تعد صناعة الملابس واحدةً من أكثر الصناعات التي تهمين النساء على وظائفها، إذ يمثلنّ نحو 80  في المئة من العاملين في هذه الصناعة عالميًا وفقًا لبيانات منظمة العمل الدولية (ILO)، وفي الصين التي تتصدر قائمة الدول المُصدّرة للملابس الجاهزة، تمثل النساء 70 في المئة من العاملين بهذه الصناعة، وفي بنغلاديش التي تحل ثانية في القائمة ذاتها، تمثل النساء نحو 85 في المئة من العاملين، وفي الهند يعمل نحو  35 مليون شخص في صناعة النسيج والملابس، منهم ما يقرب من 20 مليون امرأة، استنادًا لاتحاد صناعة المنسوجات الهندية في العام 2016.

لكن هؤلاء النساء اللاتي يعملن لصالح شركات وعلامات تجارية تحقق أرباحًا ضخمة تقدر بالميليارات، مثل «زارا – Zara» التي تتواجد كثير من مصانع إنتاجها في بنغلاديش، و«Nike- نايك» التي توجد معظم مصانع إنتاجها في كامبوديا، يحصدن أجورًا هزيلة جدًا ويعملن في ظل ظروف قاسية، ففي بنغلاديش تتقاضى معظم النساء العاملات في هذه الصناعة، ما يقرب من 8000 تاكا بنغلاديشي أي ما يوازي 80 يورو شهريًا، وهو ما يعد شديد الضآلة بالنسبة لما يحتاجه الفرد لتغطية احتياجاته الأساسية، فضلًا عن أن هذا الرقم قد يكون أقل من ثمن قطعة ملابس واحدة من تلك التي يصنعنها. كما أن القطاع الأعرض من هؤلاء العاملات يُجبرنّ على العمل لما يتراوح بين 14 و16 ساعة يوميًا، بحسب حركة «War on Want» العالمية المدافعة عن حقوق الإنسان.

العنف الجندري ضد العاملات بصناعة الملابس

تعاني النساء العاملات في صناعة الملابس الجاهزة لا سيما في الدول الآسيوية والأفريقية من التحرش الجنسي بمعدلات مرتفعة، في ضوء غياب القوانين التي يُمكِنها أن توفر لهن الحماية من العنف القائم على النوع الاجتماعي، وبسبب ركون أصحاب الأعمال إلى العقود قصيرة الأجل التي لا تضمن لهن أي حقوق، وكانت منظمة العدالة العمالية العالمية ومقرها العاصمة الأمريكية واشنطن، قد نشرت في العام 2018 تقريرًا يوثق شهادات لعاملات بمصانع الإنتاج الخاصة بعلامة الملابس التجارية الشهيرة «جاب – Gap» في بنغلاديش، وكمبوديا، والهند، وأندونيسيا، وسريلانكا، حول العنف القائم على النوع الاجتماعي خاصةً التحرش الجنسي الذي يتعرضن له بصفة متكررة، وقد أفادت العاملات بأنهن يواجهن طيفًا واسعًا من العنف الجندري كالتحرش اللفظي والتحرش الجسدي والتهديد بالانتقام عند رفض الطلبات ذات الطابع الجنسي، ولا يقتصر العنف والتحرش الذين تتعرض لهما العاملات، وفقًا لهذا التقرير، على ما يقع داخل مكان العمل، وإنما يشملان ما يواجهنه أثناء التنقل من وإلى العمل، وفي أماكن السكن التي يوفرها أصحاب الأعمال.

وفي العام 2019، نشر اتحاد حقوق العمال في الولايات المتحدة تقريرًا يوثق انتشار جرائم التحرش، والاعتداء الجنسي، والاغتصاب بحق العاملات في مصانع الملابس الجاهزة في ماسيرو عاصمة دولة ليسوتو الأفريقية، التي تعد مركزًا لتصنيع ملابس الجينز الخاصة بعلامات تجارية شهيرة مثل «ليفايز – Levi’s» الأمريكية.

شيوع العنف الجندري ضد العاملات بصناعة الملابس الجاهزة في الدول التي تفتقر إلى قوانين وتشريعات رادعة فيما يتعلق بحقوق العاملات والعمال عمومًا، تجليه أيضًا النتائج التي توصل إليها تقرير نشره مركز التضامن (مؤسسة دولية لحقوق العمال مقرها الرئيس في العاصمة الأمريكية واشنطن) في مايو من العام 2019، إذ أوضح أن 71 في المئة من العاملات في صناعة النسيج والملابس والأحذية والجلود في أندونيسيا قد تعرّضن لشكل من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي في عالم العمل، وقد تباين العنف ما بين لفظي، ونفسي، وجسدي، وجنسي.

