى، ليس بسبب الأرقام والنسب مجردين وإنما اعتراضًا على جذر الأزمة المؤبدة وهو العنجهية الذكورية التي تسوقهم إلى السطو على كل مجال يحدد الأطر الاجتماعية والنظم السياسية والاقتصادية التي توجه حيوات الأفراد والجماعات، والذي تتجسد تداعياته في أهداف مستقرة يمكن اختصارها في الحفاظ على الهرمية الاجتماعية والتفوق الذكوري. ولكن مع تصرم السنين صارت صياغة وتحرير الدساتير والتشريعات مبعثًا إضافيًا للاحتجاج النسوي في هذا الشأن، لا سيما بعد أن طفقت تظهر بوادر للبحث اللساني الاجتماعي من منظور نسوي في الدول الناطقة بالعربية، وبزغ تيار يسعى إلى توثيق مظاهر التحيز الذكوري في اللغة العربية (الفصحى) التي تعتبرها 24 دولة لغة رسمية أو رسمية مشتركة.
تمظهرات التحيز الجندري في الخطاب الرسمي
التحيز الذكوري سمة ثابتة في الوثائق الدستورية والتشريعية وخطاب المؤسسات العامة في مصر، نتيجة تقيدها بنواميس اللغة العربية النمطية التي تجعل الرجل وحده هو المعادل الطبيعي للبشرية ككل، بينما تختفي النساء في الخطاب ولا تظهر إلا عندما يكون الموضوع المتناول يتعلق بــ«المرأة» حصرًا، أو إذا أريد أن يؤطر الموضوع على هذا النحو، وهذا ما يجعلهن في كل المكاتبات والمخاطبات غير مرئيات إلا في أوقات التمييز الاضطراري أو العمدي إما لصالحهن وإما ضدهن.
السياسة اللغوية المتحيزة جندريًا تتبدى بوضوح في الدستور المصري، الذي لا تستعمل مواده المعنية بحقوق وواجبات المصريات والمصريين عمومًا، كلمتي المواطنات والمواطنين جنبًا إلى جنب وإنما تعتمد على المفرد المذكر «المواطن» للاستدلال على الجميع رجالًا ونساءً، ومنها على سبيل المثال المادة (١٢) التي تنص في جزء منها على «العمل حق، وواجب، وشرف تكفله الدولة. ولا يجوز إلزام أي مواطن بالعمل جبرًا، إلا بمقتضى قانون…»، وكذلك المادة (18) التي تتضمن عبارة «لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقًا لمعايير الجودة…»، ويحضر المفرد المذكر «المواطن» بالطريقة ذاتها في المواد التي تشير إلى حقوق التعليم، والثقافة، والغذاء، والمشاركة في الحياة العامة.
كما تغتص المواد المدرجة تحت الباب الخامس المخصص لـ«نظام الحكم» بالألقاب والصفات والضمائر المذكرة، إذ تشير معظم مواد الفصل المتعلق بمجلس النواب إلى عضوات وأعضاء مجلس النواب بـ«عضو المجلس»، بينما لا تأتي إشارة إلى عضوات المجلس إلا بكلمة «المرأة» في المادة (١٠٢) التي تنص على تخصيص نسبة من المقاعد للنساء، واللافت أن هذه المادة عندما تنتقل إلى توضيح شروط الترشح لعضوية مجلس النواب، يعود الخطاب بصيغة المفرد المذكر «يُشترَط في المترشح لعضوية المجلس أن يكون مصريًا، متمتعًا بحقوقه المدنية والسياسية، حاصلًا على شهادة إتمام التعليم الأساسي على الأقل.»
في المنحى ذاته، يسير الفصل الخاص بالسلطة التنفيذية، إذ يسيطر ضمير الغائب للمذكر منفصلًا ومتصلًا ومستترًا على المواد التي تحدد شروط ومهام ومسؤوليات من ينجحن وينجحون في الوصول إلى رئاسة الدولة، ورئاسة الوزراء، وعضوية الحكومة.
وفقًا للسياسة اللغوية نفسها صيغت التشريعات المصرية، ولذا تعتمد معظم موادها وبنودها على التذكيـر والإفراد، إذ توازي كلمة «المواطن» رمزيًا المواطنات والمواطنين، وتشير كلمة «الطفل» إلى الطفلات والأطفال، وتُستخدَمُ «الموظف» كتعبير شامل للموظفات والموظفين.
