قد لا يعتقد كثير من الناس أن الضمائر والصفات والألفاظ والأفعال التي نستخدمها في كتابة إعلانات الوظائف أو في مذكرات العمل أو في العقود الرسمية، تساهم في التأثير على التوازن الجندري داخل أماكن العمل، إلا أن ثمة أبحاث ودراسات خرجت إلى النور، بالأخص خلال العقد الأخير، تؤكد أن أثرًا ملموسًا فيما يخص المساواة الجندرية تتسبب فيه اللغة الرائجة في إعلانات التوظيف، وهو ما دفع ببعض الخبراء إلى ابتكار خدمة لمساعدة أرباب الأعمال على تجنب استخدام لغة متحيزة لجنس دون الآخر، عند كتابة الإعلانات الوظيفية، وهي خدمة «فك التكويد الجندري» في النصوص.

لغة يملؤها التحيز تنضح بها إعلانات الوظائف

صدرت في العام 2011 دراسة بعنوان «الدليل على أن الصياغة المجندرة في إعلانات الوظائف موجودة وتدعم اللا مساواة الجندرية»، دلل فيها الباحثون القائمون عليها أن اللغة المستخدمة في إعلانات الوظائف التي يهيمن عليها الرجال تعكس انحيازًا على أساس الجنس، بما تعتمد عليه من عبارات تتضمن كلمات وأوصاف ارتبطت في الثقافة الاجتماعية بالذكور، ومن ثم يتسلل إلى النساء شعور أقرب إلى اليقين بأن الرسالة ليست موجهة إليهن وأن المؤسسة المُعلِنة تستهدف الرجال قسرًا، فينصرفن عن التقدم إلى الوظيفة الشاغرة، حتى لو كان لديهن رغبة حقيقية في الالتحاق بهذا العمل، أو شعور قوي بقدرتهن على تأدية المهام المطلوبة على نحو جيد.

شدد الباحثون في هذه الدراسة على أن الصياغة اللغوية التي تميل إلى استخدام أوصاف وعبارات تذكي التصورات النمطية المرتبطة بالذكور، ترسل إلى النساء إشارة مفادها أن الوظيفة المعلن عنها أغلب من يشغلها هم الرجال ومن ثم يتجنب كثير منهن تلقائيًا التقدم إليها، نتيجة الشعور بعدم الانتماء إلى الفئة الموجه إليها هذا الإعلان.

ركزت الدراسة على استخدام المعلنين لما يعرف بـ«اللغة المكوّدة جندريًا» التي تتشكل من كلمات وجمل ذات دلالات اجتماعية، أي أنها مبنية على تصورات وصفات مُصنّفة مسبقًا على أساس الجنس، بسبب الصور النمطية التي اتصلت بكلا الجنسين.

ويمكن تعريف التكويد الجندري للغة بأنه تقسيم المصطلحات إلى قسمين؛ الأول يرمز إلى ما يخص النساء والثاني يشير إلى ما يرتبط بالرجال استنادًا لتوقعات المجتمع من كل جنس، وقد لاحظ الباحثات والباحثون في مجال دراسات النوع الاجتماعي أن السمات والخصائص التي ربطها المجتمع بالمرأة تتمحور حول التشاركية والجماعية (Communal Traits) كالتوافق، والتعاون، والدماثة، والود، والتحمل، والقدرة على امتصاص غضب الآخرين، بينما تعكس الصفات المتصلة بالرجال القيادة الذاتية والحسم (Agentic Traits)، التي تتمثل في الإصرار، والثقة بالنفس، والتحدي، والاستقلال، والشجاعة، واللباقة، والقوة.

وليس ذلك بمعزل عن التنشئة الاجتماعية التي تزرع بداخل الذكور منذ نعومة أظفارهم، معتقدًا بأنهم لن يُنعَتوا بالرجال إلا إذا توافرت لديهم هذه الصفات؛ ولهذا تتحول من نعوت إلى توقعات اجتماعية منتظرة من الذكر في المجالين الخاص والعام، وهي الإشكالية التي أوغل الباحثان رونالد ليفانت وجيني كوبيكي في مناقشتها من خلال كتابهما «إعادة بناء الذكورة: تغيير قواعد الرجولة».

الجنوح إلى تكويد اللغة جندريًا في صياغة إعلانات مؤسسات العمل، لا يقتصر على إعلانات الوظائف بل يبرز أيضًا في إعلانات فرص التدريب المتاحة، كما كشفت الباحثة إيرين أولدفولد وزميلها جون فيست عبر دراستهما «فك تشفير التحيز: لغة جنسانية في إعلانات التدريب لوظائف الأموال».

