وسم الخوف حيوات الأفراد خلال العشرين شهرًا الماضية، بعد أن أربكتها الجائحة على نحو غير متوقع، إلا أن هذا الخوف الذي بدأ كبيرًا تتراجع حدته شيئًا فشيئًا، بسبب الاضطرار الفطري إلى التأقلم مع الظروف التي تفرضها الأزمات الطارئة.

ورغم أن التعايش مع الجائحة قد أدى إلى خفوف الذعر، فإنه لم يخلصنا من الخوف، بل صار الأخير أشبه بالرفيق اليومي، الذي تتجاوز حدوده العدوى أو الإصابة، لتشمل أشياءً أخرى مسها أثر الفيروس وطالتها يد الجائحة.

هذا الخوف واسع المظلة لم يصب الجميع بدرجة واحدة وإنما تباينت وتفاوتت درجاته، ووفقًا لتقرير أصدرته هيئة كير الدولية (Care International) صدر في شهر مارس من العام 2020، بعنوان «هي أخبرتنا ذلك»، فقد أصاب الخوف المرتبط بالجائحة النساء أكثر من الرجال، إذ يكشف التقرير أن النساء تعرّضن لاضطرابات الصحة النفسية أكثر من الرجال بثلاثة أضعاف بسبب تحمّلهن لضغوط أكبر، سواء فيما يتعلق بأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، أو سبل العيش اليومي والرزق، أو الغذاء، أو الرعاية الصحية.

كما كشفت دراسة علمية نشرتها مجلة ذي لانسيت (The Lancet) في شهر أكتوبر الجاري، عن زيادة الإصابة بالاكتئاب والقلق بأكثر من الربع في العام 2020 من جراء الجائحة، وأظهرت الدراسة أن النساء أصابتهن اضطرابات الاكتئاب الحاد واضطرابات القلق أكثر مما أصابت الرجال.

فيما يلي نسأل ثلاث نساء عن الخوف الذي اكتست به حيواتهن منذ أن ضربت الجائحة العالم، ونتعرف إلى التغيير الذي فرض نفسه على أيامهن بسببه.

هكذا عمّقت الجائحة الخوف من الفقد

رشا (34 عامًا)، تقول إنها صارت تتعايش مع مخاوف يومية لا مهرب منها، تحاول أن تتحايل عليها بإلهاء نفسها والانغماس في أي نشاط مهما بدا صغيرًا أو سطحيًا، حتى تحمي نفسها من الإفراط في التفكير والانشغال بهذه المخاوف.

«فرضت علي الجائحة أن يكون الخوف جزءًا لا يتجزأ من يومي؛ وصارت بعض المخاوف التي نتجت عنها اعتيادية، فقد استطعت بمرور الوقت تقبلها والتصالح معها، مثل الشعور بالقلق الذي ينتابني في كل مرة استقل وسيلة مواصلات عامة، والشعور بالخوف الذي يتسلل إلي كلما عرفت أن شخصًا ما أعرفه قد أصيب بالفيروس، والشعور بالتوتر الذي يصيبني عندما أسمع بأن هناك موجة جديدة للجائحة على الأبواب.»

تعتقد رشا أن هذه المخاوف أهون وأخف كثيرًا من خوف أكبر نما بداخلها بعد أن أطلت الجائحة بوجهها المفزع، وهو الخوف الشديد من الفقد وتوّقعه في كل يوم.

«أخاف أن أفقد أحبائي بسبب فيروس كورونا، بل أرتعد خوفًا. لقد باتت كوابيس الفقد تطاردني بشكل مستمر، أرى فيها أمي وأبي وبعض أصدقائي يتألمون ويعانون، وفي مرات تأخذهم مني الكوابيس بلا رجعة، أراهم فيها يرحلون وليس بوسعي ما أفعله لأمنع الرحيل.»

تقول رشا إن هذه الكوابيس كانت تطاردها بكثافة في بداية الجائحة، ولكن حتى بعد أن تراجعت، لا تزال تستيقظ عندما تأتيها في فزع يصحبه ألم شديد في أنحاء جسدها كافة.

هذا الشعور لا يهدأ بانتهاء الكابوس والاستيقاظ منه، ولكن يستمر مع رشا حتى يصبح بإمكانها مهاتفة من رأته في منامها، وهذا غالبًا ما يحدث بعد عدة ساعات من استيقاظها في وقت متأخر من الليل، مما يضطرها إلى قضاء هذه الساعات في محاولات مستمرة لتقليل التوتر وتسكين القلق.

تعتقد رشـا أن أصعب أنواع الخوف هو الخوف من الفقد، وقد جاءت الجائحة لتفاقم هذا الخوف لديها، «لقد صارت الكوابيس تلاحقني داخل كابوس أكبر لا يمكنني الاستيقاظ منه وهو الجائحة. أتمنى أن أستيقظ في ليلة ما وأجد كل شيء تغير بسببها قد عاد كما كان، حتى خوفي من فقد أحبائي يعود إلى درجته الطبيعية.»

