مهدت اللجنة التشريعية في مجلس النواب المصري، في الـ27 من يونيو الماضي، الطريق أمام الإقرار النهائي لمشروع قانون جديد مقدم من الهيئة البرلمانية لحزب مستقبل وطن، بعد أن وافقت على ما طرحه من تعديلات على بعض مواد قانون العقوبات، تحديدًا تلك الخاصة بجريمة التحرش الجنسي.

تُحوّل هذه التعديلات الجريمة من جنحة إلى جناية، مما يعني تشديدًا للعقوبة، إذ بات نص المادة «306 مكرر أ» من قانون العقوبات هو «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تجاوز أربع سنوات وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على مائتي ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من تعرض للغير في مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية سواء بالإشارة أو بالقول أو الفعل بأية وسيلة، بما في ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية أو الإلكترونية أو أي وسيلة تقنية أخرى»، بينما كانت العقوبة قبل التعديل الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، والغرامة التي لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.

كذلك صار نص المادة «306 مكرر ب» من القانون ذاته «يعد تحرشًا جنسيًا إذا ارتكبت الجريمة المنصوص عليها فى المادة 306 مكرر أ من هذا القانون بقصد حصول الجاني من المجني عليه على منفعة ذات طبيعة جنسية ويعاقب الجانى بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن مائتي ألف جنيه ولا تزيد على ثلاثمائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين»، وذلك بعد أن كانت العقوبة في هذه المادة الحبس مدة لا تقل عن سنة والغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد عن عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.

وتأتي هذه التعديلات بالتزامن مع تصاعد الاحتجاج النسوي ضد العنف الجنسي، عبر قنوات عديدة شقتها النساء في ساحات الفضاء الإلكتروني، كالحكي المجهل وفضح المعتدين عبر مدونات أو صفحات متخصصة في استقبال ونشر هذا النوع من الشهادات، أو تصوير الناجيات للجرائم التي يتعرضن لها ونشر المقاطع عبر مواقع التواصل الاجتماعي لفضح المعتدين، فضلًا عن زيادة إقدام الفتيات على تصوير هذه المقاطع لاستخدامها كأدلة إدانة في الإثبات الجنائي، وقد نجح العديد منهن خلال الشهور الأخيرة في الحصول على أحكام ضد المعتدين، إذ حصلت إحدى الفتيات على حكم، في شهر إبريل الماضي، ضد متحرش قام بالاستمناء أمامها داخل إحدى عربات مترو الأنفاق، بعد أن تقدمت ببلاغ رسمي دعمته بمقطع صورته بكاميرا هاتفها النقال لتوثيق الجريمة. وقد قضت المحكمة بحبس المتحرش ثلاث سنوات مع الشغل والنفاذ وتغريمه عشرين ألف جنيه.

وفي شهر يونيو الماضي، نجحت فتاة في الحصول على حكم قضائي ضد أحد العاملين بمطار القاهرة الدولي، بعد أن تعمد تصوير أجزاء من جسدها بكاميرا هاتفه النقال من دون موافقتها، وقد صدر الحكم في هذه القضية مماثلًا للحكم في القضية السابقة، وهو الحبس ثلاث سنوات مع الشغل والنفاذ، وغرامة قدرها عشرين ألف جنيه.

إضافة إلى ذلك، ألقت القوات الشرطية، في نهاية شهر يونيو الماضي، القبض على شخص تحرش لفظيًا بفتاة في حي العمرانية ثم صفعها على وجهها بعد أن حاولت أن توقفه عن تعقبها، وذلك بعد أن تقدمت الناجية ببلاغ ضده، مستندةً إلى مقطع لإحدى كاميرات المراقبة يسجل تفاصيل الحادثة.

لكن هذه الجرائم التي انتقلت إلى أروقة المحاكم وصدرت فيها أحكام ضد المتحرشين تمثل نسبة ضئيلة، بالمقارنة مع جرائم التحرش الجنسي التي تقع يوميًا ويلوذ مرتكبوها بالأمان بسبب عدم الإبلاغ عنها. وقد كشفت دراسة أجراها مركز تدوين لأبحاث النوع الاجتماعي في العام 2020، أن 95% من عينة الدراسة التي تمثل النساء في شتى المحافظات المصرية، لم يبلغن أي جهة عن الاعتداءات الجنسية التي تعرضن لها، بما في ذلك الجهاز الشرطي والخطوط الساخنة المخصصة لهذا الغرض.