وفي بنغلاديش بالتحديد يبدو الوضع شديد الخطورة، فقد خرجت منظمة «أكشن إيد – Action Aid» في العام 2019 بتقرير يكشف أن 80 في المئة من العاملات بصناعة الملابس الجاهزة إما تعرضن أو شهدن على وقائع تحرش أو اعتداء جنسي في أماكن العمل، بينما قال 90 في المئة منهن إن أعمالهن قد أثرت على صحتهن النفسية والجسدية، حيث أدت إلى تضرر أبصارهن وإصابتهن في اليدين والقدمين، ومعاناتهن من آلام في الظهر، فضلًا عن تعرضهن للاكتئاب.

ويتمادى عنف أصحاب الأعمال في هذا القطاع إلى حد ربط الوظيفة بعدم الإنجاب ووضعه كشرط للعمل، إذ تشير مؤسسة «حملة الملابس النظيفة -Clean Clothes Campaign » ومقرها الرئيس في هولندا، إلى أن بعض أماكن العمل (مصانع الملابس) تتعمد توظيف النساء غير المتزوجات واللائي ليس لديهن أطفال، أو ترغم النساء على التوقيع على وثائق يتعهدنّ فيها بعدم الإنجاب خلال فترة عملهن في هذا المكان.

يمارس أصحاب العمل العنف ضد العاملات بصناعة الملابس الجاهزة تحت سمع وبصر العلامات التجارية الكبرى، التي نقلت خلال العشرين عامًا الأخيرة أغلب مصانعها من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا والعديد من دول أوروبا الغربية إلى دول آسيوية وأفريقية، حيث تتقاضى الأيدي العاملة أجورًا أقل وتتسم قوانين العمل بالهشاشة، بهدف توفير فرص أكبر لجني الأرباح وضمان الإفلات من المحاسبة على ما يجري من انتهاكات بحق العاملات والعاملين في التصنيع.

الجائحة جعلت السيء أشد سوءًا

جاءت جائحة فيروس كورونا (COVID-19) لتزيد أوضاع العاملات في هذه الصناعة تدهورًا، فقد قررت العديد من العلامات التجارية الأوروبية والأمريكية والأسترالية أن تخفّض التكاليف أو تؤخر الدفع أو تلغي طلبات الملابس التي يتم تصنيعها في بلدان آسيوية بسبب تراجع المبيعات، وهو ما أدى بالتبعية إلى تسريح كثير من النساء المشتغلات بهذه الصناعة أو تخفيض أجورهن المنخفضة بالأساس.

وقد أصدرت منظمة «أكشن إيد – Action Aid» في ديسمبر الماضي، استطلاعًا يهدف إلى كشف تبعات الجائحة على العاملات بصناعة الملابس في كل من بنغلاديش وكامبوديا خلال العامين الماضيين (2020 – 2021)، وقد أفاد العاملون بهذا القطاع في بنغلاديش (99 في المئة من العينة من النساء) بأنهم عانوا من خفض الأجور بنسبة تصل إلى 7.5 في المئة تأثرًا بالجائحة، وهو ما جعلهم غير قادرين على تغطية تكاليف احتياجاتهم الأساسية أو احتياجات أسرهم، ودفع بالكثير منهم إلى الاستدانة، بينما أكد 56 في المئة من العاملين بهذه الصناعة في كامبوديا (86 في المئة من العينة من النساء) زيادة انتهاك حقوقهم في العمل منذ أن بدأ تفشي فيروس كورونا. كما أفاد ما يقرب من نصف عينة العاملات بصناعة الملابس في كمبوديا وثلث نظيرتها في بنغلاديش بتعرضهن للتحرش أو العنف في العمل منذ بدء الجائحة.

وتستمر المقاومة..

تبذل العديد من الجماعات والمجموعات المدافعة عن حقوق العاملات والعامين حول العالم، جهدًا كبيرًا من أجل تغيير الواقع المزري الذي تكابده العاملات بصناعة الملابس الجاهزة، ومن بين ما تقوم به في هذا الصدد هو تحويل ما تنجح في توثيقه بشأن العنف والتمييز داخل أماكن العمل إلى أداة من أدوات الضغط على العلامات التجارية ومصانع الملابس، لتدفعها إلى اتخاذ إجراءات حازمة للحد من العنف الجندري الذي تتعرض له العاملات، وذلك عن طريق كشف الحقائق ونشرها على أوسع نطاق، وتمكين العاملات من رفع أصواتهن ورفع اللثام عن معاناتهن.

بالتوازي مع ذلك تتوجه هذه المجموعات إلى عموم المشتريات والمشترين في كل بقاع العالم، وتناشدهم اتباع سياسة «الشراء الأخلاقي» التي ترتكز على شراء الملابس التي تنتجها شركات تلتزم بتوفير بيئة آمنة وصحية للعاملات والعاملين، حيث يتقاضون أجورًا مناسبة، ويتمتعون بظروف عمل لائقة، ويحظون بالحماية الكافية من مختلف الانتهاكات، على أمل أن يحفز الانتشار الواسع لهذه السياسة بين المشترين، العلامات التجارية إلى تعديل سياساتها إزاء العاملات والعاملين داخل مصانع الإنتاج الخاصة بها.