وبالنظر في قانون العقوبات المصري، فإن النسبة الأكبر من مواده البالغ عددها 380 مادة تخاطب المصريات والمصريين بالمفرد المذكر، ومطلوب من النساء أن يرين أنفسهن مخاطبات في النصوص المُخضَعةِ للتذكير الكامل. غير أن المواد القليلة التي تتوجه إلى النساء مباشرة، وهي الواردة في البابين الثالث والرابع المعنونين بـ«إسقاط الحوامل وبيع الأشربة أو الجواهر المغشوشة المضرة بالصحة» و«هتك العرض وإفسـاد الأخلاق»، بعضها يؤنث الأسماء والأفعال والضمائر لتغطيته قضايا تتصل بخصائص بيولوجية للمرأة كالحمل والإجهاض، وبعضها الآخر يرتكن إلى المفرد المؤنث تجسيدًا لبعض القناعات المترسخة في الثقافة الذكورية إزاء الاغتصاب والاعتداء الجنسي، إذ لا يعتبر النص أن جريمة الاغتصاب قد وقعت إلا إذا كانت امرأة هي المجني عليها وكان المغتصب رجلًا، وبشرط أن يكون الذكر قد استخدم القوة الجسدية لممارسة الجنس مع الأنثى، والجنس هنا يؤشر إلى إيلاج العضو الذكري في المهبل لا شيء غير هذا، ومن ثم فإن عدم توفر أي من هذه الحيثيات لا يجعل الجريمة اغتصابًا (علمًا بأن القانون المصري لا يستخدم كلمة الاغتصاب صراحةً)، وغالبًا ما ينحدر توصيف الجرم وقتها إلى هتك العرض، وهي تسمّية أبوية بامتياز يستعملها القانون وصفًا لمروحة واسعة من جرائم الاعتداء الجنسي.
على النسق نفسه، يسير قانون العمل الذي يرمز إلى العاملات والعاملين بـ«العامل»، وصاحبات وأصحاب الأعمال بـ«صاحب العمل»، ويكتفي بكلمة «الوزير» للاستدلال على عضوات وأعضاء الحكومة المسؤولات والمسؤولين عن الوزارات المعنية، بينما لا يظهر لقبا «العاملة » و «العاملات» إلا في فصل معنون بـ«تشغيل النسـاء»، ولعل مجرد تخصيص مواد تفصل النساء بدلًا من دمجهن في شتى أبواب وفصول القانون هو تمييز سلبي في حد ذاته، ويزداد هذا التمييز وضوحًا فيما تنص عليه المواد بشأن تحديد مواعيد وأعمال لا يجوز اشتغال المرأة بها بذريعة الضرر الأخلاقي والصحي. علاوة على أن هذا الفصل بمجمله مُوظّف لهيكلة ظروف العمل بما يحمي التوزيع النمطي للأدوار بين الجنسين داخل المنزل.
بقاء اللغة على حالها هو حفاظ على التراتبية الجندرية
يتعلل المدافعون عن السياسة اللغوية التي تتبناها مختلف المؤسسات الرسمية، بأنها تطبيق والتزام بما اصطلح عليه بـــ «قواعد اللغة العربية الأصيلة»، وهي القواعد التي تميل كفتها إلى الرجل، بارتكازها على تغليب التذكيــر على التأنيث، والاعتماد على المفرد المذكر للاستدلال الجنسين، واستخدام الجمع المذكر للتعبير عن الذكور والإناث معًا. أما المفرد المؤنث وجمع المؤنث السالم فيكثر استعمالهما عند جمع الذكر (غير العاقل)، ولذا يغدو الجبل الشاهق إذا تعدد جبالًا شاهقة أو شاهقات، بينما السائد والمعهود لجمع المهندس والمهندسة هو كلمة «المهندسين» من دون أن تكون معطوفة أو معطوفًا عليها كلمة «المهندسات.»
يزعمُ مطبّقو هذه السياسة اللغوية أن الحديث بضمير الغائب والمخاطب المذكر ليس تحيزًا إلا لمن يريد أن يراه كذلك، وحجتهم في ذلك أن النساء والرجال اعتادوا آليًا على استعماله كضمير محايد، وهي سردية مماثلة لتلك التي برزت بقوة في السبعينيات والثمانينيات بين معارضي حركة الإصلاح/التطوير اللغوي النسوي للإنجليزية (Feminist Language Reform)، لكن الأخيرة تراجعت إلى حد كبير في الوقت الحالي بعد أن فندتها العديد من المنظرات والكاتبات النسويات، على غرار جلوريا ستاينم، التي خلُصت إلى أن استخدام الضمير هو (He) واسم الرجل (Man) باعتبارهما كلمات محايدة يجعل النساء غير مرئيات، مما يؤدي إلى تشكّل وجهة نظر متحيزة جنسيًا تجاه العالم.
