الملاعب غير آمنة للنساء: لعنة العنف الجنسي تلازم الرياضة.. والتخلص منها ليس في الحسبان
انشغل النظام الأبوي الذكوري على امتداد التاريخ بجسد المرأة، واستطاع كذلك أن يشغل الجميع به بما فيهم النساء، فكانت النتيجة تغذية العقول بأفكار تختصرهن في أجسام مجنسنة ومسلعة، وحقنها بتصورات نمطية مغلوطة عن قدراتهن الجسدية، وقد حقق ذلك غايتين جوهريتين لهذا النظام، هما: حرمان النساء من استقلاليتهن الجسدية وإحالتها إلى الرجال، وحماية السطوة الذكورية على كثير من الفضاءات التي ارتبط الدخول إليها والارتقاء فيها بالقوة العضلية والجهد البدني الكبير ، وهي سمات أسندتها الثقافة المتوارثة إلى الهوية الرجولية.
تجعل السيطرة الذكورية على أي مجال القواعد والأطر التي تحكمه مجرد أدوات لتعضيد الهياكل الأبوية والحفاظ على اختلال موازين القوى، ولهذا تشيع في ساحته الممارسات التمييزية وحوادث العنف ضد النساء لا سيما العنف الجنسي، ويأتي المجال الرياضي كواحد من أبرز هذه المجالات، إذ يمكن وصفه بأنه حاضنة اجتماعية وثقافية للميسوجينية واحتقار النساء واستباحتهن جسديًا، خاصةً في ظل تجذر التمييز الهيكلي ضدهن.
الملعب مسجور بالمعتدين
تعتبر الرياضة من أكثر المجالات الملبدة بالذكورة المفرطة، إذ يقع العنف ضد الرياضيات بشكل اعتيادي سواء كان عنفًا لفظيًا أو جسديًا أو جنسيًا، كما أن الكثير من حوادثه يرتكبها المدربون بالأخص إذا كانوا رجالًا وهي الحال في معظم الأوقات، نظرًا لاستمرار الهيمنة الذكورية على مختلف الرياضات بسبب انحسار المشاركة النسائية في كثير منها وذيوع الاعتزال المبكر بين الرياضيات لأسباب اجتماعية في أغلب الأحيان.
لا تختلف كثيرًا ديناميات العلاقة بين المدرب واللاعبة عن الديناميات بين الرجل والمرأة في العلاقات التي يختل فيها ميزان القوة، فالمدرب الرياضي لديه سلطة على اللاعبة لوجوده في موقع الموجه الذي يمتلك الرأي «الأصوب» في معظم الأوقات، وهو ما يوفر له الحماية من المساءلة أو العقاب، عندما يتعمد الصراخ باستمرار في وجه اللاعبة أثناء التدريبات، وحين يسيء إليها لفظيًا بإهانات ذكورية تحت مزاعم التحفيز، أو إذا اخترق المساحة الجسدية الشخصية لها بادعاء التوجيه.
بالإضافة إلى ذلك، يستغل كثير من المدربين المسؤولية الموكلة إليهم فيما يتعلق بدعم ومساعدة اللاعبات من أجل تحقيق الإنجازات والألقاب، لتبرير سؤالهم لللاعبة عن أمورها الشخصية وطلب معرفة مزيد من التفاصيل الحميمة عنها، بزعم أن ذلك يُمكّن المدرب من مساعدة اللاعبة في إدارة الضغوط التي تلقي بظلالها على أدائها المهاري في الملعب.
إباحة كل هذه التجاوزات للمدربين الرياضيين في ظل غياب إجراءات ومحددات لما هو جائز أو محظور في علاقاتهم بمن يتدربن ويتدربون تحت إشرافهم المباشر، يغدو بالنسبة لبعضهم فرصة لاستغلال اللاعبات جنسيًا، خاصةً في أوقات الوهن التي يتعرضن خلالها للاحتراق النفسي، حيث تصبح التفاصيل الخاصة التي يشاركنها مع المدرب الرياضي مدخلًا لابتزازهن وإرغامهن على ممارسة الجنس ووسيلة لتهديدهن وإسكاتهن.
وفضلًا عن هذه المسوغات التي تٌكسِبُ المدرب سلطة على اللاعبات، تمنحه كذلك مكانته في الساحة الرياضية امتيازات تساعده على إحكام سلطته، وتأمين نفسه من المحاسبة في حال اتهامه بارتكاب جريمة عنف جنسي، خاصةً إذا كان من ذوي الإنجازات المشهودة والعلاقات الواسعة بأصحاب القرار في الميدان الرياضي محليًا أو وطنيًا أو إقليميًا أو دوليًا.