بينت الدراسة الصادرة في العام 2021 أن اللغة المستخدمة في إعلانات التدريب الخاصة بشركات الأموال تركز على خصائص القيادة الذاتية والحسم (Agentic Traits)، وقد أظهرت نتائج الاستطلاعات التي أجراها الباحثان أن النساء الراغبات في التدريب يتحمسنّ للالتحاق به، إذا كانت الكلمات المستعملة في إعلانه تشير إلى أهمية الخصائص التشاركية والجماعية لدى المتقدمين، خاصةً في ظل ما ترسخ لديهن من اعتقاد بأن هذا النسق اللغوي يعني أن الجهة المُعلنة تبحث عن النساء أو ترحب بترشحهن، وفق الأنماط الاجتماعية المُخلّقة بشأن قدرات ومهارات المرأة والرجل داخل عالم العمل.

محاولة لتحييد لغة إعلانات التوظيف

بعد أن طالعت كات ماتفيلد مصممة الخدمات والخبيرة بمجال الإنتاج والتسويق في بريطانيا، نتائج دراسة «الدليل على أن الصياغة المجندرة في إعلانات الوظائف موجودة وتدعم اللا مساواة الجندرية» التي أشرنا إليها آنفًا، قررت أن تطلق خدمة تمكّن أرباب الأعمال من التحقق من مدى حيادية صياغة إعلاناتهم الوظيفية، وهي أداة إلكترونية مجانية تفحص نص أي إعلان وظيفي باللغة الإنجليزية، لتحديد المصطلحات والتعابير التي تعكس انحيازًا إما للرجال قسرًا وإما للنساء حصرًا في الإعلان، استنادًا إلى قائمتي كلمات مطولتين أعدتهما كات ماتفيلد معتمدةً على النتائج البحثية للدراسة المذكورة.

لكن العديد من أماكن العمل لم يساعدها بالقدر الكافي تحديد المفردات التي تعكس انحيازًا من دون اقتراح بدائل تضمن حيادية وشمول اللغة المستخدمة بالإعلانات، وهو الأمر الذي تداركته منصة «كل الوظائف – Total Jobs» أكبر منصة للتوظيف في بريطانيا التي أطلقت تطبيقًا مماثلًا لأداة كات ماتفيلد يعمد إلى فك التكويد الجندري في النصوص، إلا أنه يمتلك ميزة إضافية، وهي إمكانية استبدال الكلمات المكوّدة جندريًا بأخرى حيادية يقترحها التطبيق أوتوماتيكيًا.

جرعة أعلى من التحيز في الإعلانات المكتوبة بـ«العربية»

تبدو الأمور أكثر تعقيدًا في الإعلانات المكتوبة باللغة العربية، فالتحيز الجندري لا يكمن فقط في استخدام صفات ومؤهلات أو شروط مهنية مكودة تبعًا للنوع الاجتماعي، بل يتجسد في إشكاليات أخرى ومنها التشبث بالمسميات الوظيفية التي تتضمن كلمة «رجل/رجال» كرجل الإطفاء أو رجال الحماية المدنية، والاكتفاء بتذكيـر الوظيفة والمنصب الشاغر حتى إذا كان الإعلان يستهدف الجنسين، فضلًا عن الركون إلى تذكير المفردات وحسب حتى لو كانت تقبل التأنيث، والاعتماد على ضمائر وأسماء وأفعال لا تخاطب الجنسين وإنما الذكر منفردًا، وعلى الأرجح فقد مرت أعين الباحثات والباحثين عن عمل على جمل مثل «مطلوب مندوب للشركة»، أو «تبحث المؤسسة عن سائق شاحنات»، أو «فتح باب التقديم لوظيفة باحث».

ومع ذلك، لقد أدركت مؤخرًا بعض أماكن العمل – وهي لا تزال قليلة حتى الآن –  أهمية تحييد اللغة وجعلها أكثر شمولًا عند مخاطبة العاملات والعاملين داخلها أو الباحثات والباحثين عن وظيفة، ولذلك بدأت تظهر إعلانات وظيفية تستخدم لغة متوازنة قدر الإمكان، عن طريق تذكير الكلمات وتأنيثها معًا سواء في صيغ المفرد أو الجمع مثل «تعلن الشركة عن حاجتها إلى مستشار إعلامي/مستشارة إعلامية» أو «تبحث المؤسسة عن مترجمات ومترجمين»، والتشديد على أن عطلات العمل المستحقة تشمل إجازات الأمومة، بل إن بعض أماكن العمل صارت تشير في إعلاناتها الوظيفية إلى إجازة مدفوعة الأجر لمدة يوم تحت اسم «إجازة الحيض».