في الغالب، يقف وراء انصراف النساء عن الإبلاغ عن جرائم التحرش الجنسي، الخوف من صعوبة إثبات التهمة، أو التحسب للوصم الاجتماعي، أو  تهديد المعتدين لهن، ومن ثم يسفر التلاحم بين عدم الإبلاغ، والثغرات القانونية، والتبرير المجتمعي، في استمرار تفشي هذه الجرائم. وتدلل دراسة سابقة لشبكة الباروميتر العربي البحثية على الانتشار الواسع للتحرش الجنسي في مصر، إذ تكشف أن 63 في المئة من المصريات تعرضن لأحد أشكال التحرش خلال العام 2018، و90 في المئة ممن تتراوح أعمارهن بين 18و29 عامًا تعرضن للتحرش، وتنخفض النسبة انخفاضًا لا يُذكَر بين من هن في الفئة العمرية (30-39) عامًا، إذ تبلغ النسبة 88 في المئة.

اللافت أن هذه الأرقام تعكس الواقع في مصر، بعد خمس سنوات من تجريم التحرش الجنسي، ليتأكد معها أن التعديلات التي أدخِلَت على قانون العقوبات في العام 2014 واعترفت بالتحرش الجنسي جريمة، لم تكن كافية لإحداث تغيير أو تأثير بادٍ، وبناءً على ذلك، قررت الدولة مواجهة هذا الواقع المأزوم بحل يتلخص في تغليظ العقوبة، ولذا كانت السرعة في إدخال التعديلات الأخيرة والموافقة عليها.

من المفترض أن يسبق كل خطوة تُتخذ لمعالجة أزمة ما، نقاش مجتمعي لتحديد احتمالات النجاح والتطور أو للوقوف على الإشكاليات الرديفة لها، إلا أن هذه التعديلات لم تأتِ بعد حوار مجتمعي، ولذلك جاءت التساؤلات عقب الإعلان عن الموافقة عليها، ويعد أكثرها ترددًا هو التساؤل بشأن ما إذا كان تشديد العقوبة هو السبيل الأمثل للحد من انتشار جرائم التحرش الجنسي، ومثلما ظهرت إجابات مؤيدة ومتفائلة، برز توجس وقلق من تبعات التغليظ في هذا النوع من الجرائم التي لا يزال قطاع واسع من المجتمع يبررها ويرفض تجريمها القانوني، إذ تجدر الإشارة إلى أن جريمة تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية الخارجية (تشويه الأعضاء الجنسية للمرأة) التي يتصالح أيضًا معها كثيرون في المجتمع، لم يسفر تغليظ العقوبات ضدها عن تغيير ملموس، سواء على صعيد الإبلاغ عنها أو فيما يخص ردع مرتكبيها والمروجين لها.

كان القانون المصري قد جرّم تشويه الأعضاء الجنسية للإناث (المعروف باسم: ختان الإناث) في العام 2008، ومع ذلك ظلت نسبة الانتشار شديدة الارتفاع, إذ تبين في العام 2015، أن نسبة إجراء الممارسة بين الفتيات والنساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 15و49 عامًا تبلغ 87.2 في المئة، وفقًا لبيانات المسح السكاني الصحي (2015).

وتصديًا لذلك التفشي، غلّظت الدولة العقوبات في هذه الجرائم، مرتين وليس مرة واحدة، كانت الأولى في العام 2016 حيث تحوّلت الجريمة من جنحة إلى جناية، ورغم ذلك ظل الإبلاغ عنها محدودًا وانتشارها كثيفًا، وهو ما دفع البرلمان إلى تغليظ العقوبة مرة ثانية في إبريل الماضي، ظنًا بأن التشديد وحده هو الحل.

الطريق التي اختارتها مؤسسات الدولة لمواجهة تشويه الأعضاء الجنسية للمرأة، هي ذاتها التي قررت اتباعها مع التحرش الجنسي، والواضح أن هذا الاختيـار يتغافل عن العديد من المثبطات التي تعرقل التغيير.

التغيير يحبطه عدم تفعيل وتسهيل إجراءات الإنفاذ

لا بد أن يشهد الإبلاغ عن جرائم التحرش الجنسي زيادة، وأن تحصل الناجيات على أحكام ناجزة ورادعة، حتى يثبت أن تغليظ العقوبة قد حقق المرجو منه فيما يخص ردع المتحرشين وتضييق الخناق على هذه الجرائم.

لكن زيادة الإبلاغ تتحقق بثقة الناجيات في الإجراءات المحيطة به، ومنها على سبيل المثال حماية سرية بياناتهن، وهي مسألة غائبة، حتى بعد استحداث مجلس النواب، قبل عام تقريبًا، لمادة جديدة في قانون الإجراءات الجنائية برقم  (113 مكرر)، لضمان سرية بيانات الناجيات في جرائم التحرش والاغتصاب، وذلك لأن هذه المادة لا توفر حماية متكاملة للمبلغات، وعقوبة خرقها تعد هزيلة جدًا، حيث تقتصر على «الحبس مدة لا تزيد على 6 شهور أو الغرامة التي لا تتجاوز 500 جنيه.»