تكشف دراسة بعنوان «التحيز الجنسي في الرياضات الاحترافية» نشرتها المجلة البحثية «إدارة الرياضة» في العام 2020، أن الرياضيات يملن إلى التزام الصمت وعدم الإبلاغ عن حوادث التمييز على أساس الجنس والتحرش الجنسي التي يتعرضن لها؛ ويبدو هذا وثيق الصلة بشيوع الخوف بين النساء العاملات عمومًا من تداعيات الإبلاغ عن حوادث العنف والتمييز ضدهن لدى الإدارات في أماكن العمل، فمثلما تخاف الموظفات من أن تؤدي خطوة الإبلاغ إلى إجراءات انتقامية أو الفصل من العمل، تخشى الرياضيات من أن تؤدي شكاياتهن من الإيذاء القائم على أساس الجنس إلى تعطيل انضمامهن إلى فرق ومنتخبات، أو إقصائهن من بطولات ومسابقات، أو انتهاء مسيرتهن الرياضية تمامًا.
علاوة على ذلك، يساهم التعامل الهزلي للقطاع الرياضي مع القضية في استمرار الخوف من الإبلاغ عن حوادث التمييز والعنف الجنسيين، إذ لا تزال كثير من الاتحادات الرياضية الدولية والوطنية تتهاون في مسألة تخصيص لجان للتحقيق في شكايات التمييز والعنف الجنسيين، وفقًا لقواعد تضمن السرية والحماية لمقدمات ومقدمي البلاغات، رغم أن حقيقة تفشي هذه الحوادث لم يعد من الممكن القدح فيها بعد أن جسرت مئات الرياضيات على كسر جدران الصمت خلال السنوات الأخيرة، خاصةً بعد انطلاق حراك #أنا_أيضًا (#MeToo)، إذ شاركت لاعبات في مختلف الرياضات بقصصهن وتجاربهن الشخصية مع العنف الجنسي علنًا، لينكشف معها أن التكتم على هذه الجرائم تحديدًا هو سيد الموقف داخل المؤسسات الرياضية، ويتضح أن معظم مرتكبيها هم من المدربين والأطباء الرياضيين الذين من المفترض أن يكونوا مصدر الثقة الأول للاعبات واللاعبين.
الظروف مهيأة لاستغلال الرياضيات جنسيًا
أحد أبرز أسماء المدربين الذي طالتهم اتهامات الاعتداء والاستغلال الجنسيين هو مدرب السباحة الأمريكي ميتش آيفي، الذي يحفل تاريخه بالعديد من الإنجازات الدولية من بينها ميداليتين أولمبيتين، وأعانته خبرته ونجاحاته على أن يكون مدربًا للسباحة في مرحلة لاحقة من حياته، إلا أن عوامل كتاريخه ومكانته الرياضية وميزان القوة الراجح باتجاهه في علاقته كمدرب بالسباحات صغيرات السن، حققت له مآربه في أمر آخر وهو استغلال الطفلات والمراهقات جنسيًا.
استطاع المدرب ميتش آيفي استغلال عشرات السباحات جنسيًا على مدى سنوات عديدة، كان يراه خلالها قطاع كبير من المجتمع الأمريكي نموذجًا يثير الإعجاب، نظرًا لنجاحه اللافت حينما سباحًا دوليًا وإنجازاته المتواصلة بعد أن أضحى مدربًا التي يثبتها فوز السباحات اللاتي يدربهن بسباقات وبطولات، وحصول العديد منهن على ميداليات دولية.
ظلت صورة ميتش آيفي إيجابية على هذا النحو إلى أن أذاعت شبكة إي إس بي إن (ESPN) المتخصصة في الإعلام الرياضي في العام 1993، تحقيقًا استقصائيًا حول استغلاله الجنسي للسباحات اللاتي يتدربن معه، اشتمل على لقاءات مع عدد من الناجيات وأفراد من أسرهن، لتعم الصدمة بعد عرضه ويتنامى الخوف داخل ولاية فلوريدا حيث يعمل مدربًا للسباحة برابطة جامعة فلوريدا الرياضية.
أسفر ما جاء بالتحقيق المصور عن إعلان الجامعة فصل المدرب ميتش آيفي من العمل، إلا أنه استطاع أن يواصل العمل لعشرين عامًا أخرى لأن الجامعات الأخرى والأندية الرياضية الأمريكية لم تغلق أبوابها في وجهه، فضلًا عن أن الهيئة الوطنية للسباحة التنافسية لم تعبأ بالاتهامات التي وجهتها إليه السباحات.
في العام 2011 فتحت الهيئة الوطنية للسباحة التنافسية في الولايات المتحدة تحقيقًا في شكاية قدمتها السباحة سوزيت موران حول استغلال آيفي لها جنسيًا وقتما كان مسؤولًا عن تدريبها وهي لا تزال في مرحلة المراهقة، ثم انضمت إلى موران سباحات أخريات أفدن بروايات مشابهة لروايتها، لتتخذ الهيئة قرارًا في نوفمبر من العام 2013، بمنع آيفي من تدريب السباحة نهائيًا ووقف عضويته بالهيئة مدى الحياة.
بعد سبع سنوات من صدور القرار، قررت موران وخمس سباحات أخريات مقاضاة الهيئة نفسها وميتش آيفي ومدربي سباحة آخرين موقوفين مثله على خلفية جرائم استغلال جنسي، وقد وجهت الناجيات الست إلى الهيئة وعدد من المسؤولين فيها تهمة التستر على جرائم هؤلاء المدربين والسماح باستمرارها.