وتجادل كذلك مدارس اللسانيات الاجتماعية، التي انبثقت عن علم اللسانيات في ستينيات القرن الماضي، بأن اللغة في الأصل أداة اجتماعية لا يمكن عزلها عن السياق الذي نشأت فيه؛ وعلى ذلك تكون معظم اللغات قد تخلّقت لترجمة الرؤية الذكورية السائدة للعالم نطقًا وكتابة، وقد دعمت أكاديميات نسويات القول بأن اللغة صنيعة ذكورية تأسست على قواعد متحيزة تستبعد النساء وتخفيهن، من بينهن الأمريكية جوديث بتلر التي تناولت بالتحليل في كتابها «أزمة الجندر: النسوية وتخريب الهوية» الارتباط الوثيق بين الهياكل الاجتماعية واللغوية، وعلاقته بديمومة الهيمنة الأبوية وفرض هوية جندرية بعينها على الأشخاص.
نحو سياسة لغوية شاملة جندريًا
اللغة العربية واحدة من اللغات التي ترتكز إلى ثنائية الذكر والأنثى التي عادةً ما يتغلب فيها الذكر، على عكس لغات أخرى غير مجندرة كالتركية، والفنلندية، والفارسية، والصينية التي تختفي فيها هذه الثنائية ولا أفضلية لجنس على الآخر في الخطاب، ومع ذلك لم تشهد العربية تطويرًا أو إصلاحًا كالذي حازته لغات تعاني بدرجات مختلفة من الإشكالية نفسها مثل الإنجليزية، والفرنسية، والسويدية، وتعزي بعض المجموعات النسوية المنشغلة باللغة ذلك إلى الرفض العريض الذي يجابه هذه المسألة، نظرًا إلى إحاطة اللغة العربية بهالة من التقديس بسبب ارتباطها بالدين الإسلامي وكونها اللغة التي نزل بها القرآن، رغم أن العربية (الفصحى) كانت لغة سكان شبه الجزيرة قبل الدعوة إلى الإسلام، وجاء القرآن بها حتى يفهمه أهل البيئة المستهدفين بالرسالة.
لقد بدأت المقاربات النسوية للغة العربية قبل ما يقرب من ثلاثين عامًا من أجل استجلاء مظاهر التحيز الجندري فيها وتمهيد الطريق إلى تخليصها منه، وقد أفضت هذه الجهود إلى اجتراح بدائل للقواعد والمفردات التي تجعل الذكر هو الأصل والقاعدة في الخطاب، كاستخدام صيغ الجمع بدلًا من الاسم المفرد المذكر في التعميم حتى تشعر النساء بأنهن مرئيات. وبناءً على هذا الطرح يكون الأشمل هو الاستعاضة عن كلمات مثل المواطن بالمواطنين، والعامل بالعمال، والطبيب بالأطباء.
ذهبت بعض الاقتراحات إلى صيغة أخرى أكثر شمولًا وهي إرفاق الجمع المذكر أو جمع التكسير بجمع المؤنث إما بإضافة حرف العطف (الواو) وإما بفصل الكلمتين بالخط المائل (/): المواطنات والمواطنون، العاملات/العاملون، الطبيبات والأطباء، المرشحات/المرشحون.
وفيما يتعلق بالأفعال والأسماء التي اعتيد على وصلها بالضمائر المذكرة فقط في حالة الخطاب المباشر أو التعميم، برزت اقتراحات بإعادة ذكر الفعل أو الاسم إلى جانب نسخته الأولى، على أن يتصل في المرة الثانية بضمير المؤنث للمفرد أو للجمع. وتبعًا لهذا الاقتراح، يمكن إعادة صياغة جملة مثل «يجب على من يريد ترشيح نفسه تقديم أوراق ترشحه قبل الموعد المذكور»، على هذا النحو «يجب على من يريد/تريد ترشيح نفسه/ا تقديم أوراق ترشحه/ا قبل الموعد المذكور»، ويمكن أيضًا أن تصبح الجملة «يجب على من يريدون ويردن ترشيح أنفسهم/ن تقديم أوراق ترشحهم/ن قبل الموعد المذكور.»