وقد بدا جليًا هشاشة هذه المادة التشريعية عند اختبارها في قضية تحرش جماعي، وقعت في مدينة ميت غمر خلال شهر ديسمبر الماضي، إذ نشـر محامي العناصر المتهمة بالتحرش بيانات الناجية عبر الإنترنت.

أحد الأسباب أيضًا التي تدفع باتجاه قلة الإبلاغ هي معاناة الناجيات أثناء الإدلاء بأقوالهن، نتيجة افتقار العاملين بجهات التحقيق إلى التدريب على  أسس التعامل الحساس مع الناجيات من جرائم العنف الجنسي، التي يأتي في صلبها التحرر من الأحكام الشخصية والأخلاقية، والتعامل بحيادية مع المبلغات، والتحلي بالمهارات اللازمة أثناء توجيه الأسئلة.

التغيير يؤخره تشتت النصوص القانونية

لم (ولن) تعالج التعديلات المتلاحقة على القوانين جميع الثغرات التي يستغلها المعتدين وترهق الناجيات، والتي يرجع كثير منها إلى تفرّق المواد التشريعية الخاصة بكل جريمة بين قوانين عدة.

ونتيجة لذلك، طرحت تسع منظمات نسوية ،قبل خمس سنوات، إطارًا قانونيًا موحدًا للتعامل مع جرائم العنف ضد النساء، فدشنت تحالفًا باسم «قوة العمل من أجل قانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء»، وأطلقت من خلاله مشروع قانون يوّسع ويحدّث تعريفات العنف ضد المرأة، ويغطي مختلف جرائمه في سبعة فصول، من بينها فصل خاص بالجرائم الجنسية، وفصل للعنف الأسري، وفصل لجرائم خطف النساء والأطفال واستغلالهم، وفصل لجرائم الإسقاط القسري للحوامل.

كما أعلنت أيضًا رئيسة المجلس القومي للمرأة، في العام 2017 الذي حمل اسم «عام المرأة المصرية»، أن المجلس يعمل على إعداد مشروع قانون متكامل لمناهضة العنف ضد النساء، وبعد الانتهاء من صياغته أرسله المجلس إلى البرلمان، إلا أن مناقشته لم تبدأ حتى يومنا هذا، والحديث حول مناقشته يكاد يكون منعدمًا.

أهم ما يميز الإطار القانوني الموحد ضد مختلف جرائم العنف القائم على النوع الاجتماعي، هو معالجة تناثر المواد التي تختص بكل جريمة، فتصبح جرائم الاعتداء الجنسي وعقوباتها مشمولة في باب مستقل، بما ييسر على الناجيات والمحاميات والمحامين الممثلين لهن من ناحية، ويحد من الثغرات التي تُمكّن المعتدين من الإفلات أو انتزاع عقوبات مخففة من ناحية أخرى.

وقد تضمن مشروع القانون الذي أنجزته «قوة العمل من أجل قانون موحد لمناهة العنف ضد النساء»، بابًا شاملًا للجرائم الجنسية يتعامل مع شتى درجات الاعتداء الجنسي، بدلًا من التشتت القائم حاليًا الذي يجعل التعاطي مع جريمة التحرش الجنسي، متوزعًا بين المواد «306 مكرر أ»، و«306 مكرر ب»، و«267» من قانون العقوبات، والمادة «113 مكرر» من قانون الإجراءات الجنائية، فضلًا عن المادة «17» من قانون العقوبات التي يلجأ إليها بعض القضاة لتخفيف العقوبات في جرائم العنف ضد النساء، لما تخوّله لهم من سلطة النزول بالعقوبة المقررة للجناية درجة واحدة أو درجتين «إذا اقتضت أحـوال الجريمة المقامة من أجلها الـدعوى العمومية رأفة القضاة».

التغيير يعوقه غياب التناسب بين حجم الفعل ودرجة العقوبة

يعد مبدأ تناسب العقوبة مع الجريمة من أهم المبادئ الجنائية، التي تهدف إلى تحقيق الردع، ويرى منتقدو  التعديلات الجديدة أنها لا تنطلق من هذا المبدأ، لأن العقوبة في جريمة التحرش اللفظي بموجب النصوص المُحدّثة ستصل إلى الحبس سنتين وربما أكثر، وهو ما يتوقع المتشككون في فاعلية التعديلات الأخيرة أن يعارضه المجتمع بما فيه القضاة. واستنادًا إلى ذلك، قد يزيد استعمال القضاة للمادة «17» من قانون العقوبات، والمعروفة باسم «مادة الرأفة» في قضايا التحرش الجنسي.

كما تذهب بعض الانتقادات إلى العلاقة بين مضاعفة العقوبة وزيادة احتمالية انتقام المعتدين وذويهم من الناجيات، خاصة في ضوء غياب آليات صارمة وقاطعة لحماية المبلغات في هذه الجرائم، وهو ما قد يجبر كثيرات منهن على التنازل عن البلاغات.