بعد ثلاث سنوات من اعتماد اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)، تشكلت بموجب المادة (17) منها لجنة مستقلة تضم 23 خبيرة وخبيرًا في مجال المساواة الجندرية، بهدف متابعة تنفيذ ما نصت عليه الاتفاقية، عن طريق مراقبة التزام الدول الأطراف (عبر المصادقة أو الانضمام) باتخاذ تدابير من شأنها تحقيق ما جاء في الاتفاقية المعتمدة في العام 1979.

ووفقًا للمادة (18) من الاتفاقية ذاتها، تفحص اللجنة التي تحمل اسم «لجنة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة» أو «لجنة سيداو»، تقارير منتظمة تقدمها إليها الدول الأطراف لتستعرض من خلالها الجهود التي تبذلها والإجراءات التي تتخذها لتنفيذ الاتفاقية.

يأتي أيضًا ضمن مهام لجنة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (لجنة سيداو)، إصدار مقترحات وتوصيات عامة إلى الدول الأطراف في الاتفاقية، بهدف توجيه التزامات الحكومات صوب مزيد من الموضوعات التي تساهم في تحقيق الهدف الرئيس للاتفاقية وهو القضاء على التمييز ضد النساء وتحقيق المساواة بين الجنسين، وعادةً ما تتناول التوصيات العامة الموضوعات والقضايا التي لم تتعامل معها الاتفاقية بتعمق واستفاضة، ومنها موضوع العنف القائم على النوع الاجتماعي.

وكانت اللجنة قد ناقشت في اجتماعها الدوري في العام 1989، أزمة ارتفاع معدلات العنف ضد النساء، وطلبت من جميع الدول الأطراف إمدادها بمعلومات وبيانات في هذا الصدد. وبعد أن فحصت اللجنة ما ورد في التقارير الوطنية عن هذه القضية، قررت في دورتها الحادية عشر التي انعقدت في العام 1992، اعتماد التوصية العامة رقم (19) بشأن العنف ضد المرأة، التي عرّفت العنف القائم على أساس نوع الجنس بأنه «العنف الموّجه ضد المرأة بسبب كونها امرأة أو العنف الذي يمس المرأة على نحو جائر، ويشمل الأعمال التي تلحق ضررًا أو ألمًا جسديًا أو عقليًا أو جنسيًا بها، والتهديد بهذه الأعمال، والإكراه وسائر أشكال الحرمان من الحرية.»

وقد طالبت اللجنة في هذه التوصية الدول الأطراف بأن تلتزم بإدراج بيانات إحصائية عن العنف ضد المرأة في تقاريرها الدورية، وأن تُضيف إلى التقارير معلومات عن آثار العنف على الناجيات، وعن الخدمات التي تقدمها لهن، وعن التدابير التشريعية وغيرها من التدابير التي تتخذها لحماية النساء من العنف.

تعد التوصية رقم (19) توصية شديدة الأهمية للجنة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (لجنة سيداو)، لأنها أخرجت العنف ضد المرأة من المجال الخاص ووضعته في السياق العام، ليصبح انتهاكًا صريحًا من انتهاكات حقوق الإنسان التي تستدعي التكاتف الدولي لمواجهتها.

بعد مرور 25 عامًا على إصدار التوصية رقم (19)، وجدت اللجنة أنها تحتاج إلى تطوير يتصدى للعنف الذي يطال ملايين النساء حول العالم (تتعرض واحدة من كل ثلاث نساء للعنف البدني أو الجنسي، بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية)، ولذلك قررت تحديثها بتوصية جديدة تحمل رقم (35)، تختص بموضوع «العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد المرأة»، واعتمدتها رسميًا في الـ14 من يوليو في العام 2017.

التوصية (35): كيف تعرّف العنف القائم على النوع ضد المرأة؟

يعرّف صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) العنف القائم على النوع الاجتماعي بأنه مصطلح شامل لكل فعل مؤذٍ يرتكب ضد إرادة شخص ما ويعتمد على الفروق المحددة اجتماعيًا بين الذكور والإناث (النوع الاجتماعي)، وقد يكون عملًا من أعمال العنف البدني أو النفسي أو الاجتماعي، بما في ذلك العنف الجنسي سواء تمت ممارسته أو التهديد بممارسته.

ووفقًا للتوصية رقم (35)، يشير مصطلح «العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد المرأة» أو «العنف الجنساني ضد المرأة»، إلى الأسباب والآثار ذات الطابع الجنساني للعنف، وترى لجنة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة أن استخدام مصطلح «العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد المرأة» يعزز فهم العنف ضد المرأة بوصفه مشكلة اجتماعية، لا فردية، تتطلب استجابات شاملة، بما يتجاوز الاستجابات التي تتخذ في أحداث محددة، أو تجاه فرادى الجناة والناجيات.