تدرك رشا أنه لا يوجد شعور بالأمان المطلق في الحياة، لكنها تريد أن يعود شعورها بالخوف إزاء الفقد ليكون شعورًا بإمكانها السيطرة عليه، وليس ذلك الذي بات يستحوذ على الجانب الأكبر من حياتها اليومية.

العيش تحت هاجس فقدان الوظيفة

سمر (28 عامًا)، رغم أنها من هؤلاء المحظوظين الذين تمكنوا من الاحتفاظ بوظائفهم في ظل الجائحة، فإن الخوف من فقدان الوظيفة ليس بعيدًا عنها، بل إنه من أكثر المخاوف التي استوطنت تفكيرها منذ أن ألمت بنا الجائحة.

«عندما بدأت مصر، مثل بقية دول العالم، في اتخاذ إجراءات حاسمة للحد من تفشي فيروس كورونا في شهر مارس من العام 2020، قررت الشركة (شركة هندسية) التي أعمل بها إحالتنا للعمل من المنزل لعدة شهور. خلال هذه الفترة لم يفارقني الخوف، فقد كنت أتوقع أن تخبرني الإدارة في أي وقت بتوقف العمل نهائيًا أو بالاستغناء عن عدد من الموظفين، وأنا من بينهم.»

رغم أن ما تخشاه سمر لم يحدث، لا يزال الخوف يسيطر عليها، خاصة مع استمرار تعثر الشركة بسبب تداعيات الجائحة وتبعاتها على قطاعات العمل المختلفة.

تخاف سمر من خسارة الوظيفة التي حققت لها قدرًا من الأمان المادي والمهني، وبسببها استطاعت أن تستقل عن أسرتها قبل أربع سنوات.

في أوقات كثيرة، تظن سمر أن اتصال مديرها المباشر بها سيكون لإعلامها بتوقف الشركة، «ينتابني شعور بالخوف عندما أجد اتصالًا منه، أخاف مما سيخبرني به، ولكن حينما أجد أن الأمر يخص العمل يهدأ جسدي وكأنني نجوت من حادثة محققة.»

تقول سمر إن الجائحة جعلت الخوف من الخسارة ملازمًا لها في معظم الأوقات، سواء خسارة العمل أو خسارة شخص عزيز أو خسارة مكتسبات حققتها خلال السنوات الماضية، «الخوف من الإصابة يتضاءل يومًا بعد الآخر بعد أن تلقيت اللقاح، لكنني صرت مسكونة بالخوف مما قد تأخذه مني الجائحة كالعمل والاستقلال المادي والاستقرار المعنوي.»

الخوف يقطع طريقي العودة والتجاوز

دنيـا (31 عامًا)، تخشى من عدم القدرة على العودة إلى الحياة بالشكل الذي كانت عليه قبل الجائحة، خاصة بعد أن صارت تقضي معظم أوقاتها داخل المنزل، وأحيانًا تقبع حبيسة الجدران لأربعة وخمسة أيام متصلة، وهو ما أثر بالتبعية على علاقاتها الاجتماعية وقدرتها على التواصل مع الآخرين.

دنيـا صحافية مستقلة، ليست من الصحافيين الذين تتوفر لهم مقرات للعمل منها بدوام كامل أو جزئي، إلا أنها استطاعت قبل أزمة فيروس كورونا أن تخصص جزءًا من نفقاتها الشخصية لاستئجار مكتب صغير داخل أحد مقرات العمل المشترك، ولكن هذا المكان أغلق أبوابه نهائيًا بعد عدة شهور بسبب الجائحة.

لم تفكر دنيــا في تأجير مكان آخر بعد عوّدة الأوضاع إلى طبيعتها ورفع القيود الصحية، وترجع ذلك إلى تعوّدها على العمل من المنزل، إلا أن اختيارها كان له آثاره السلبية التي لم تكن تتخيل أن تتفاقم إلى حد يجعلها تشعر بالقلق إزاء اللقاءات المباشرة، ويدفعها إلى تجنب التواجد وسط تجمعات خوفًا من المحادثات والحوارات المباشرة التي لم تعد تشعر بالارتياح تجاهها، بعد أن اعتادت على التحدث مع الآخرين عبر الإنترنت أو الهاتف.

«أعتقدت في البداية أن طول فترة بقائي في المنزل انتصار على الموت الذي صار قريبًا، وظننت أن قدرتي على القيام بذلك نجاح يستحق الاحتفاء به، لم أدرك أنني أنسحب من الحياة تدريجيًا، وأحبس نفسي داخل شرنقة سيصعب علي الخروج منها فيما بعد.»

تحوّلت حياة دنيا على إلى حياة «رقمية» على حد وصفها؛ تعمل من خلال الحاسوب والإنترنت، وتتحدث إلى أصدقائها عبر تطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، وتشتري أغراضها الشخصية من المواقع الإلكترونية، وحتى احتياجاتها اليومية تطلبها عبر تطبيق إلكتروني.

«لم تزرع الجائحة داخلنا خوفًا من الإصابة بالفيروس فقط، بل بثت في نفوسنا مخاوف من أمور كثيرة، وبالنسبة لي الأسوأ بينها هو الخوف من عدم القدرة على العودة إلى نمط الحياة الذي كنا نعرفه قبل عامين.»