سمعة المؤسسات الرياضية أهم كثيرًا من حماية النساء
توجهت راتشيل جوي دينهولاندر لاعبة الجمباز الأمريكية المعتزلة في أغسطس من العام 2016 إلى قسم شرطة جامعة ميشيغان، لتتقدم ببلاغ ضد لورانس نصار المعروف باسم لاري نصار، الطبيب السابق لمنتخب الجمباز الأمريكي للسيدات، تتهمه فيه بالاعتداء عليها جنسيًا حينما كانت في الـ15 من عمرها، أثناء جلسة علاج بالتدليك لمعالجة آلام بالظهر.
كان اتهام راتشيل للطبيب لاري نصار المتخصص في تقويم العظام، هو الأول في سلسلة طويلة من الاتهامات المشابهة التي وجهتها إليه لاعبات جمباز أخريات وصل عددهن إلى 156 لاعبة أمريكية وإنجليزية، لتصبح القضية هي أكبر فضيحة استغلال جنسي في تاريخ الرياضة الدولية.
بينت القصص التي شاركتها الناجيات علنًا سواء أمام المحكمة، أو في حوارات صحافية، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أن نصار اعتدى جنسيًا على عشرات وربما مئات من لاعبات الجمباز دون سنة الـ18 خلف ستار العلاج الطبي على مدى عقدين، وسط تعامٍ من مسؤولين بالاتحاد الأمريكي للجمباز عن جرائمه، إذ تقول بعض اللاعبات أن الاتحاد تجاهل شكاويهن من اعتداء نصار المتكرر عليهن خلال الكشوف الطبية وجلسات العلاج.
وقد توقفت وسائل الإعلام كثيرًا أمام واحدة من أكثر الشهادات إثارة للألم والفزع معًا، وهي التي نشرتها لاعبة الجمباز الأمريكية المعتزلة مكايلا ماروني في أكتوبر من العام 2017 تزامنًا مع صعود وسم (#MeToo)، وكانت قد ذكرت فيها أن اعتداء نصار عليها جنسيًا بدأ وهي لا تزال في الـ13 من العمر، واستمر حتى اعتزالها بعد ثمانية أعوام.
في يناير من العام 2018، أصدرت محكمة مقاطعة إنجهام بولاية ميشيغان قرارها بسجن لاري نصار لمدة تصل إلى 175 عامًا، ثم أغلِقَت القضية نهائيًا في العام 2022 بعد أن رفضت المحكمة العليا في ولاية ميشيغان طلب الاستئناف الذي تقدم به المتهم لتخفيف العقوبة. أما خارج أروقة المحكمة فقد اهتزت الأرض تحت أقدام أعضاء مجلس إدارة الاتحاد الأمريكي للجمباز وعدد كبير من المسؤولين به، الذين اضطروا إلى تقديم استقالاتهم بمجرد أن بدأت التحقيقات في التهم التي وجهتها اللاعبات إلى نصار، وهم الآن يواجهون اتهامات بالتستر على جرائمه وتسهيل وقوعها.
للمقاومة حكايات تستحق أن تُروَى
على غرار الانتفاضة التي اندلعت ضد تطبيع الاستغلال الجنسي للنساء في صناعة السينما والتلفزيون، في أعقاب انكشاف جرائم العنف الجنسي التي ارتكبها المنتج السينمائي الأمريكي هارفي وايستين بحق عشرات العاملات بهذا المجال؛ قادت أيضًا جرائم الاستغلال الجنسي التي انجلت بفضل جسارة مئات الرياضيات، إلى تشكل مجموعات نشاطها ونضالها يسعى إلى إنهاء ثقافة التصالح مع العنف والتمييز القائمين على النوع الاجتماعي في عالم الرياضة، وانطلقت كذلك حملات نسوية تقاوم التراخي المؤسسي إزاء معالجة قضية العنف الجنسي ضد الرياضيات مثل حملة #كابتن_لا_تلمسني (#Coachdonttouchme).
في فبراير من العام 2022، أطلقت مجموعة من الرياضيات والناشطات النسويات في ألمانيا حملة بعنوان #كابتن_لا_تلمسني (#Coachdonttouchme)، احتجاجًا على العنف الجنسي الذي تواجهه الرياضيات الألمانيات، وقد بدأت الحملة بالإعلان عن تقديم الدعم النفسي والقانوني لعدد من اللاعبات في رياضة الملاكمة، بعد تعرضهن للاغتصاب من أفراد داخل المنظومة الرياضية، بعضهم يمتهن التدريب الرياضي.
لا تزال حملة #كابتن_لا_تلمسني مستمرة، وهناك حملات مماثلة في دول أخرى كالهند والولايات المتحدة، جميعها يساهم بنشاطه أيًا كان نطاقه في تعزيز وتوسيع الحراك ضد العنف الجنسي في الرياضة.