واستنادًا لذلك، تؤكد التوصية على أن العنف على أساس النوع الموّجه ضد المرأة تدعمه الأيديولوجية القائمة على أحقية الرجل وامتيازه على المرأة، والأعراف الاجتماعية المتعلقة بالذكورة، وتشير التوصية إلى أن هذه العوامل تساهم في القبول الاجتماعي الصريح أو الضمني للعنف القائم على النوع ضد المرأة، وتؤدي إلى انتشار إفلات المعتدين من العقاب.

وتعتبر التوصية أن بعض أشكال العنف القائم على النوع ضد المرأة قد تصل إلى حد اعتبارها جرائم تعذيب، بما في ذلك الاغتصاب، أو العنف المنزلي، أو الممارسات الضارة (مثل تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية للأنثى وتزويج القاصرات).

كما تدرج التوصية العنف السيبراني ضمن أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، إذ تشدد على أن العنف الذي يستهدف النساء يحدث في كل الأماكن والسياقات، سواء كانت عامة أو خاصة، بما فيها سياق الأسرة وسياق البيئات الرقمية.

من ناحية أخرى، تعترف لجنة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (لجنة سيداو) في هذه التوصية بأن انتهاك الحقوق الجنسية والحقوق في الصحة الإنجابية، يأتي ضمن أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد المرأة. وبحسب التوصية، فإن هذا الانتهاك يشمل عمليات التعقيم والإجهاض القسريين، والحمل القسري، وتجريم الإجهاض ومنع أو تأخير الإجهاض المأمون، والحرمان من الرعاية بعد الإجهاض، بالإضافة إلى إساءة معاملة النساء والفتيات اللاتي يلتمسن المعلومات أو السلع أو الخدمات المرتبطة بالحقوق الجنسية والصحة الإنجابية.

التزامات الدول تجاه العنف القائم على النوع ضد المرأة وفقًا للتوصية (35)

تشير التوصية إلى أن العنف القائم على النوع الاجتماعي الموّجه ضد المرأة، يعتبر وفقًا للمادة (1) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، شكلًا من أشكال التمييز ضد النساء الذي يجب على الدول الأطراف الالتزام باتباع سياسة ترمي إلى القضاء عليه، وتشدد اللجنة في التوصية على أن هذا الالتزام لا يقبل التأخير.

وعلى الصعيد التشريعي على وجه الخصوص، تنص التوصية على أن الدول الأطراف يتعين عليها أن تعتمد تشريعات تحظر جميع أشكال العنف القائم على النوع ضد النساء والفتيات، وأن تعدل القوانين الوطنية بما يتماشى مع اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وأن تلغي جميع القوانين التي تسبب أو تعزز أو تبرر العنف القائم على النوع أو تعمل على إدامة الإفلات من العقاب على تلك الأفعال، ومنها القوانين التي تستند إلى مواقف تمييزية أو نمطية أو ممارسات تسمح بالعنف القائم على النوع ضد المرأة، مما يؤدي إلى تخفيف الأحكام.

فضلًا عن ذلك، تضع التوصية على عاتق الدول الأطراف مسؤولية منع التقصير التنفيذي والتشريعي والقضائي الذي قد يمثل عنفًا قائمًا على النوع ضد المرأة، وهو ما يعني كفالة عدم تمييز القوانين والسياسات والبرامج والإجراءات ضد المرأة. كما تلزم التوصية الدول الأطراف بتوفير الخدمات ميسورة التكلفة والمناسبة لحماية المرأة من العنف القائم على النوع الاجتماعي ومنع تكراره.

وعلى الصعيد القضائي، تعتبر التوصية أن جميع الدول الأطراف يقع عليها مسؤولية إلزام جميع الهيئات القضائية بالامتناع عن مباشرة أي عمل تمييزي أو ممارسة تمييزية أو عنف قائم على النوع ضد المرأة، وتؤكد التوصيـة على حتمية أن تطبق الهيئات القضائية بدقة جميع أحكام القانون الجنائي التي تعاقب على العنف القائم على النوع وفقًا لإجراءات محايدة ونزيهة، لا تتأثر بالقوالب النمطية الجندرية أو التفسير التمييزي للأحكام القانونية.

في صياغتها لهذه التوصية، تتبنى لجنة القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (لجنة سيداو) رؤية تقاطعية، إذ تعترف بتعددية وتقاطع أشكال التمييز، وتوصي بضرورة إشراك المرأة في وضع وتنفيذ التدابير التي من شأنها التعجيل بالقضاء على العنف القائم على النوع ضد المرأة، مع مراعاة الحالة الخاصة للنساء المتضررات من الأشكال المتداخلة للتمييز.